ما أثر موروث الاستعلاء الديني في الزواج المختلط؟

ما أثر موروث الاستعلاء الديني في الزواج المختلط؟


29/11/2020

الاستعلاء الديني في عمومه هو حالة شعور الجماعة بالتفوّق الفطري للعقيدة الدينية التي ينتمون إليها، ويُشار إلى هذه الظاهرة في علوم الأنثروبولوجيا بـReligious Exclusivism أو التفرّد الديني؛ أي شعور المرء بأنّ دينه أكثر حكمة من الأديان الأخرى، كما تتم دراسة تلك الظاهرة الشعورية من خلال نظرية مركزية الدين؛ أي إيمان أتباع عقيدة ما بأنّ دينهم هو مركز الكون الذي لا بدّ أن تنصاع إليه البشرية؛ أي إنّ الاستعلاء الديني ما هو إلّا شعور نفسي بأفضلية مستحقة.

 نقد مركزية الدين في كتابات رافيل باتاي والبيروني

استحوذت هذه الفكرة على أعمال بحثية عديدة في مطلع القرن العشرين، من أشهرها دراسة لعالم الأنثروبولجيا الأمريكي من أصل مجري (رافيل باتاي)، الذي صاغ نظرية مفادها أنّ الديانات التوحيدية المنتشرة ما بين الشرق الأوسط وأوروبا، تُقرّ نصوصها بالتفوّق الديني، بخلاف ديانات الشرق الأقصى، وهو ما أثار جدلاً كبيراً، حتى في أوروبا والولايات المتحدة.

لكن من قبل (باتاي)، قام الفيلسوف والمؤرخ المسلم (البيروني) المولود في خوارزم  (أوزبكستان اليوم) بدراسة للأديان الهندوسية والبوذية والزرادشتية، في القرن الـ11 الميلادي (أي قبل 1000 عام).  

استطاع البيروني تقديم دراسة عن أديان الشرق الأقصى بشكل يخلو من نزعة استعلاء إيمانية

 واستطاع البيروني أن يقدّم دراسة عن الأديان في الشرق الأقصى، بشكل يخلو من نزعة استعلاء إيمانية، وإن أقرّ بأفضلية معتقده الإسلامي في إطار شخصي، إلّا أنّ البيروني كتب عن تلك الأديان في إطار إنساني واجتماعي، بل ذهب به الأمر إلى تحليل العلاقة المتوترة بين الهندوس والمسلمين إلى أنّ ريبة الهندوس وتخوفاتهم ناتجة عن هجمات الجيوش الإسلامية على بلدانهم، واتخاذ الجيوش أسرى من الهندوس، والعودة بهم إلى بلاد فارس، كما جاء في دراسته الأشهر (تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة)؛ أي إنّ البيروني وضع انحيازه العقائدي جانباً في هذه القضية. 

الاستعلاء الديني ما بين الحياة الدنيا والآخرة

يمكننا في هذا الإطار رصد إطارين أساسيين لظاهرة الاستعلاء الديني: الأوّل يرى صاحبه أنّ دينه ومذهبه هو الخلاص الأوحد في دار الآخرة، والذي سيحميه من العذاب الأليم دون غيره، بينما سيهلك الآخرون في الأبدية، وعلى الرغم من أنّ هذا التصور يقع في إطار حق الاعتقاد، إلّا أنّ إشكاليته تتجلى إذا تمّ استخدامه في رسائل كراهية ضد أصحاب العقائد المغايرة، وتوعدهم بالهلاك الأبدي.

اقرأ أيضاً: هل استعلاء الإخوان على الناس فكرة طارئة؟

أمّا الإطار الثاني، فهو الأكثر تعقيداً؛ لأنّ الاستعلاء الديني الدنيوي؛ أي الذي يمارسه الفرد على غيره في الحياة الدنيا قد يتحوّل إلى أداة لتقييد الحرّيات الشخصية، هنا تتحوّل فلسفة الأفضلية الدينية إلى أداة لتقييد حرّيات الآخرين، وإن كانوا ينتمون للعقيدة الدينية نفسها.

 فيتحوّل الاستعلاء باسم الدين إلى ظاهرة تحمل تداعيات مجتمعية، خاصة إذا كان الاستعلاء الديني يتبنّاه العقل الجمعي للمجتمع أو يتبنّاه القانون، وهو ما يؤدي إلى ظاهرة "شرعنة الاستعلاء" و"تقنينه"، وهو ما يُمكن التعبير عنه بالرغبة في بلوغ الجنّة، عن طريق التحكم في حياة الآخرين على الأرض.

الاستعلاء الديني وأثره في رفض الزواج المختلط

الشعور بالأفضلية الدينية قد يبدو رماداً خامداً، طالما تعيش التجمّعات الدينية في خطوط متوازية، وتتباهى بالقدرة على الاندماج المجتمعي أو الوطني، لكن حالما تتقاطع تلك الخطوط في إطار الزواج ما بين أصحاب العقائد المختلفة، تعود ظاهرة الاستعلاء الديني إلى الظهور من تحت الرماد، بشكل صريح تارة وضمني تارة أخرى، وإن كان من ينهون عن الزيجات المختلطة يبرّرون مواقفهم في إطار عدم التوافق بين الأديان فلسفياً. هنا تتناسى المواقف الرافضة أنّ رغبة الزواج بين شخصين من ديانتين مختلفتين، والتي غالباً ما تكون لأسباب العاطفة والتوافق الإنساني العابر للأديان، لا تهدف بالضرورة للتوافق على المروّيات الدينية.

الاستعلاء الديني الذي يمارسه الفرد على غيره في الدنيا قد يتحوّل إلى أداة لتقييد الحرّيات الشخصية

إنّ رفض الزواج المختلط ليس حكراً على أتباع عقيدة دينية بعينها، وهنا يُمكن التمييز بين نمطين من الرفض العقائدي للزواج المختلط، إمّا الرفض للجنسين، وإمّا الرفض على أساس جندري.

فهناك عقائد دينية يرفض أصحابها مباركة الزواج المختلط بشكل عام، ويسري الأمر على النساء والرجال، وهناك عقائد أخرى يرفض أصحابها مباركة الزواج المختلط في إطار جندري؛ أي رفض زواج المرأة برجل على غير دينها، بينما تسمح العقيدة ذاتها للرجل بالزواج من امرأة على غير دينه، في إطار مشروط أو حتى مكروه، لكن معترف به في نهاية المطاف ثقافياً ودستورياً ، كما هو الحال في التشريعات الإسلامية.

جوانب الإشكالات في الجدل الفقهي

تمّ استخدام لفظ أصحاب العقيدة، وليس العقيدة ذاتها، لأسباب بحثية، وذلك بسبب الخلاف القائم بين تأويلين: أحدهما يتمتّع بسلطة التشريع ويحتكم للتأويلات الفقهية الرافضة لزواج المسلمة بغير مسلم، والآخر تأويل اجتهادي، لا يملك سلطة تشريعية، ويذهب إلى خلوّ النص الديني ممّا يُحرّم تلك الزيجة بشكل مباشر.

 ويحمل هذا الجدل الفقهي الكثير من الجوانب الاشكالية، حيث يحلّ للمسلم الزواج من المسيحية واليهودية وتحرّم عليه المشركات، ويعني ذلك علوّ المسيحيات واليهوديات، حسب النصّ الديني، على النساء المشركات. لكن يُحرم على المسلمة الزواج من المسيحي واليهودي  والمشرك، ويعني ذلك وضع المسيحي واليهودي في منزلة المُشرك، وهذا جانب بسيط من الجدل الفقهي وثغراته.

اقرأ أيضاً: تركيا وإيران.. الاستعلاء القومي بغطاء ديني

وهذا التفسير لا يعني أننا نسعى للتمييز بين العقائد (أيّاً كانت، سواء دينية أو لا دينية) وإنما نسعى لرصد الجدل من منطلق بحثي، وإخضاعه للمنهج الأكاديمي المتحرّر من أيّ انحياز عقائدي. 

 وعليه، فإنّ الإطار الفقهي الجدلي منذ قرون ليس بالضرورة هو الهدف هنا، وإنما قد يكون الهدف من هذه السطور فهم أثره على تصوّرات المؤمنين عن العلاقة الجسدية في إطار علو دين على آخر، فهل هناك علاقة بين تصوّرات التفوّق الديني، وتصوّرات العلاقة الجسدية بين رجل وامرأة؟  

التفوّق العرقي والديني وتصوّرات السيطرة الجسدية على النساء

التفوّق العرقي أو الديني على الآخرين قد يتجلّى في صور مختلفة، ومن بينها تفوّق عرق أو دين (متمثل في جسد رجل) على عرق أو دين آخر (متمثل في جسد امرأة)، وهذه الظاهرة ليست مستحدثة، بل يمكن رصدها في تاريخ البشرية لأسباب تتعلق بممارسة الاستعلاء العرقي.

اقرأ أيضاً: استعلاء الإيمان.. الإسلام السياسي وبناء الشعور بالأفضلية والاشمئزاز من الآخر

على سبيل المثال، لم تعد مواقعة السيد الأبيض لعبدة أفريقية جريمة، قبل تجريم الرقّ في أمريكا، لكنّ الأمر كان له جانب آخر بخلاف تبرير العبودية، فالعلاقة كانت تتمّ من خلال  تصوّرات تفوّق العرق الأبيض على الأفريقي، أمّا العكس، أي العلاقة بين رجل أفريقي وامرأة بيضاء، فقد كان يُعدّ انتهاكاً، وإن كانت العلاقة بالتراضي، أي تخلو من الاغتصاب، لأنّ العرق الأفريقي الأدنى (حسب تصوّرات العبودية) ينبغي ألّا يعتلي جسداً ينتمي لعرق أسمى. وقد تعرّض الأديب الأمريكي "John Jakes"  لهذه الظاهرة من خلال ثلاثية بدأها في العام 1982 تحت عنوان: (شمال وجنوب) و(الحبّ  والحرب) و( الجنّة والجحيم).

اقرأ أيضاً: عندما ثارت القرية ضدّ استعلاء جماعة الإخوان المسلمين على ثقافتها

قياساً على ذلك، فإنّ نظرية التفوّق العرقي قد لا تختلف عن فلسفة التفوّق الديني في تصورات بعض المؤمنين، حيث يتراءى للبعض أنّ صاحب العقيدة الأسمى أو الدين الحق، يحقّ له أن يواقع امرأة تنتمي لديانة أدنى (حسب تصوراتهم).

وحسب التصورات نفسها، لا يحقّ للمرأة المسلمة الزواج من غير المسلم، حتى لا يعتلي صاحب الدين الأدنى جسد امرأة مؤمنة، وإن كانت الرغبة هي الارتباط بالزواج. هكذا يتحوّل الأمر من علاقة إنسانية إلى تصورات عن انتهاك الجسد، لذا قد تكون هناك علاقة بين الاستعلاء الديني والاعتلاء الجسدي في الموروثات الشعبية، والتي لا يُمكن فصلها تماماً عن تاريخ التأويلات العقائدية.

مسلمات يُثرن جدلاً واقعياً لا افتراضياً

الجدل المستمر بشأن زواج المسلمة من غير المسلم قد يكون جدلاً افتراضياً على مواقع التواصل الاجتماعي، فتنتهي حدوده عند التحريم في البلاد التي تستمدّ قوانين أحوالها الشخصية من الشريعة الإسلامية المعتمدة، فلا يُعدّ فيها الزواج شأناً مدنياً خالصاً، لكنّ الجدل قد يتخذ شكلاً واقعياً في بلاد أخرى يلجأ فيها المواطن للقانون المدني، مثلما فعلت "سلمى" البريطانية وهي مسلمة وزوجها "بيم" الهولندي وهو مسيحي، وكلٌّ منهما بقي على دينه بعد الزواج، ولم يشكّل الأمر عائقاً حسب إفادتهما، ولم يشكّك "بيم" في معتقد زوجته الإسلامي، حسب ما يتمّ تداوله من تبريرات فقهية، لرفض الزيجات من هذا النوع.

اقرأ أيضاً: لعنف في بنية الحركات الإسلامية.. الاستعلاء الإيماني

 لفتت هذه القصة الانتباه في بريطانيا، ليس لكونها الوحيدة، فزواج المسلمات من غير المسلمين يتزايد، حسب مؤسسة أوكسفورد الإسلامية التعليمية في بريطانيا، ولكن بسبب رغبة العروس في إقامة مراسم دينية إسلامية إلى جانب التوثيق المدني، فلجأت إلى الإمام "تاج هارغي" لعقد القران من قبل المؤسسة ذاتها.

 يتعرّض هذا الحراك للنقد من بعض المسلمين في بريطانيا، لكنّ النقد ينتهي عند حدود الامتعاض، ولا يدخل في إطار الوصاية الدينية، وهذا بسبب الطبيعة المدنية للأحوال الشخصية في المقام الأوّل، التي تفصل بين التوثيق المدني الرسمي في قانون الأحوال الشخصية، وبين المراسم الدينية التي تتخذ شكل الاحتفالات أو الإشهار، سواء في الدين الإسلامي أو المسيحي أو غيرهما، أي تغيب عن هذه الزيجات المختلطة فرضية علوّ معتقد على الآخر، على الأقل حسب رؤية الزوجين.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية