بعد قراءة البيان أو "المانيفستو" الذي كتبه منفّذ الهجوم الإرهابي في نيوزيلندا، برينتون تارانت، والمتكون من ست وسبعين صفحة، يُلاحظ بدايةً أنّه ليس نصاً ساذجاً وإنّما كُتب بتماسك عالٍ، وأنّه يستند إلى اطلاع واسع لدى الكاتب، فمن الواضح أنّ تارانت يمتلك ثقافة عامة وتاريخية واسعة، وهو ليس مريضاً نفسياً، كما قد يبادر البعض لتوصيفه، بقدر ما يظهر بأنّه مؤمن بأيديولجيا عنصريّة جداً.
اقرأ أيضاً: الإمارات ترحل موظفا أشاد بهجوم نيوزيلندا
المشكلة "بُنيوية"، في رأيي، مرتبطة بنظام وبُنى، ليس فقط في أستراليا، وإنما في دول غربية عديدة، تتعلق بتزايد انتشار الأيديولوجيا "البيضاء" (Whiteness) والاعتقاد بتفوّق العرق الأبيض على سائر الأعراق، وهي موجّهة بالأساس ضد المهاجرين، ويتزايد مستوى الانتشار اطراداً مع تزايد مستويات الهجرة إلى هذه الدول. وللأسف، فإنّ وسائل الإعلام وبعض الأوساط السياسية اليمينية تقوم بتغذية هذه الأيديولوجيا والاستثمار فيها.
لا يمكن اعتبار الحادث منعزلاً وإنما هو مرتبط بنسق كامل خلقته النزعة القومية الإثنية البيضاء
إذاً نحن نتحدث عن حادث، ولكنه ليس منعزلاً، وإنما مرتبط بنسق كامل خلقته النزعة القومية الإثنية (Ethno-Nationalist) البيضاء، أو ما يمكن تسميته أيضاً بنزعة "الهيمنة البيضاء" (White supremacy). وما يؤكد على ذلك استشهاد ترانت باثنين من السياسيين، منهما "دونالد ترامب"، الرئيس الأمريكي الحالي، ولكن المثير للانتباه أنّ ما قاله بخصوص ترامب حمل وجهين؛ فهو يكيل المديح له بأنّه يقوم بما أسماه إعادة "رونقة" الهوية البيضاء، ولكنه، مع ذلك، في الوقت نفسه، أكّد بأنّه لا تروق له الكثير من سياسات ترامب في الحكم. وهو ما يظهر بأنّ هناك بُنية فكرية معقدة لدى تارانت؛ فهو ليس شخصاً بسيطاً، وليس مجرد مريض نفسي (Psychopath)، بقدر ما هو ظاهرة تحتاج إلى تحليل سوسيولوجي (اجتماعي) وسياسي.
اقرأ أيضاً: ماذا تعرف عن شخصيات بندقية منفذ هجوم نيوزيلندا؟
وللأسف، تظهر لنا هذه المذبحة، التي أودت بحياة 50 مسلماً وإصابة العشرات، كم من السهل ارتكاب مثل هذه الجرائم في بلاد تسمح ببيع السلاح دون ضوابط وقيود، وإلى أي درجة بات هناك تأثير لـ "ألعاب الفيديو" في نشر وتطبيع واعتيادية صورة الفعل العنيف وجعله يبدو فعلاً عادياً وطبيعياً يمكن القيام به بمنتهى السهولة. وكم هناك من تحريض وخطاب كراهية يتم بثّه عبر وسائل الإعلام المختلفة؛ فللخطاب الصحفي والأكاديمي مسؤولية اجتماعية؛ فالخط الفاصل بين النقد والتحريض جد دقيق.
ما أثار انتباهي حقيقة، حزم رئيسة الوزراء النيوزيلندية، جاسيندا أرديرن، ووعيها لخطورة مثل هذا الفعل الإجرامي ومدى تعاطفها الواضح مع الجالية المسلمة في بلادها.
أثار انتباهي في المانيفستو أنّ المجرم لا يعرّف نفسه البتة كشخص "مسيحي" متديّن
كما اطلعتُ على بعض التعليقات من قبل ممثلي الجالية المسلمة في نيوزيلندا، وفي الحقيقة هو أمر يستحق الإعجاب؛ إذ لا توجد هناك أي نزعة ثأرية لديهم، على العكس تماماً مما في جاء في "مانيفستو" المجرم المشحون بخطاب الانتقام والثأر التاريخي من المسلمين ووجودهم، وبالتحديد الثأر من دخولهم "العالم الغربي" من بوابة الهجرة واللجوء وتهديدهم له من الداخل فيما يسمّيه بـ "القنبلة الديمغرافية".
أمر آخر مهم أثار انتباهي في "المانيفستو"، لا بد من ذكره، هو أنّ المسلّح لا يعرّف نفسه البتّة كشخص "مسيحي" متديّن، وإنما ما يتبيّن هو وجود فراغ روحي شديد عنده، ويظهر أنّه يتبنّى رؤية ماديّة مدقعة، ولعلّ هذا الفراغ هو ما حفزّه لممارسة هذا الفعل الإرهابي العنيف الفظيع.
وتظهر من المانيفستو أيضاً قضايا أخرى؛ كمناهضة تارانت لـ "الإمبريالية"، وأنّه مؤيد لحقوق العمال، لكن البيض حصراً، وغيرها من القضايا، التي تُفصح عن مدى التعقيد في بعض آرائه.
اقرأ أيضاً: جاسيندا أرديرن تتعهد بعدم منح إرهابي نيوزيلندا ما يريده!
ومن الواضح أنّ هناك شيئاً مرتبطاً بنظام (Systematic) وبُنية المجتمع الأسترالي والمجتمعات الغربية عموماً التي يبدو أنّ مستوى التشجيع على الإسلاموفوبيا وأشكال العنصرية الأخرى قد ارتفع فيها.
في الخلاصة؛ أنظر لمنفّذ هجوم نيوزيلندا كنموذج ونِتاج لحداثة أصبحت مريضة في عصر الرأسمالية المتأخرة التي فعلاً جعلت الكثير من الناس بدون بُنى اجتماعية متينة وحامية وحاملة لهم ومعبّرة عنهم.