لو يعلم زهير النوباني حجم الكراهية التي اختزنتها له أمي، لربما هاله ذلك. كانت تتفنّن في الدّعاء إلى الله بأن يأخذه أخذ عزيز مقتدر، وأن يقصف عمره، وكانت من شدّة انفعالها تبكي، متعاطفة مع "شوفة"/ ريم سعادة في مسلسل "الغريبة" لمحمد عزيزية، وتدعو لها بالصّبر على مؤامرات "بطيحان"/ زهير النوباني، الذي نال من الشتائم والأوصاف القبيحة، ما جعلني أحتفظ بصورة للنوباني متماهية مع صورته الشرّيرة في المسلسلات البدويّة، خصوصاً. وكنتُ أعتقد، وأنا ابن خمسة عشر عاماً، أنّ زهير النوباني والشرّ وجهان لعملة واحدة.
لم يشأ النوباني أن "يلوّث" اسمه طمعاً في نجوميّة زائفة أو ربح وفير فانتصر للمعنى وكسب الرهان على الجودة
وشاءت الأقدار أن نصبح زهير وأنا صديقين، لكنّ ما فاتني وأندم عليه كثيراً أنّ أمي رحلت وهي على كراهيتها لزهير، ولم يخطر في بالي أن أصالحهما، وهو ما كان يحتاج إلى مشقّة ربما لا تنجح المساعي فيها، فقد آلم زهير أمي كثيراً، وأصابها في الصميم، وأبكاها، وجعلها مرّات عديدة لا تأكل "لأنّ بطيحان سدّ نفسها عن الطعام"، وذات مشهد يتسلّل فيه "بطيحان" إلى بيت "شوفة" ويتصاعد الجدل بينهما، فتشهر "شوفة" البارودة في صدر "بطيحان"، فيما صوت أمي يتعالى بتوتّر دراميّ ويحرّضها: "طخّيه.. طخّيه. شو بتستني، يلا. طخّيه الخاين، الجبان، النذل، وناكر المعروف". وحين يضحك "بطيحان" بخبث، تردّ أمي على الفور: "ضحكة بدون أسنان"!
ولعلني على يقين بأنّ بداية الثمانينيات من القرن الماضي شكّلت جبهة شعبيّة من الأمهات والجمهور المعادي لزهير النوباني، وبعضهم، مثل أمي، لم يفصل بين الدراما والحياة؛ لأنّ زهير النوباني بأدواره اللئيمة قد جسّد الشرّ في ذروته الشّاهقة التي تماهت فيها الصّورة مع الأصل والتمثيل مع الواقع، وهذه معجزة الفنّان في شبابه.
اقرأ أيضاً: "نمر بن عدوان" يترجل ..وداعاً ياسر المصري
ماتت أمي على كراهية زهير النوباني، لكنّ ابنها سيموت على حبّه وفي حبّه، فقد اكتشفتُ في زهير، لما اقتربتُ منه أكثر وأكثر وسهرنا معاً وتنادمنا أنّ هذا الرجل من أنقى الناس وأكثرهم طيبة وندى. وعثرت في شخصيته على عاشق نادر، ومتمرّد يهوى العصيان والخروج من الصناديق وتحطيمها. كان يفعل ذلك بهدوء ومن دون جلَبَة؛ لأنّ هذا الحيّز يشعّ أكثر كلما ضاق أكثر، فكان "أبو الليث" يقطّر المسرة في قلوب أصدقائه، ويجعل المساءات فيّاضة بالأنس والعبير.
ومن دون استعراض، يسلكه غالبيّة الفنّانين والمثقّفين، يتقدّم إليك زهير النوباني بخفّة عصفور بلّله الغيث، ليأوي إليك إنْ هو استحسنَ فيكَ شيئاً هو فيه، فتشبّ نار الصداقة في لحظة تحسبها دهراً، ويشرق الفنّان بطيبته وعذوبته، ويكشف عن ثقافته وشجاعته واعتداده بنفسه كمبدع مقاتل لم يساوم، ولم يبعْ نفسه، ولم يبغِ السلطة. حسبه أن يكون فنّاناً حرّاً مستقلاً مرتبطاً بقضايا شعبه ونبض مجتمعه.
اقرأ أيضاً: القضاء الأردني ينتصر للفن ويُعيد أسماء مصطفى إلى مسرح النور
وفي الدروب التي يسلكها زهير النوباني، وهي كثيرة وجريئة ومتقدّمة عمن سواه من الفنانين الأردنيين والعرب، تلمح في خلجات صدره، نزوعاً فكرياً متقدّماً يقدّس الحريّة والتعدّدية ويصون حقّ المختلفين معه في الرأي على قاعدة أنّ للجميع حصةً من التّعبير السلميّ المدنيّ الذي ينشُد التغيير والتنوير، وإضاءة شمعة في الممر المعتم.
ولن أستغرق في التبرّم من عدم عناية الدّولة الأردنيّة بالفنانين، وعدم توفير المجالات الحيويّة لجعلهم نجوماً، وهم الذين صدّروا الدراما للعالم العربي، فهذا وجع له أحزانه الكثيرات وله شجون تستدعي التوجّس والظنون، لكنّني أعتقد أنّ نجومية الفنّان المحليّ في بلده تعادل نجوميّة الفنّان العالميّ، فالفارق بينهما ضئيل يتصل بمزيد من الإشعاع الاصطناعي، وأضواء الكاميرات، ولمعة الفلاشات، لكنّ الأصالة تكون في الدّربة والمهارة وتجسيد الأداء على نحو إبداعيّ مبتكر، وهو ما يشهد للنوباني فيه الكثيرون من زميلاته وزملائه الذين يوفونه حقه، ويُعلونه في المرتقى الشاهق.
يكفي النوباني أنّ عباراته في المسلسلات التي قدّمها أصبحت جزءاً من التداول الشعبيّ وبعضها تحوّل إلى "رنّات" موبايل
ويكفي النوباني أنّ عباراته في المسلسلات التي قدّمها، أصبحت جزءاً من التداول الشعبيّ في الأردن، وبعضها تحوّل إلى "رنّات" موبايل، رغم أنّ بعض تلك العبارات قُدّمت في أدوار ثانويّة وخاطفة، لكنّ زهير طبعها بعبقريّته وأدائه الساحر، ولم يتعالَ على دور قصير أو طويل؛ لأنّ العبرة في الباقي العابر للتّاريخ والمستقرّ في الذاكرة والوجدان، وتلك فضيلة أخرى تضاف إلى مناقب الفنّان في اكتمال قمره.
وفي جُعبة زهير النوباني الكثير من الذكريات التي تصلح أن يعلمها الذاهبون إلى نجومية بأي ثمن، فهو يحدّق في المعاني والدّلالات وفي بواطن الأمور، كما يحدّق بعينه الخبيثة إلى محدّثه في مسلسل أو عمل فني، وكأنه يقول له إنني أعرف ما تخبئه من أسرار، لذا لم يندم على رفضه العمل برفقة نجم كبير مثل عادل إمام، لا لأنّ زهير يعتبر نفسه أهم من عادل إمام، كما يفعل ربما بعض الواهمين، بل لأنّه استشعر في العمل المقدم له ضعفاً وركاكة ومعالجة مسيئة للقضية الفلسطينية، كما استشعر ضآلة في المعالجة العميقة وضحالة في الدراما، ولم يشأ أن "يلوّث" اسمه، طمعاً في نجوميّة زائفة أو ربح وفير، فانتصر للمعنى، وكسب الرهان على الجودة.
كنت أودّ لو أخبر أمي بمحاسن زهير النوباني، ومواقفه الوطنيّة، وطيبته الشاسعة، ومحبّته الصافية، وخلوّ قلبه المتعب من الضغينة والشرّ والفساد، ولكنّ الموت عاجلَ السيدة، التي يتذكّر ولدها مشهدَ "بطيحان" وهو يطلب من "شوفة" أن ترحّب به كضيف وتصبّ له القهوة، فتقول له "شوفة": القهوة باردة، فتجيبها أمي: "الله يحيّي أصلك".
صديقي زهير النوباني: الله يحيّي أصلك.