لغز السّيادة اللبنانيّة الضّائع: بين العروبة و"حزب الله"

لغز السّيادة اللبنانيّة الضّائع: بين العروبة و"حزب الله"


26/06/2022

حسين الحاج حسن

شكّل النظام السياسي اللبناني منذ الاستقلال عام 1943 حتى عشية الحرب الأهلية عام 1975 نوعاً من الديموقراطية التوافقية التي يمكن تعريفها أساساً بأنها نظام تسوية وتوافق، يمكن من خلاله تحويل المجتمعات التعددية التي تميل إلى عدم الاستقرار إلى أنظمة أكثر استقراراً. 

وضمن هذا النظام، كان يعمد قادة القطاعات الرئيسية في تلك المجتمعات إلى التعاون بهدف مشترك، وهو مواجهة أي نزعات لتفكك متأصلة فيه، فيكمن التحدي دوماً في الحفاظ على عملية التفاوض التعاونية بحيث يبقى الجميع مستفيداً، وهو ما يطلق عليه مورتون دوتش اسم الصراع المثمر. 

حتى عام 1975، كان القادة السياسيون في لبنان قادرين بشكل ما على الحفاظ على تلك الروابط بين الطوائف، وإيجاد الحلول لمشكلات كانت مقبولة من قبل جماعات المصالح في لبنان. إلا أنه وفي خلال تلك الحقبة، بدأت مجموعة ضغوط مجتمعة - منها الاختلالات الطائفية والإقليمية، كما ارتفاع نسبة البطالة والتضخم - بالتحول إلى عبء ثقيل على النظام اللبناني.  

وبحلول عامي 1975-1976، كان من الواضح للمراقبين أن الساسة في لبنان أصبحوا غير قادرين بتاتاً على إيجاد حلول لمشكلات الأمة التي كانت ما عادت مقبولة للشعب اللبناني ككل. وكانت أحد الدلائل إلى أن الحلول المقدمة غير مقبولة الاستخفاف المنتشر بين الشباب اللبناني وعدم ثقتهم بحكومتهم، ومنهم من بات يعتقد أن قادته السياسيين يهتمون فقط بإرضاء مصالحهم الخاصة. 

وأظهر قسم كبير من النخب المثقفة في لبنان خلال تلك الفترة أيضاً عدم رضاه عمّا آلت إليه الأوضاع، فدان المفكرون المسلمون واليساريون الماركسيون والقوميون العرب والسوريون الوضع الراهن وطالبوا بالتغيير. 

ونتيجة لخيبات الأمل من الوضع الراهن أو القلق من تغيير اجتماعي متزايد، لم تعد شرائح كبيرة من السكان تدعم هذا النظام السياسي الهش. وعوضاً من ذلك، انتقل البعض للدفاع عن القومية السورية، أو العربية، أو العلمانية والاشتراكية، أو القومية المسيحية المارونية كبديل من الواقع المرير. 

إلى جانب كل الضغوط الداخلية المتزايدة التي كان يواجهها لبنان، كان البلد أيضاً يرزح تحت مجموعة من التوترات الخارجية، الإقليمية منها والدولية. كانت هذه التوترات الإقليمية تأتي من مصدرين أساساً: الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، والخصومات بين العرب. 

ومع لجوء عدد كبير من الفلسطينيين إلى لبنان واستيطانهم في المخيمات، تطوّرت الحركات المسلحة، فبدأت منظمات مختلفة مهاجمة مدن شمال إسرائيل من جنوب لبنان، ما تسبب برد فعل إسرائيلي واسع أدى إلى توتر في العلاقات بين المقاتلين والسكان المحليين في جنوب لبنان، والذين طالبوا الحكومة اللبنانية بحمايتهم من الإسرائيليين والمقاتلين الفلسطينيين على حد سواء. 

كما أدت الإجراءات الانتقامية الإسرائيلية إلى توتر العلاقات بين الحكومة اللبنانية والفلسطينيين أيضاً، فأُغرِقت البلاد في أزمة حكومية خطيرة هدّدت بإطلاق العنان لصراع داخلي طويل الأمد.  

بحلول عام 1969، انتزعت حركة التحرير الفلسطينية من الحكومة اللبنانية عدداً من التنازلات المهمة، فيما أصبح يعرف باتفاقية القاهرة "المشؤومة". أضفى هذا الاتفاق شرعية رسمية على الوجود العسكري للحركات الفلسطينية في لبنان وعملياتها ضد إسرائيل من الجنوب. 

في خضام كل ذلك، كان معظم المسيحيين يطالبون الحكومة باستعادة السيادة إلى لبنان والسيطرة على الفلسطينيين الذين بدوا وكأنهم يشكلون دويلة داخل الدولة. وعلى المقلب الآخر، أّيد غالبية المسلمين الفلسطينيين وأرادوا للجيش اللبناني أن يمنع الهجمات الإسرائيلية على جنوب لبنان والمخيمات الفلسطينية. 

عشيّة الحرب الأهليّة

قبيل اندلاع الصراع الداخلي، بات سلوك جميع الأطراف اللبنانية أكثر تشدداً وتعصباً، وأصبحت وجهات نظرهم تجاه بعضهم بعضاً أكثر ازدراءً وكرهاً. غدا المسرح جاهزاً لنزع الصفة الإنسانية عن الآخرين، وهو ما عنى أن التاريخ سيكتب لاحقاً الكثير من الوحشية والدمار والفوضى. 

وبين عامي 1975 و1982، سادت الفوضى كلّ لبنان. كانت الحكومة اللبنانية عاجزة عجزاً مخيفاً، وجودها أصبح رمزياً فقط، وكانت السلطة تمارسها قوى محلية برزت وأقامت روابط وعلاقات مع أخرى خارجية. كان الهدف الأساسي هو حماية مصالحها والبقاء على قيد الحياة بأي ثمن؛ ومن هنا جاء البحث عن أي مساعدة من الجهات الخارجية. وفي المقابل، فقد حاولت تلك الجهات والتي لها مصلحة في لبنان إقامة روابط مع مجموعاتها الداخلية. 

في أوائل عام 1980، تصاعد التوتر بين القوات السورية و"الجبهة اللبنانية"، وكررت الأخيرة مطالبتها بالانسحاب غير المشروط للجيش السوري من لبنان. وصل التوتر إلى نقطة الانهيار في أعقاب قتال دام شرق بيروت، ما ساهم بتأسيس الكتائب العسكرية المعروفة باسم "القوات اللبنانية" تحت إمرة بشير الجميل، باعتبارها المنظمة العسكرية الوحيدة لـ"الجبهة اللبنانية". 

وفي غمار المعارك الشرسة التي كانت تدور بين السوريين و"القوات اللبنانية" للسيطرة على مرتفعات زحلة، أعلنت إسرائيل للعالم أن مسيحيي لبنان أصبحوا مهددين بالإبادة وأنها سوف تتدخل لمصلحتهم. فكانت الخطوة الأولى التي أقدمت عليها عبر إسقاط طائرتين مروحيتين سوريتين، ما دفع دمشق إلى نقل بطاريات صواريخ أرض - جو سوفياتية إلى سهل البقاع. 

في صيف 1982، شنّت إسرائيل غزواً واسعاً على لبنان بهدف تأمين حزام أمان لمدنها وبلداتها الشمالية، كما كسر الدعم العسكري لحركة التحرير الفلسطينية وإخراجها والقوات السورية من لبنان. في المحصّلة، برزت نتيجة الاجتياح ثلاثة أمور أساسية:  

أولاً، بات واضحاً أن ميزان القوة العسكري في المنطقة هو بيد إسرائيل حصراً، وأن العرب لا يمكنهم مجاراة تلك القوة إطلاقاً.  

ثانياً، أبرز الغزو الإسرائيلي مكانة الولايات المتحدة باعتبارها اللاعب الوحيد الذي يمكنه تحقيق تسوية عادلة لكل من الأزمة اللبنانية والصراع العربي - الإسرائيلي.  

ثالثاً، ساهم الاجتياح بالتوصّل إلى عدد من الأطروحات كحلول مقترحة للصراع التاريخي في منطقة الشرق الأوسط. ومن البديهي أن تلك المبادرات المقترحة لم تكن مصممة لحل مشكلات لبنان فحسب، إلا أن الاجتياح دفع أكثر في هذا الاتجاه.  

في النهاية، فشلت كل المفاوضات وانهارت كل الاتفاقيات قبل أن توقّع، وكما يذكر الكاتب هلال خشان "اللافت في هذه الفترة أن العلاقات الإسرائيلية - اللبنانية استمرت في التدهور، فيما اتجهت دول عربية قوية مثل مصر ودول شبه قوية مثل سوريا والأردن نحو التعايش السلمي مع الدولة اليهودية. في المقابل، كان لبنان، وهو الحلقة الضعيفة في نظام الدولة الإقليمي، يتجه بثبات نحو المواجهة مع إسرائيل". 

لبنان اليوم 

ليس خفياً على أحد، وبقراءة مجرّدة للتاريخ المعاصر أن لبنان "مكانك راوح" فلا متغيرات جذرية منذ السبيعنات، باستثناء أن اللاعبين الإقليميين والمحليين قد تم استبدالهم. فالعجز الاقتصادي، التضخم المالي وانهيار مؤسسات الدولة الواقع حالياً ليس بغريب عما عاشه اللبنانيون قبيل الحرب الأهلية، ولا هي بأمر جديد النقمة الشعبية على الطبقة السياسية الحاكمة اليوم، فهي تشبه كثيراً بعجزها وفسادها قادة البلاد الذين حكموا لبنان في الماضي.  

أما المفارقة فتكمن في أن الدور الذي كان يقوم به النظام السوري والفصائل الفلسطينية على أرض لبنان قد ورثته عنهم ميليشيا "حزب الله" والنظام الراعي لها – إيران.  

ليس خفياً أيضاً أن نرى الشعارات التي كانت تطلق في الماضي مطالبة بالسيادة على كل شبر من الوطن، عادت اليوم أيضاً لتصدح دولياً وإقليمياً وتطالب بتحرير لبنان من هيمنة إيران وأذنابها.  

وأخيراً، فليس خافياً أيضاً أن نرى اليوم المزيد من الدول التي قررت أن تعقد السلام وتعيش بأمن وأمان جنب إسرائيل، كما سبقتها مصر والأردن، فيما لبنان، وهو الحلقة الأضعف، يبقى قادته أجبن من يأخدوا قراراً كهذا فيه مصلحة الوطن وشعبه ومستقبله.  

عن "النهار" العربي



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية