قبل يومين، أعلن الرئيس اللبناني ميشال عون أنّ مفاوضات ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل باتت بمراحلها الأخيرة، بما يضمن حقوق لبنان في التنقيب عن الغاز والنفط في الحقول المحددة بمنطقته الاقتصادية.
وخلال لقائه المنسقة الخاصة للأمم المتحدة في لبنان، جوانا فرونيسكا، قال عون إنّ التواصل مع الوسيط الأمريكي، آموس هوكشتاين، مستمر حول بعض التفاصيل التقنية المرتبطة بعملية الترسيم، معرباً عن أمله في أن يساهم التنقيب في المياه اللبنانية في إعادة إنهاض الاقتصاد اللبناني الذي شهد تراجعاً كبيراً خلال السنوات الماضية، فضلاً عن تعزيز الأمن والاستقرار في الجنوب.
يبدو أنّ توافق ساسة لبنان النادر الحدوث، بات حاضراً في ملف ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، وهو ما يعود إلى حضور الوساطة الأمريكية من جانب، وأهمية قضية الطاقة بالنسبة لطرفي القضية، خصوصاً لبنان، الغارقة مناطق واسعة منه في ظلام دامس معظم الوقت.
وليس هناك إفصاح عن مضمون الاتفاق شبه المنجز، بتعبير مدير الأمن العام، اللواء عباس إبراهيم، لكن ما تشي به نبرة التفاؤل الرسمية تكشف عن تنازل، عما يراه قطاع واسع من اللبنانيين حقاً مشروعاً لبلادهم.
اتفاق شبه مُنجز
وقال اللواء عباس إبراهيم في تصريحات صحفية: "نحن نتحدث عن أسابيع لا بل عن أيام للانتهاء من ملف الترسيم، وأنا أميل لأن تكون الأمور إيجابية". وزار الوسيط الأمريكي أموس هوكشتاين بيروت في (9) أيلول (سبتمبر) الجاري، والتقى الرؤساء الثلاثة؛ ميشال عون، ونبيه بري، ونجيب ميقاتي، بشكل منفرد، بخلاف اجتماعه مع ثلاثتهم في قصر بعبدا في الزيارة السابقة، وهو أمر أرجعه متابعون إلى وجود خلافات بين الرئاسات الثلاث؛ الرئاسة، ومجلس النواب، والحكومة، حول ملف الترسيم.
ويرى الخبير الإستراتيجي والعسكري اللبناني، العميد المتقاعد ناجي ملاعب، أنّ "إنجاز اتفاق الترسيم لا يعتمد على تصريح أحد من المسؤولين اللبنانيين، بل هو إملاء من الوسيط الأمريكي، الذي يفرض تنازلات في كل جولة، بغض النظر عن ما يُشاع من إيجابيات مُحققة".
وأضاف لـ"حفريات" حول ماهية التفاوض: "تتابع إسرائيل في التنقيب وصولاً إلى الاستخراج من حقل كاريش، بينما يكسب الوسيط الأمريكي الوقت. وتنازل لبنان عن خطّ (29) في بيان رسمي، وتبنى خطّ (23) كأساس للترسيم، وبهذا صار جزء من حقل قانا اللبناني ضمن المنطقة الاقتصادية الإسرائيلية، وهو ما يتم التفاوض عليه".
وأفاد الخبير الإستراتيجي والعسكري، ناجي ملاعب، بأنّ "التمسك بخطّ (29) كان يعني أنّ جزء من حقل كاريش الإسرائيلي يقع ضمن المنطقة الاقتصادية اللبنانية، لكن ما حدث أنّ لبنان صار يستجدي حقه في حقل قانا فقط، وهي القضية التي يعمل عليها الوسيط الأمريكي بين الطرفين".
ترتبط بعملية التفاوض استخراج إسرائيل الغاز من حقل كاريش، وتبدو الأخيرة متفقة مع واشنطن في عدم إثارة اللبنانيين، وتجنب الصدام مع حزب الله
وبحسبه، فحقّ لبنان الشرعي هو الخطّ (29)، "هذا ما ورد في استشارة مقدمة من مكتب هيدروغرافي يتبع وزارة الدفاع البريطانية في العام 2011، لكن لم يتبن أحد في لبنان الرسمية ذلك". وكانت تصريحات منسوبة إلى ضباط في الجيش اللبناني تحدثت عن أحقية لبنان في الخطّ (29)، وتشارك مصلحة الهيدروغرافيا التابعة للقوات البحرية في الجيش اللبناني ضمن الوفد المفاوض في ملف الترسيم.
وأوضح العميد المتقاعد، ناجي ملاعب، أنّ "الجيش لا يستطيع فعل شيء في قضية الترسيم؛ فهي مسألة سياسية، ووجود عضوين تابعين له في وفد التفاوض لا يعني أنّ له سلطة".
وترتبط بعملية التفاوض استخراج إسرائيل الغاز من حقل كاريش، وتبدو الأخيرة متفقة مع واشنطن في عدم إثارة اللبنانيين، وتجنب الصدام مع حزب الله، بعد تهديد الأخير بحرب ميدانية للدفاع عن مصالح لبنان، خاصةً مع اقتراب موعد الانتخابات التشريعية المبكرة في إسرائيل، مطلع تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل.
وفي هذا السياق جاء إعلان شركة إنرجين المكلفة بعملية استخراج الغاز من حقل كاريش بإرجاء استكمال العملية إلى شهر تشرين الأول (أكتوبر) المقبل، بدلاً من موعد سابق في الشهر الجاري.
المواقف السياسية
ورغم الاتفاق السياسي في لبنان خصوصاً من الفصيل الحاكم، الذي يضم الرئيس ميشال عون وفريقه السياسي، التيار الوطني الحرّ، بقيادة صهره جبران باسيل، والثنائي الشيعي، ونجيب ميقاتي، على إنجاح التفاوض، إلا أنّ الأمر لا يخلو من توظيف سياسي من هذه القوى في إطار صراعاتها السياسية الداخلية، مع اقتراب نهاية عهد الرئيس عون بنهاية الشهر المقبل، واستمرار تعطيل تشكيل الحكومة، وما تثيره من أزمة دستورية حول تولي حكومة ميقاتي صلاحيات الرئاسة، بصفتها حكومة تصريف أعمال.
ويقول الكاتب والباحث السياسي، عاصم عبد الرحمن: "تترقب القوى السياسية بهدوء ما ستؤول إليه مفاوضات ترسيم الحدود البحرية، متمنية حصوله في أقرب وقت؛ لما له من انعكاسات إيجابية على الوضع الاقتصادي على وجه الخصوص."
وحول موقف حزب الله، قال الكاتب اللبناني لـ"حفريات": "شكّل انسحاب شركة إنرجين للتنقيب من حقل كاريش اخماداً لفتيل اندلاع حرب حول المنطقة المتنازع عليها، ما أدى إلى تغليب الحلول السياسية على العسكرية، مع تشديد الحزب على عدم المس بحقوق لبنان في أراضيه وثرواته مبدياً جهوزيته التامة للدفاع عن هذه المكتسبات".
العميد ناجي ملاعب لـ"حفريات": إنجاز اتفاق الترسيم مع إسرائيل لا يعتمد على تصريح أحد من المسؤولين اللبنانيين، بل هو إملاء من الوسيط الأمريكي
وحول التأييد القوي من رئاسة الجمهورية لتوقيع الاتفاق، قال: "يبدو أنّ مسار التفاوض الذي يقوده هوكشتاين بدأ يسير عكس ما تشتهيه سفن رئيس الجمهورية، الذي يأمل التوقيع على الاتفاق بين لبنان واسرائيل، ليمنّي نفسه بتحقيق إنجاز بهذا الحجم في آخر أيام عهده، ليترك لصهره جبران باسيل إنجازاً يتغنى به، أو يملأ فيه برنامج ترشحه لرئاسة الجمهورية على اعتبار أنّ التوقيع تم في عهد تياره السياسي، لكن يبدو أن ذلك بات من شبه المستحيل نظراً لتأخر الاتفاق لأسباب عدة، أبرزها الانتخابات التشريعية في إسرائيل."
ويُعرف رئيس مجلس النواب، نبيه بري، بأنّه "عرّاب التفاوض" وفق الخطّ (23). وفي مقاله في جريدة "اللواء" اللبنانية، ذكر مدير المنتدى الإقليمي للاستشارات والدراسات، العميد الركن خالد حمادة، أنّ "الرئيس بري يريد تجديد دوره بنسخة بترولية تتناسب مع أزمة الطاقة الدولية، كيف لا؟ فهو عرّاب مساره التفاوضي وفقاً للخط (23) كما أنّ إبرام أي معاهدة مرتبط بموافقة مجلس النواب، ويريده كذلك أمين عام حزب الله، الجاهد لتقديم حزبه مجدداً بنسخته البحرية هذه المرة، كضامن لإستقرار الجمهورية وعرَّاب أمنها ومستقبلها البترولي."
تبعات الاتفاق
وفي السياق ذاته، ذكرت صحف لبنانية أنّ رئيس حكومة تصريف الأعمال، نجيب ميقاتي، دخل على خطّ التفاوض، وطرح اعتماد النقطة البرية (ب1) كأساس للتفاوض، بدلاً من رأس الناقورة، في حين طلبت تل أبيب من بيروت اعتماد ربط الخط البحري بالناقورة لا بالنقطة هذه، للتسريع في الاتفاق، أي أنّها تريد من لبنان التخلي عن كيلومترات إضافية.
ومن جانبه، أوضح الخبير الإستراتيجي والعسكري، ناجي ملاعب، أنّ "النقطة (ب1) رُسمت من قبل الأمم المتحدة بعد عدوان 2006، وهي الخط الأزرق، وإذا ما اُعتمدت ممكن أن نحصل في البحر أكثر مما تعرضه إسرائيل، لكن سندفع الثمن بخسارة أكبر في الحدود البرية."
وفي سياق ترتيبات الاتفاق، تُطرح قضايا مثل الرعاية الدولية للاتفاق، وتشكيل قوة دولية بحرية لمراقبة التطبيق، أم توسيع نطاق عمل القوة الدولية (اليونيفيل). فضلاً عن ذلك، تبدو واشنطن مهتمة باستخراج الجانب اللبناني للغاز من منطقته الاقتصادية بعد الترسيم، ولهذا زار مبعوثها، هوكشتاين، باريس والتقى مسؤولين فرنسيين ومسؤولي شركة توتال الفرنسية، التي تولت أعمال المسح والتنقيب في مناطق لبنان البحرية.
وفيما يتعلق بالارتباط بين الترسيم والقضايا الدولية، يقول العميد ناجي ملاعب: "أعتقد أنّ لبنان سيستجيب للمطالب الأمريكية، وسيتم ذلك بمعزل عن موعد نهاية ولاية عون أو غير ذلك، فالأمر مرتبط بالسرعة التي تتمناها وتطلبها واشنطن، للبدء بعملية التنقيب والاستخراج لحاجة أوروبية في إطار تداعيات الحرب في أوكرانيا."
ومن جانب آخر، يربط متابعون بين مفاوضات الترسيم والمفاوضات الإيرانية الأمريكية غير المباشرة برعاية أوروبية، بشأن العودة إلى الاتفاق النووي للعام 2015.
ويُذكر أنّ الحكومة الإسرائيلية أقرت ترسيم حدودها البحرية الشمالية على الحدود مع لبنان كما وضعته وزارة الخارجية الإسرائيلية عام 2011، وتسيطر إسرائيل على مساحة 360 كم مربع، يعتبرها لبنان منطقة مُتنازعاً عليها. وفي العام 2020 بدأت المفاوضات غير المباشرة بين إسرائيل ولبنان لترسيم الحدود البحرية، برعاية الأمم المتحدة وواشنطن، وتأجل التفاوض، حتى العودة إليه برعاية أمريكية.
مواضيع ذات صلة:
- ماذا تعرف عن حقل "كاريش" المتنازع عليه بين لبنان وإسرائيل؟
- ما الدور الذي سيلعبه "المستقلون" ونواب "التغيير" في لبنان؟