كيف ينظر الفُرس إلى العرب؟

الفرس

كيف ينظر الفُرس إلى العرب؟


08/01/2020

العرب والفُرس، جمعت بينهما الجغرافيا، وتداخل حضاري وتاريخيّ ممتد لأزمنة ضاربة في القدم، ما دفع كلّاً منهما إلى تطوير رؤى وتصوّرات ذهنيّة عن الآخر.
يحاول هذا التقرير تتبع نشأة وأبرز مسارات تحوّل النظرة الفارسيّة إزاء العرب، وأبرز الاعتبارات التي دارت حولها.
علاقة الحاكم بالمحكوم
تعود أولى الأثريّات التي توثّق بداية الاتصال والتفاعل بين الفرس والعرب إلى القرن الخامس قبل الميلاد، وهي جدارية موجودة اليوم في مدينة "تخت جمشيد" (بيرسيبوليس) الأثريّة، عاصمة الإمبراطورية الفارسية القديمة (الأخمينيّة)، قرب مدينة شيراز الإيرانيّة اليوم، وتظهر وفداً عربياً مع جمال عربيّة يقدمون الهدايا إلى الإمبراطور الأخمينيّ، خشایار الأوّل، لتعبّر بذلك عن بداية التفاعل والاتصال بين القوميتين، والذي جاء في حينه في شكل ولاء وخضوع العرب لحكم الإمبراطورية الفارسيّة القديمة، وهي الصورة التي سوف تحتفظ بها المخيّلة الفارسية، وتبقى تمارس تأثيرها خلال قرون لاحقة.

نقش يصوّر وفداً عربياً يزور الإمبراطور الفارسيّ من مدينة "تخت جمشيد"

قرنان من الصمت
انقلبت الأحوال بعد ظهور الإسلام، وتمكُّن العرب من إخضاع بلاد فارس، وجعلها تحت الحكم العربي الناشئ، ويشير الدكتور المختصّ في الدراسات الإيرانيّة، محجوب الزويري، في كتاب "العرب وإيران: مراجعة في التاريخ والسياسة" (2012: 140) إلى حديث المؤرخين الإيرانيين من أصحاب التوجّه القوميّ، عمّا يسمونه "عصر الصمت"، وهي فترة حكم الخلفاء الراشدين، والدولة الأمويّة من بعدهم، وحتى بداية الحكم العباسي، حين غاب الفرس عن أيّ مشاركة في الحكم، وانتقلوا إلى موقع المحكوم من قبل الولاة العرب، بالتالي؛ أصبح هذا المسمى كناية وتعبيراً عن صورة سقوط الإمبراطوريّة والحضارة الفارسيّة والخضوع للحاكم العربي في المخيّلة القوميّة الإيرانيّة.

اقرأ أيضاً: نكبة البرامكة تثير شجون القومية الفارسية وتغضب الإيرانيين
الأديب والمؤرخ الإيراني، عبد الحسين زرين كوب، وضع كتاباً بعنوان "قرنان من الصمت"، في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، وكان له صدى وتأثير كبير في حينه، اعتبر فيه أنّ إيران دخلت في حالة صمت خلال القرنين، اللذين تليا هزيمة الإمبراطوريّة الفارسيّة الساسانية على يد المسلمين في معركة نهاوند. ويدين كوب تحوّل إيران نحو الإسلام، ويتهم القادة والولاة العرب بـ "قمع الثقافة الفارسيّة وتجفيف منابعها".

"عصر الصمت" هو لحظة الخضوع للحاكم العربي في المخيّلة القوميّة الإيرانيّة

الشعوبيّة.. تفنيد أفضليّة العرب
وينتهي "عصر الصمت" مع دخول مرحلة جديدة، وتحديداً مع نهاية عصر هارون الرشيد، وتغلّب الخليفة المأمون، ومناصريه من الفرس، على شقيقه الأمين، وبالتالي وصول الفرس إلى المناصب العُليا في الجيش والقصر العباسي، لتبدأ بذلك القومية الفارسية بالانبعاث من جديد؛ بل إنّ عبد الحسين زرين كوب، يجعل من الحضارة العباسية "حضارة فارسيّة بامتياز".

أعادت القوميّة الإيرانيّة الحديثة، مع بعثها في عهد رضا شاه، تكريس التصوّارت "الشعوبيّة" عن العرب

على مستوى الحراك الفكري والأدبيّ، شهدت المرحلة الجديدة بروز التيار المعروف بـ "الشعوبية"، وهو التيّار الذي حاول المجادلة والتفنيد لمقولة أفضلية العرب، والتي اعتبرت ردّ فعل على الأطروحات القوميّة العربيّة التي راجت وسادت طيلة العصر الأمويّ.
اعتزت الحركة الشعوبيّة بالتراث الفارسيّ، ودعت إلى إحيائه من جديد، ورفعت شعار "أفضلية الشعوب الأخرى على العرب"؛ رداً على النزعة العربية التي ترى أنّ العرب "خير الأمم"، ومن الشعوبيّين من ذهب إلى أبعد من ذلك، فيتحدث الجاحظ في كتابه "البخلاء" عن طائفة من الشعوبية كانت تسمى "الآزادمرديّة"، كانوا يرون بُغضَ العرب، وأنّه لا تفضيل لهم على العجم، ويقول عنهم: "وهم الأشدّ تعصباً للفرس".

رأى عبد الحسين زرين كوب (1923-1999) أنّ الحضارة العباسيّة كانت فارسيّة بامتياز

الشاهنامة.. الرؤية المتطرفة في ذروتها
كان الجاحظ يسجّل ما يدور من حوله في القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)، لكنّ التطوّرات تسارعت في القرن التالي، القرن الرابع، مع قيام الدولة السامانيّة في الهضبة الإيرانيّة، وكانت هذه الدولة الأولى في الإسلام التي تتجه بشكل رسميّ إلى اعتماد اللغة الفارسيّة، وإلى إحيائها وإحياء آدابها، وفي إطار هذا التوجه القوميّ الفارسيّ أمر الحاكم السامانيّ، نوح بن منصور، بوضع سيرة لملوك الفرس القدماء، فبدأ بذلك الشاعر الفارسيّ، أبو منصور الدقيقيّ الطوسيّ، قبل أن يُقتل، ومن ثُمّ تصدى الشاعر الفارسيّ الآخر، أبو القاسم الفردوسيّ للمهمة، فأتمّها، ليضع بذلك ملحمة "الشاهنامة" (سيرة الملوك) الشهيرة، التي أصبحت بمثابة كتاب القوميّة الفارسيّة، وأهم الأعمال في تاريخ الآداب الفارسيّة.

اقرأ أيضاً: تظاهرات العراق مستمرة.. لماذا رفع المحتجون عبارات بالفارسية؟
حملت الملحمة في طيّاتها ذكراً للعرب في إطار الحديث عن زوال حكم فارس، ولكنه جاء مقترناً بالانتقاص، ومن ذلك ما جاء في الأبيات: "من شرب لبن الإبل وأكل الضُب، بلغ الأمر بالعرب مبلغاً أن يطمحوا في تاج الملك، فتباً لك أيها الزمان وسحقاً"، لتبلغ بذلك نظرة الاستعلاء الفارسيّة تجاه العرب ذروتها باعتبارهم أقواماً أقل تحضراً وشأناً منهم.

الشاهنامة.. بلغت فيها نظرة الاستعلاء الفارسيّة تجاه العرب ذروتها

رؤية توفيقيّة
تعزز المنظور الشعوبيّ عن العرب مع تداخل الفارسيّة مع المذهب الشيعي، وبالتحديد منذ زمن الدولة البويهية (932-1056)، وتطوير روايات ومعتقدات تذمّ عدداً كبيراً من الصحابة، رضي الله عنهم، ومن العرب في القرون الأولى، باعتبارهم إما وقفوا في مواجهة آل البيت أو خذلوهم، وفي العصر الحديث، حاول مفكرون إيرانيون إصلاحيون تجاوز الميراث الشعوبيّ، وتقديم رؤية توفيقيّة إزاء العرب، ومنهم المفكّر الإيرانيّ، علي شريعتي، الذي نقد "التشيع الصفويّ" المقترن بالدولة الصفويّة والقوميّة الفارسيّة، وميّز بينه وبين التشيّع العلويّ، ميراث آل البيت، الذي يتجرد عن ذلك، كما برز في هذا الاتجاه، المفكّر الإصلاحي الإيرانيّ، مرتضى مطهري، الذي فرّق بين العرب الذين أرادوا استعادة الروح الجاهليّة العنصريّة على حساب روح الإسلام، ممثلين ببني أميّة ومن شايعهم، في مقابل العرب من "آل البيت" ومن ناصرهم، الذين تمسّكوا بأصول العدل والمساواة بين الشعوب.

مرتضى مطهريّ حاول تقديم رؤية توفيقيّة عن العرب

اليقظة القومية الفارسيّة.. الشعوبيّة الجديدة
مع بدايات اليقظة القوميّة الفارسية، منذ منتصف القرن التاسع عشر، ومن ثم تبلورها في "الثورة الدستورية" عام 1906، ومن ثم تصاعدها وانبعاثها بشكل رسميّ مع تأسيس إيران البهلويّة (1925-1979)، في أعقاب الإطاحة بحكم السلالة القاجاريّة، على يد رضا شاه، الذي توجه نحو تبني ونشر المبادئ القومية، ليعتبر بمثابة الباعث للقوميّة الإيرانيّة والفارسيّة الحديثة، أُعيد تكريس التصوّارت "الشعوبيّة" عن العرب، لكن هذه المرة جاءت في طابع قومي حداثيّ علمانيّ.

تعزز المنظور الشعوبيّ عن العرب مع تداخل الفارسيّة مع المذهب الشيعي، وبالتحديد منذ زمن الدولة البويهية (932-1056)

انعكست هذه الرؤى على العلاقة والتصوّرات الإيرانيّة الحديثة عن العرب، التي اقترنت مجدداً بمعاني التعالي، وترافقت مع أزمات سياسيّة عديدة؛ بدايةً من القضاء على إمارة بني كعب العربيّة في الأحواز، عام 1925، إلى احتلال الجزر الإماراتية الثلاث، عام 1971، وتصاعد الصراع مع العراق على المناطق الحدودية ومنطقة "شط العرب" تحديداً، وتكرّر الادّعاء بملكيّة جزيرة البحرين، وصولاً حتى التحالف مع عدو العرب "إسـرائـيـل".
وانعكست الشعوبيّة الجديدة في الأدب الإيراني الحديث، كما كان الحال مع الشعوبيّة الأولى، وتنقل الباحثة الأمريكيّة، جويا بلندل، في كتابها "صورة العرب في الأدب الفارسي الحديث" (ترجم وصدر بالعربية عام 2007)، عن الأديب الإيرانيّ صادق هدايت (1903 - 1951)، مؤسّس أدب القصة القصيرة ورائد الكتابة المسرحيّة في إيران، دعوته إلى "إصلاح الشعب الإيراني عبر العودة إلى الأصول الزرادشتية"، وهو ما عبّر عنه في مسرحياته، والتي ورد فيها أقوال من قبيل: "لم يؤذنا أحد من قبل كما فعل العرب، لقد دمّروا كلّ شيء نملكه"، و"الإيرانيون المتحضرون قد أخضعهم العرب آكلو السحالي".

صادق هدايت.. دعا إلى تجاوز الإيرانيين الموروث الإسلامي باعتباره تأثيراً عربيّاً أدى إلى تأخّرهم

وبعد الثورة وقيام الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، عام 1979، استمر الموروث والفكر الإمبراطوريّ الفارسي في ممارسة تأثيره، واستمرت القوميّة الإيرانيّة الحديثة في تشكيل رؤى وتصوّرات محركة وداعمة للتوسع والتمدد الإيراني في الدول والمنطقة العربيّة، وإن جاءت تحت مسميات جديدة، من قبيل "تصدير الثورة".



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية