تشهد اتجاهات سياسات القيادة التركية، الداخلية والخارجية، بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان تحوّلات عميقة، عنوانها ترجمات براغماتية معروفة ومعهودة ينتهجها الرئيس التركي في التعاطي مع الملفات الداخلية والإقليمية والدولية، فمنذ مغادرة صديقه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب البيت الأبيض تتواتر تصريحات وإعلانات صادرة عن أردوغان وحكومته وطواقم مستشاريه، قاسمها المشترك إعادة التموضع والتكيف مع القيادة الجديدة للبيت الأبيض، من خلال ما يمكن وصفه بـ"تبريد" الملفات الساخنة والخلافية مع الإدارة الديمقراطية التي لا تتوانى في التأكيد على خطط تتجاوز حدود المناورات السياسية لـ"معاقبة" القيادة التركية على سياساتها خلال الأعوام الـ4 الماضية.
ليس واضحاً ما الدولة أو الجهة التي تأخذ خطط القيادة التركية ورسائلها، التي تؤكد تحوّلاتها ورسائلها القادمة، على محمل الجد، إن على صعيد القوى الدولية، أو الإقليمية
وما بين إعلانات على الصعيد الداخلي حول نوايا لطرح دستور جديد يضمن البقاء لأردوغان في السلطة، وأنّ عام 2021 سيكون عام "الإصلاحات الديمقراطية والاقتصادية، وأنّ مساعي تلك الإصلاحات سيتمّ إقرارها سريعاً من قبل البرلمان، ولم يرغمنا أحد عليها، بل لأنّ شعبنا يستحقها"، وبين أزمة اقتصادية تتفاقم، تتواتر الرسائل تارة لفرنسا "عدو الإسلام والمسلمين"، وأوروبا "التي يجب أن تعود إلى إمرة السلطان العثماني"، وتارة أخرى لمصر "التي يقودها نظام انقلابي"، والسعودية "التي لا تحترم حقوق الإنسان وقتلت خاشقجي" على أرض السلطان، بينما غابت أساطيل السلطنة العثمانية عن شرق البحر المتوسط، مع تأكيدات تركية على أنّ التواصل مع إسرائيل لم يتوقف، وخاصة التعاون الاستخباري، ويبدو أنّ هذا التعاون كان في غالبيته مرتبطاً بحركة حماس التي تمّ الكشف عن تواجدها واستثماراتها ونشاطاتها في ليبيا والسودان، وهي المرتبطة بمستويات مختلفة بتركيا.
اقرأ أيضاً: أردوغان المضطرب في تركيا يهدد استقرار المنطقة
ليس واضحاً ما الدولة أو الجهة التي تأخذ خطط القيادة التركية ورسائلها، التي تؤكد تحوّلاتها ورسائلها القادمة، على محمل من الجدّية، إن على صعيد القوى الدولية، وتحديداً "أمريكا وفرنسا"، أو الإقليمية "مصر والسعودية"، ويبدو واضحاً من مشاريع القرارات والتوجهات التي يُعلن عنها عبر الإدارة الأمريكية والكونغرس، بما فيها دعم المعارضة التركية، التأكيد على أنّ هناك موقفاً أمريكياً جادّاً، يتجاوز مقاربة المحاسبة للقيادة التركية، ومن المرجّح في ظلّ التكيف العام الذي تشهده القوى الإقليمية مع اتجاهات السياسات الأمريكية، أنّ كثيراً من الدول ستجد في دعم التوجهات الأمريكية فرصة لحماية نفسها وتقليل الضغوط الأمريكية عليها.
اقرأ أيضاً: أردوغان يواصل تدخلاته في ليبيا... ماذا فعل؟
محاولات التكيف التركية وسياسة تبريد الملفات الساخنة من غير الواضح إمكانية أن تحقق نجاحات، رغم امتلاك تركيا العديد من الأوراق التي يمكن أن تطرحها على طاولة أيّ تفاهمات مع أمريكا وأوروبا، إلّا أنّ تلك التفاهمات ستبقى رهينة لعوامل؛ من بينها: مدى الثقة الأمريكية بأيّ تعهدات تقدّمها أنقرة بعد 4 أعوام من انقلاباتها على تعهداتها، ثمّ مستقبل تعهدات أردوغان تجاه روسيا والصين؛ لأنّ هذه العلاقة ستكون إحدى معايير التفاهمات الجديدة، خاصة ما يتعلق بصفقة صواريخ إس 400 الروسية، التي ستكون عنواناً لمدى التزام تركيا بالعودة إلى فضاءات الغرب والناتو، وبالنسبة إلى أوروبا فإنّ كلّ ما يمكن أن يقع تحت عنوان العثمانية الجديدة وترجماته على الأرض خلال الأعوام الماضية بتبنّي أنقرة لجماعات إسلامية، والتوسّع في بناء المساجد، ورعاية خطابات التطرّف والكراهية، كلها ستكون مطلباً أوروبياً إلى جانب مطالب أخرى، خاصة من قبل فرنسا التي تتهاون في هذه المطالب، ومعها بعض الدول مثل؛ ألمانيا وبلجيكا ...إلخ، لكنّ حجم وتعدّد ملفات التراجع التركية تعكس تقديراً تركيّاً لخطورة المرحلة القادمة، وضيق مساحات وهوامش المناورة أمامها، خاصة أنها بنت علاقاتها مع أمريكا في إطار صفقات مع الرئيس ترامب، وليس مع الدولة العميقة، وهو ما يفسّر التوافق الكبير بين نوّاب وشيوخ الحزبين ضدّ القيادة التركية.
الموقف التركي في سورية يشكّل أحد أبرز العقبات أمام الطموح الروسي، بالإضافة إلى مواجهة أخرى مع الميليشيات الإيرانية
رغم ذلك، تملك تركيا جملة من الأوراق المهمّة؛ من بينها مواجهة روسيا في سورية، وتنفيذ الأجندة الأمريكية، فالموقف التركي في سورية يشكّل أحد أبرز العقبات أمام الطموح الروسي، بالإضافة إلى مواجهة أخرى مع الميليشيات الإيرانية، وهو ما يخدم متطلبات أمريكية وإسرائيلية، والموقف التركي أيضاً في ليبيا يتقاطع مع حسابات أمريكية مستقبلية، وبالتزامن، فإنّ علاقاتها مع الإسلام السياسي، وخاصة جماعة الإخوان المسلمين، وحركة حماس، بالإضافة إلى حقيقة العلاقات مع المنظمات الإرهابية، كلها ستكون موضع تساؤلات، ولن يكون بمقدرة أنقرة اللعب بورقة اللاجئين السوريين بالابتزاز الذي مارسته في الأعوام السابقة.
وفي الخلاصة، فإنّه ورغم أنّ معطيات كثيرة تشير إلى أنّ أنقرة تذهب باتجاه التكيف مع التحوّلات مع توجهات الإدارة الأمريكية الجديدة، ورغم امتلاكها أوراقاً تفاوضية، إلّا أنّها تبدو اليوم قلقة جداً من الخطط الغربية تجاهها، ومن المؤكّد أنّ الغرب وقوى إقليمية عربية ستطلب من أنقرة ما هو أبعد من تبريد الملفات الساخنة فقط، بل ممارسة أدوار جديدة، ستكون أنقرة فيها شريكة في صناعة الأوضاع الجديدة، وبما يخدم السياسات الأمريكية.