كيف حوّل العثمانيون ليبيا إلى مستودع اتجار بالبشر؟

كيف حوّل العثمانيون ليبيا إلى مستودع اتجار بالبشر؟


28/06/2020

استغرق الضمير الإنساني قروناً طويلة، حتى تحققت يقظته، تحت ضغط التحديث وتجلّي الطروحات الأخلاقيّة، التي سعت نحو أنسنة النصوص اللاهوتية، ما أدّى إلى تجريم أبشع صور الاستغلال البشري، المتمثلة في العبودية، وتكلّلت الدعوات المنادية بتجريم الرق بالنجاح، مع توقيع الدول الأوروبية معاهدة فيينا لمنع تجارة العبيد في العام 1814.

في الوقت الذي بدأ العالم يتجه فيه نحو إلغاء الرق، واصلت الدولة العثمانية أنشطتها في هذا المجال

لكن الممانعة التي أبدتها بعض المجتمعات، أخّرت تفعيل هذه المعاهدة لعقود أخرى، ما عطّل جهود الدول الرامية إلى إزاحة هذا الكابوس، الذي جثم طويلاً على خط التاريخ البشري، ليصنع حائلاً دون وصول الإنسان إلى أرقى مراحل التطور.

دولة واحدة قررت معاندة حركة التاريخ، ومواصلة الاتجار بالبشر، على الرغم من الإدانة الدولية الصريحة لتلك الممارسات، حيث واصلت الدولة العثمانية حتى سقوطها، اصطياد البشر والاتجار بهم، وتحولت الإمبراطورية المريضة إلى سوق كبير للنخاسة، وكانت ليبيا أكبر مستودعاتها التي التقت عندها خطوط قوافل الصيد، وأقامت فيها ما عُرف بـ "زرائب العبيد".

تراث الآباء في التاريخ العثماني

منذ عهد الآباء المؤسسين للدولة العثمانية، كانت تجارة الرقيق أحد أهم الأعمدة الاقتصادية والعسكرية التي قامت عليها الدولة، منذ أسس محمد الفاتح أول سوق للنخاسة في القسطنطينية، كما أنشأ السلطان مراد الأول جيشاً كاملاً من العبيد، ساعده على تثبيت دعائم ملكه، ومواصلة عمليات الغزو هنا وهناك، حيث كان يتم أسر الصبية والفتيات من بلاد البلقان والمجر العليا، وتحويلهم إلى رقيق يخدمون في القصور والجيوش العثمانية.

اقرأ أيضاً: إزالة أسماء السلاطين العثمانيين من شوارع القاهرة والرياض: ردّ الاعتبار للتاريخ

هذا، وقد فرضت الدولة العثمانية على المناطق المسيحية الخاضعة لها، ما يعرف بضريبة البشر (الدوشريمة)، كنوع من الجزية، حيث تلتزم تلك المناطق بتسليم عدد من أبنائها سنوياً، وبشكل قسري، إلى مندوبي السلطنة، ليخدموا كعبيد في البلاط العثماني، حيث يجري تدريبهم على المهارات العسكرية المختلفة، ومن هؤلاء تكونت كتائب الإنكشارية.

دولة الخلافة العثمانية جعلت من العالم العربي سوقاً مفتوحاً للنخاسة باعت فيه أجساد البشر وأمنياتهم

هذا وقد جردت الدولة العثمانية حملات مخصوصة عرفت بغارات الرقيق، استهدفت اصطياد البشر، ووضعهم في معسكرات تمهيداً لبيعهم في أسواق النخاسة، حيث جنت الإمبراطورية مكاسب مادية هائلة، جعلت من السلطان العثماني النخّاس الأكبر في القرنين السادس عشر والسابع عشر.

وفي الوقت الذي بدأ العالم يتجه فيه نحو إلغاء الرق، واصلت الدولة العثمانية أنشطتها في هذا المجال، وإجبار المستعبدين على العمل كمرتزقة في الجيوش، أو الخدمة في المزارع.

وعرفت القصور العثمانية عادة "خصاء العبيد"، كما انتشرت العبودية الجنسية على نطاق واسع، وفي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وأصبحت بعض المناطق العربية هدفاً لهذا النوع من العبودية، بعد التضييق الذي مارسته الدول الأوروبية على تجارة الرقيق البيض.

ليبيا مستودع شمال أفريقيا الأكبر للاتجار بالبشر

على الرغم من إجبار الإمبراطورية العثمانية على التوقيع على معاهدة بروكسل في العام 1890 لتجريم الرق، استمرت تجارة العبيد السريّة، والتي اعتمدت على اصطياد سود البشرة من منطقة البحيرات العظمى وشرق أفريقيا، وكان السلطان عبد الحميد الثاني يحتفظ بعدد من الرق في قصره، وكذلك فعل الأمراء ورجالات الدولة.

في رائعتها الروائية "زرايب العبيد" تجوب نجوى بن شتوان عوالم العبودية القاسية في ليبيا إبان العثمانيين

قام العثمانيون بتنشيط خط تجارة الرقيق القديم، وكان يمر بليبيا، وكان القراصنة الأتراك يجلبون الصيد الثمين من وسط أفريقيا، مروراً بمناطق الطوارق، ثم تكون استراحتهم التالية في منطقة غدامس، قبل نقلهم إلى المستودعات (الزرائب) على الساحل الليبي، حيث تجري عمليات البيع، وأحياناً كان يسبقها الخصاء.

مثّلت نقاط تجميع وبيع الرقيق على الساحل الليبي، مورداً مالياً مهماً من موارد الدخل للدولة العثمانية، ما جعلها تتحايل على قوانين تحريم الاتجار بالبشر، وسعت إلى إيجاد تبريرات فقهية، واشترطت في بعض المواقف على ضرورة أن يكون الرق قد أسلم قبل وقوعه في الأسر، كشرط لتحريره.

اقرأ أيضاً: العثمانية الجديدة وأحلام التوسع المستحيلة.. أيّ وهم يعيشه أردوغان؟ 

وكتب القنصل البريطاني في بني غازي، في إحدى رسائله إلى الخارجية البريطانية، في العام 1875، أنّ "سوق العبيد" في بني غازي تكدس عن آخره، وأنّ الإدارة العثمانية المحلية تباشر بنفسها عمليات التنظيم والبيع، وأنّ ذلك يدر عليها أرباحاً هائلة، رغم انخفاض أسعار الرقيق، مقارنة باسطنبول.

"زرايب العبيد".. استدعاء الشجن روائياً

إذا كان السرد الأدبي يستدعي في بعض الأحيان تأسيس خطاب روائي، على جملة من الوقائع التاريخية الحقيقية، إلا أنّ ذلك يلفت الانتباه، بالضرورة، إلى السياقات الاجتماعية التي جرت فيها الأحداث، ويستشرف معالم الواقع الذي لم يتخلص بعد من إرث الماضي، في ظل تداعي المقولات القديمة، ومحاولة البعض إعادة إنتاجها من جديد.

اقرأ أيضاً: عقدة أردوغان العثمانية و"الاحتلال المائي" للعراق

في رائعتها الروائية "زرايب العبيد" الصادرة عن دار الساقي في العام 2016، والتي وصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية "البوكر" في العام 2017، تجوب بنا الروائية الليبية "نجوى بن شتوان"، عوالم العبودية القاسية في ليبيا، إبان الاحتلال العثماني.

بن شتوان: يخطئ العرب حين لا يسمون الواقع الاستعماري العثماني استعماراً فقط لأنّ تركيا دولة مسلمة

وفي سردية حزينة، تكشف عن عمق الجريمة التاريخية، يسقط المتخيل بين كفي الحقيقة، وهو ينصت إلى آهات العبيد وأنّاتهم، الباحثة في يأس عن محرر لم يأت، بعدما أغلقت عليهم الإمبراطورية العثمانية أبواب الأمل، وجمعتهم والحيوانات في زرائب معتمة، يتنفسون فيها الموت كل صباح، موتاً نلمحه في رحلة "محمد" الباحث عن حبيبته الجارية "تعويضة" التي أرسلها أهله إلى حيث لا يدري.

غلاف الرواية

تحترق "زرائب العبيد" بالقسوة والظلم، وتحرق معها كل أكاذيب التاريخ عن دولة الخلافة العثمانية، التي جعلت من العالم العربي سوقاً مفتوحاً للنخاسة، باعت فيه أجساد البشر وأمنياتهم في الحياة، قبل أن تسطو على مواردهم وتاريخهم، وأحلامهم المشروعة.

في حديثها لــ "حفريات"، تقول بن شتوان إنّها اختارت الحقبة العثمانية، كإطار زمني لروايتها؛ لأنّها الحقبة الأطول في تاريخ ليبيا، وكرّست بمجملها للنخاسة عبر أفريقيا وأوروبا، من خلال سفن القرصنة في المتوسط والساحل الليبي الأطول على المتوسط، فتركيا العثمانية كانت مسيطرة في ليبيا وحدها على ٢٠٠٠ كم على المتوسط، بالإضافة لسواحل تونس والجزائر ومصر.

اقرأ أيضاً: العثمانيون حاربوا عمر المختار .. وأردوغان يحارب أحفاده

وترى بن شتوان أنّ أهمية ليبيا تأتي من كونها مركزاً استراتيجياً كبيراً يتوسط القارتين، ويؤمن للأتراك نخاسة مفتوحة من أفريقيا لا تكلفهم شيئاً، وكانت النخاسة العثمانية في المتوسط بيضاء وسوداء (علوج وزنوج).

أمّا عن أحداث الرق في الرواية، فتؤكد أنّها حقيقية، والقصة رغم فظاعة أحداثها، ربما هي الألطف بين قصص العبيد في ليبيا، على مدى أربعمئة سنة عثمانية مظلمة.

وتتابع صاحبة "زرايب العبيد": بعد تنازل تركيا لإيطاليا عن ليبيا، دخلت إيطاليا في العام١٩١١، وانتهى الرق بشكله القديم، ليبدأ بشكل حديث وهو الاستعمار الاستيطاني، وأوروبا في ذلك العصر كانت تقفل الباب على العثمانيين، وتضرب تجارتهم، كما أنّ أوروبا الموقعة آنذاك فيما بينها على إلغاء الرق، كانت قد غيّرت جلدها استعداداً لبدء حقبة جديدة، هي الحقبة الاستعمارية الكاملة.

يثير حديث التاريخ شجوناً حين يقوم البعض باستدعاء الاحتلال التركي مرة أخرى، فيجلب معه الانكشارية إلى ليبيا من جديد

وعن استدعاء البعض للعثمانية الجديدة، تقول بن شتوان: "يخطئ العرب حين لا يسمون الواقع الاستعماري العثماني استعماراً، فقط لأنّ تركيا دولة مسلمة، وأقامت حكمها فيهم باسم الخلافة الإسلامية؛ مازال العرب يتعاملون معها على هذا الأساس، وهي تعود لاستعمارهم من جديد، وبنفس الإرث، والتاريخ حين يعيد نفسه، يتطلب أن يكون الغباء نفسه موجوداً لتتم العودة، فالعرب اعتبروا الاستعمار الأوروبي احتلالاً وقاوموه، بينما اعتبروا تركيا العثمانية دولة خلافة ولم يقاوموها، واعتبروا النخاسة تجارة قوافل في مجمل كتب التاريخ لتلك الحقبة، ولم يجرؤوا على تسميتها نخاسة أو تجارة عبيد؛ بسبب تغييب العقل العربي ببخور العمائم ورجال الدين، والتكايا وفقه الدروشة".

اقرأ أيضاً: فرج فودة قبل 28 عاماً: ماذا قدم لنا العثمانيون؟

وهكذا، يثير حديث التاريخ شجوناً عديدة، حين يقوم البعض باستدعاء الاحتلال التركي مرة أخرى، فيجلب معه الانكشارية إلى ليبيا من جديد، ليجعلها مركزاً للاتجار بالبشر، تحت ستار الدين، ووهم الخلافة المزعوم، فيقيم زرائب جديدة للمجلوبين والموهومين، ليصبحوا وقوداً لمحرقة جديدة، تلتهم الحاضر والمستقبل.

الصفحة الرئيسية