كيف أصبح الشأن الخاص مشاعاً في مجتمعاتنا؟

كيف أصبح الشأن الخاص مشاعاً في مجتمعاتنا؟


27/04/2021

 الثقة التي تغذي اعتقادنا بما يخص مفهوميّ الشأن العام والشأن الخاص، قد لا تتعدى التصورات والحدود النظرية التي رسمتها ثقافة مجتمعاتنا حولهما، حيث يتفق الجميع على أنّ صورة الشأن العام تتعلّق بما يخص عموم الأفراد وبما يعنيهم، وأنّ الشأن الخاص: هو ما لا يعني أحدٌ سواي ولا يجوز التدخل فيه، طالما لا يلحق هذا الشأن أيّ أذى بالآخر، ولكن ماذا لو كانت هذه المعرفة ناقصة؟ ماذا لو كانت حدود العام والخاص تعيّنهما في مجتمعاتنا سلطة الواقع وتفسّرها على هوى رغباتها، ألا يعني هذا أنّ الواقع كلّه سيدفع ثمن فهمنا الناقص لهما؟

اقرأ أيضاً: ما معنى "نحن لا نحلّ ولا نربط"؟

تحتّم الطبيعة الاجتماعيّة للأفراد انخراطهم بالشأن العام؛ إذ يتعلّق هذا الشأن بأمن ووجود الأفراد أنفسهم، أو بما يمكن تسميته بالخير العام، والذي يُفترض أن يكون المردود الأهم للعقد الاجتماعي، لذلك رأى "روسو" أنّ هذا العقد يجب أن ينطوي على الحريّة والمساواة، لأنّ الشأن العام يفقد معناه كلياً إذا ما فقد الأفراد حريتهم السياسيّة ومساواتهم القانونيّة، بمعنى إذا ما فقدوا مواطنتهم، وقد يفسّر ذلك ما قاله الصحفي البريطاني "روبيرت فيسك": "أتعلمون لما بيوت العرب في غاية النظافة بينما شوارعهم على النقيض من ذلك؟ السبب أنّ العرب يشعرون أنهم يملكون بيوتهم لكنهم لا يشعرون أنهم يملكون أوطانهم".

   تشكّل ملكيّة الوطن عتبة المساواة الأولى بين الأفراد، كما أنّ هذه الملكيّة الرمزية  تمنح الأفراد شعورهم بالانتماء

 تشكّل ملكيّة الوطن عتبة المساواة الأولى بين الأفراد، كما أنّ هذه الملكيّة الرمزية  تمنح الأفراد شعورهم بالانتماء، فمن دون هذا الشعور سيكون الانتماء للوطن انتماءً صورياً ضيّقاً؛ أي انتماء ما قبل مدنيّ ، لا تمليه قيم المواطنة التي يُفترض أن تكون قيم الحريّة والمساواة والعدالة الاجتماعيّة، إنما تمليه السلطة القهرية عبر آليات الشحن الإيديولوجي والاصطفاف، التي تستثمر الجوانب العاطفيّة للأفراد، فتشلُّ قواهم الفاعلة وتقصيها، كما تهمّش وجودهم وتشتته، عبر ممارسة مبدأ الوصاية، الذي يضمر عدم الاعتراف بأهلية الأفراد القانونيّة والسياسيّة، بالتالي تصبح قضايا الشأن العام قضايا هامشيّة في حياتهم، كونهم عاجزين عن إحداث أي فارق أو تغيير فيها.

 إنّ هذا الإحساس بالعجز لدى الأفراد ينتج عن مصادرة السلطة للحياة السياسية والعامّة للأفراد، والتي تحول دون تطوّر الوعي المدني الذي ينتجه التشارك الحرّ لا الاشتراك القسري، ممّا يؤدي إلى تقليص المواطنين إلى رعايا، ويجعلهم في الوقت نفسه وقوداً للمطامح التسلطيّة والقهرية، وهذا ما سيؤدي إلى إعراض الأفراد عن قضايا الشأن العام والابتعاد عنها، مما سيجعل المجتمع كاملاً يدفع ثمن هذا العزوف، وهنا لا بد من التساؤل مجدداً: هل يمكن للشأن الخاص أن يوجد في غياب وجود الشأن العام أم أنهما متلازمان ووجود أحدهما يفضي إلى الآخر؟ 

اقرأ أيضاً: ماذا فعلت بنا ثقافة الكمّ؟

إنّ غياب الشأن العام الذي يقوم على الحرية والمساواة والتشارك الحرّ  يجعل من الشأن الخاص مشاعاً يمكن لأي سلطة اختراقه، سواء كانت سلطة أمنية أو دينية أو مجتمعية أو تربوية، فأي سلطة من هذه السلطات تنصّب نفسها وصياً على الأفراد، وتصوغ قواعد تتيح لها التدخل في حياتهم؛ وتمظهرات هذا الأمر كثيرة في مجتمعاتنا وأولها الوصاية على المرأة، بالمقابل نفسها هذه السلطات تحوّل الكثير من قضايا الشأن العام إلى خصوصيات لا يجوز التدخل بها كالعنف الأسري وزواج القاصرات، مما يجعل الدساتير التي تضمن حرية الاعتقاد والتفكير والتعبير دساتير صوريّة ومُعطلة.

اقرأ أيضاً: عن وهم الحرية.. ما الفرق بين صناعة القرار واتخاذه؟

المجتمعات التي يختلط بها الخاص بالعام، وينقلب فيها الخاص إلى عام والعام إلى خاص هي في الحقيقة مجتمعات تخسر الاثنين معاً، ويمكن لنا أن نسميها مجتمعات اللا شأن حيث يصنعها الخوف وتغلفها الأسرار، فالروائي "بدر ابراهيم" في روايته "حياة مؤجلة"، يصوّر لنا كيف يتداخل العام والخاص في مجتمعاتنا لدرجةٍ تغيب فيها ملامح الاثنان معاً، ومن هنا يأتي تأكيده على أننا بحاجة إلى تغيير ثقافي يعالج المشكلة من جذورها وينهي حالة القمع التي تتلبس بلبوس الخير والصلاح وتحقيق المصلحة العامة وتتغنى بمعرفة مصلحة الأفراد أكثر منهم.

غياب الشأن العام الذي يقوم على الحرية والمساواة والتشارك الحرّ  يجعل من الشأن الخاص مشاعاً يمكن لأي سلطة اختراقه

هذا التغيير الذي يطرحه "بدر ابراهيم" انطلاقاً من الواقع المعيش، والذي يرى فيه كيف يتمّ توظيف الدين والموروث الاجتماعي لتكريس أحادية فكرية تضرب التنوع والتعددية، وتمكن فئات معينة من السيطرة على المجتمع وتوجيهه إلى حيث تريد؛ فالوصاية الاجتماعية التي ألغت حقّ الأفراد في الاختيار، وسلبتهم حريتهم وإرادتهم، حولتهم بتعبير بدر ابراهيم إلى آلات مبرمجة تنفذ ما يراد لها تنفيذه، فإلغاء إنسانية الفرد بما يعني إلغاء حقه في التفكير والاختيار، هو ما يجعل الوصاية الاجتماعية تتمكن من فرض ما تريد على أفراد المجتمع، الذين لا يملكون بعد تجريدهم من حقهم الطبيعي إلا الانقياد وراء ما تمليه عليهم الوصاية والسير في الطريق الذي يختار لهم.

اقرأ أيضاً: ما الذي جعل النكتة مصدراً إعلامياً لنا؟

لا تنفصل التربية على الشأن العام عن التربية على المواطنة؛ فالتربية على المواطنة كما يراها "جاد الكريم الجباعي" في كتابه "من الرعويّة إلى المواطنة" هي تربية الناشئة على احترام خصوصية الآخر وحقوقه وحريته وممتلكاته واحترام القانون وصون الممتلكات العامة وإدراك العلاقة الضرورية بين ما هو شخصي وخاص وما هو وطني عام، وأن العام هو ضمانة الخاص والفردي، ولكن في ظل الوصاية الاجتماعية والسياسيّة المفروضة على الأفراد، وفي ظلّ غياب الشأن العام ومشاعية واختراق الشأن الخاص، يتحول الحديث عن التربية على الشأن العام إلى مجرد دروس تعليمية ممّلة وشعارات تزين جدران المباني الرسمية وأبواب الممتلكات العامة.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية