لم تتخلَّ جماعة الإخوان المسلمين عبر تاريخها عن استخدام الدين في تسويغ سلوكها وأهدافها، وكانت رائدة بتوظيف الفتوى الدينية في خدمة مشروعها الملتبس.
تطويع النصوص الدينية
منذ النشأة وعلى خلاف كل فقهاء أهل السنة اعتبر الإخوان الإمامة من فرائض الدين، فجعل حسن البنا الحكم ومحاولة الوصول إليه ركناً من أركان الإسلام؛ إذ يقول في رسالة المؤتمر الخامس "الحكم معدود في كتبنا الفقهية من العقائد والأصول، لا من الفقهيات والفروع"؛ فجعل السعي لإقامة الخلافة التي هي أمر من أمور الاجتهاد الخاضعة لتطور الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، فريضة دينية يأثم من لا يسعى للوصول إليها، متسائلاً "أين نحن من تعاليم الإسلام؟"، ليجيب في نفس الفقرة: "كونوا صرحاء في الجواب وسترون الحقيقة واضحة أمامكم.."، ملقياً فتواه الأولى والأخطر "كل النظم التي تسيرون عليها في شؤونكم الحيوية نظم تقليدية بحتة لا تتصل بالإسلام ولا تستمد منه ولا تعتمد عليه"، معدّداً تلك النظم: "نظام الحكم الداخلي، العلاقات الدولية، القضاء، الدفاع والجندية، المال والاقتصاد للدولة والأفراد، نظام الثقافة والتعليم، بل نظام الأسرة والبيت، بل نظام الفرد في سلوكه الخاص، الروح العامة التي تهيمن على الحاكمين والمحكومين، وتشكل مظاهر الحياة على اختلافها، كل ذلك بعيد عن الإسلام وتعاليم الإسلام".
اعتبر الإخوان الإمامة من فرائض الدين فجعل البنا الحكم ومحاولة الوصول إليه ركناً من أركان الإسلام
لم يبقَ شيء لم يكفّره حسن البنا ويصفه بالتناقض مع الإسلام الخاص الذي يبشر به، ولكن كالعادة بلغة مراوغة غير صريحة درج عليها وتعلمتها الجماعة من بعده.
لقد طوّع البنا التفسيرات الدينية ولوى عنق النصوص، وصاغ إطاراً لفهم الإسلام، جعله ركناً من أركان عشرة يبايع بها الفرد الإخواني مرشده ليصبح جندياً في تلك الجماعة يسمع ويطيع، فجعل فهم الإسلام رهيناً بأصول عشرين سمّاها "أصول ركن الفهم"، قائلاً في رسالة التعاليم في معرض شرح أفكار جماعته وما يتوجب على العضو "وأن تفهم الإسلام كما نفهمه من خلال الأصول العشرين الموجزة كل الإيجاز".
وتحت غواية نصرة الدين باستعادة الخلافة وما يرتبط بها من مراحل، وبالتدليس العقلي الذي يتوسّل ببعض القواعد التي وضعها الأصوليون، كقاعدة ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فقد أصبح الواجب هو استعادة الخلافة عبر تمكين الجماعة التي تنهض بهذا الواجب، ولأنّ تلك الجماعة هي صاحبة الحق الحصري في النهوض بتلك المهمة، فقد أبيح لها ما لا يباح لغيرها؛ فإذا كانت النصوص الدينية والفتوى معنية بتمكين الشريعة من حياة الناس، فإنّ الفتوى لدى الإخوان معنية بتمكين التنظيم من تحقيق أهدافه.
شرعنة الإرهاب باسم الدين
استغرب البعض انطلاق فتاوى خرجت من أفواه محسوبين على الجماعة ممن أطلق عليهم لفظ العلماء والدعاة مثل الفتوى التي أطلقها مستشار وزير الأوقاف في عهد الرئيس الإخواني محمد مرسي، سلامة عبدالقوي في تصريحات لقناة "الشرق" الإخوانية في كانون الثاني (يناير) 2015، بأنّ قتل الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي من القربات إلى الله -عز وجل- وأكّد أنّ قاتله إن قُتل خلال هذه العملية فهو شهيد، مشدّداً على أنّ هذه الفتوى هي الشرع والدين، وأنّ الله -عز وجل- قال في كتابه "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم".
طوّع البنا النصوص الدينية وصاغ إطاراً لفهم الإسلام جعله ركناً من أركان عشرة يبايع بها الفرد الإخواني مرشده
ولم يكن بعيداً عن ذلك فتوى القيادي الإخواني أكرم كساب عبر صفحته في الفيسبوك في منتصف 2014 بجواز الإفطار لمن يشارك في مسيرات ومظاهرات الجماعة، مدعياً أنّ تلك المظاهرات هي صورة من صور الرباط والجهاد في سبيل الله، وأنّها أمر بمعروف ونهي عن منكر، مضيفاً أنّه "من احتاج من المتظاهرين الى الفطر، يستحب له الفطر إن كان في ذلك معونة إلى سير"، ليس ذلك فحسب؛ بل أفتى كساب بتفخيخ المنازل وتفجيرها في مصر، زاعماً أنّ "قوات الأمن في مصر لا يجوز فيها إلا القتل وإنّ من يفخخ منزله ويفجر نفسه بداخله، خلال اقتحام أجهزة الأمن يحتسب عند الله شهيداً وليس منتحراً".
كما أفتى أيضاً بأنّ العصيان المدني صورة من صور الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، مؤكداً في مقال نشره على الصفحة الرسمية بالفيسبوك لما يسمى باتحاد علماء المسلمين الذي يرأسه يوسف القرضاوى، "بأنّ العصيان المدني هو تعمد مخالفة قوانين وأوامر محددة لحكومة أو قوة احتلال بغير اللجوء للعنف، وهذا العصيان المدني أو الإضراب العام يصيب الحياة العامة بشلل تام"، وتعارض هذه الفتوى فتاوى سابقة للإخوان حرّمت الإضراب والعصيان المدني خلال حكم الرئيس المعزول مرسى، وقد زعم كساب في فتواه أن الجيش المصري يشبه قوات الاحتلال البريطاني؛ والغريب أن حسن البنا نفسه لم يدع لعصيان مدني في مواجهة قوات الاحتلال البريطاني، التي ادّعت الجماعة طويلاً مناهضتها والكفاح ضد وجودها في مصر!
الداعية التكفيري عضو الجماعة وجدي غنيم لم يشذ عن خط استخدام الفتوى في الخصومة السياسية
أما الداعية التكفيري عضو الجماعة وجدي غنيم فلم يشذ هو أيضاً عن هذا الخط في استخدام الفتوى في الخصومة السياسية، فقد حرّض بشكل مباشر على أعمال العنف في مصر، معبّراً عن أمنياته بأن تتحول مصر الى العراق، زاعماً وجود حملة صليبية على المسلمين في مصر، ودعا الإخوان الى مواصلة التظاهر مطالباً إياهم بالجهاد، وواصفاً معارضيهم بالمشركين مستنداً إلى حديث الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم".
وما لا يعرفه كثيرون أن للجماعة مدونة فقه سري كانت توجه سلوك أعضاء النظام الخاص وضعها حسن البنا وبعض تلامذته، سُميت بـ"قانون التكوين" لكي تشرعن العنف وتسوغه في نفوس أعضاء النظام الخاص.
الفتوى في الاتجاه وعكسه
والفتوى هي ما سوّغ جمع أموال الأعضاء وتحديد نصاب عشرة بالمائة من دخل الفرد للجماعة، زكاة شرّعها حسن البنا وأتباعه لم يأمر بها الإسلام، ولم تكتفِ الجماعة بجمع مقدار معلوم من دخول أعضائها؛ بل امتدت يدها في تمويل أنشطتها التخريبية إلى صناديق الجمعيات الخيرية التي سيطرت على إدارتها، وتكفلت الفتوى كالعادة بجعل الأموال التي تخرج عن نطاق أعمال البر لتمول أنشطة سياسية قربات الى الله، شأنها شأن الإنفاق على الفقراء والمساكين؛ فماكينة الفتوى لا تتوقف عن تلبية أوامر التنظيم، وهي ماكينة قادرة على أن تصدر الفتوى في الاتجاه وعكسه دون أي حرج.
لسان فتوى الجماعة صمت عن اشتراك إخوان العراق في المجلس الانتقالي الذي مثّل قوى الاحتلال الأمريكي العام 2003
فالقرضاوى الذي يفتي الجندي الأمريكي المسلم الذاهب للعراق بأن لا يرفض الخدمة العسكرية وينفذ أوامر قيادته، هو ذاته الذي يستحث جنود وضباط الجيش المصري على الهرب من الخدمة وعدم تنفيذ أوامر قياداتهم، وقد أفتى من قبل بجواز العمليات الانتحارية وسمّاها عمليات استشهادية، لكنه ما لبث أن قال إنّ هذه العمليات التي كانت مباحة قبل سنوات للفلسطينيين كوسيلة للجهاد ضد إسرائيل لم تعد جائزة؛ مضيفاً في حوار أجراه معه سلمان العودة على فضائية الحوار في تشرين الثاني (نوفمبر) 2016 أنّ "الضرورة التي أباحت هذه الوسيلة لم تعد متوفرة والظروف تغيّرت بالنسبة للفلسطينيين الذين كانوا محاصرين؛ مبيناً أنّ الفلسطينيين يملكون وسائل ثانية للمقاومة ولم تعد تجوّز هذه العمليات.
ماكينة الفتوى لا تتوقف عن تلبية أوامر التنظيم ولا تتحرج من إصدار الفتوى في الاتجاه وعكسه
ولسان الفتوى في الجماعة صمت عن اشتراك إخوان العراق في المجلس الانتقالي الذي مثّل قوى الاحتلال في اعقاب الغزو الأمريكي العام 2003، بينما أخذوا يناشدون الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما التدخل في مصر بعد ثورة 30 يونيو، وهذا لا يخرج على النهج الإخواني في التناقض الداخلي؛ فشعارات مثل: "إلغاء اتفاقية كامب ديفيد" و"مناهضة التطبيع" التي استندت إلى الفتوى الدينية وخدمت الإخوان أيام وجودهم في المعارضة، أصبحت غير صالحة للمرحلة الجديدة عندما تسلموا الحكم.