قناة الجزيرة والانفصال عن الواقع

قناة الجزيرة والانفصال عن الواقع

قناة الجزيرة والانفصال عن الواقع


22/01/2024

عبدالغني سلامة

لكي تفهم حقيقة هذا العدوان الغاشم وغير المسبوق، تحتاج أولاً أن تنظف دماغك من كل ما علق به من ترهات إعلامية، خاصة إذا كنت تتابع الأخبار على قناتَي "الجزيرة" و"العربية"، وسائر القنوات الفضائية الأخرى.. وتستقي معلوماتك وتحليلاتك من "فيسبوك" ومجموعات "الواتس أب".. ولسوء الحظ، فقد تعرضنا جميعاً لغسيل أدمغة، وحملة تضليل ممنهجة سنحتاج عقوداً حتى نبرأ منها.

في توصيف الحرب، أول خطأ نقترفه هو تسميتها "حرباً"؛ إذ إنَّ الحرب تُشن عادة بين دولتين، أو بين جيشين.. ما يجري في غزة هو عدوان غاشم تقترفه دولة متخمة بالقوة، ولديها جيش مدجج بأعتى الأسلحة يهاجم ويعتدي على شعب أعزل، يضرب ويقصف أهدافاً مدنية، ويقترف مجازر فظيعة بحق المدنيين، جميع الضحايا من المدنيين، 70% منهم أطفال ونساء، والبقية مسنون وآباء وشبان وعائلات كانت آمنة في بيوتها.. وفي الوقت ذاته ثمة حركة مقاومة، عبارة عن مجموعات مسلحة شجاعة ومضحية، تدافع عن نفسها، وعن شعبها، بأسلحة خفيفة عبارة عن رشاشات وقذائف هاون وصواريخ آر بي جي وغير ذلك، بما لا يُقارن بأي شكل مع أسلحة وقدرات العدو الفائقة والمتطورة والفتاكة.. إذاً، هي ليست حرباً بالمفهوم الكلاسيكي للحروب، والتسمية الصحيحة هي حملة إبادة جماعية وتطهير عرقي، أو حرب الإبادة والتهجير.

وتزعم إسرائيل أنها تحارب "حماس" فقط، وتصفها بالإرهابية، وهذا أيضاً خداع وتضليل، فتحت هذا الغطاء تواصل عدوانها على الشعب الفلسطيني بكل مكوناته، لتدمير مقدراته، والقضاء على مقومات الحياة والبقاء حتى يتحول القطاع إلى مكان غير صالح للعيش، بما يدفع بسكانه للهجرة، ليتضح أن هدف إسرائيل الحقيقي هو التدمير وقتل المدنيين، وأن هؤلاء الشهداء والضحايا ليسوا أعراضاً جانبية للصراع؛ بل هم الهدف بحد ذاته.

من خلال متابعتك الأخبار، خاصة على قناة الجزيرة، ستشعر أن ما يجري عبارة عن حرب شبه متكافئة، حيث يتم التركيز على ضربات المقاومة، صواريخ مقابل صواريخ، ودبابات مقابل قاذفات، وبحسب تحليلات الدويري، فإن إسرائيل خسرت أزيد من ألف دبابة وآلية، بمتوسط خمسة جنود في كل آلية، سيكون عدد القتلى الإسرائيليين أزيد من خمسة آلاف.. ويضيف: إن "حماس" هي من تدير المعركة وتتحكم فيها، والجيش الإسرائيلي لا يدخل إلا من المناطق الرخوة، وغير قادر على السيطرة، فيضطر للانسحاب.

هنا سيشعر المتابع (الفلسطينيون، وعموم الجماهير العربية والإسلامية) بأن هزيمة الجيش الإسرائيلي مسألة وقت، فتصبح إطالة أمد الحرب مطلباً وطنياً، طالما أنها ستعني هزيمة إسرائيل، وبما أن المقاومة تحقق هذه الانتصارات، فلا حاجة لفعل أي شيء، سوى الدعاء بتعجيل النصر، والمشاركة في التظاهرات التي ترفع صور أبطال المقاومة، وتهتف لـ"حماس".

وإذا نشر أحد صور الدمار والخراب، وجثث الشهداء الملقاة على قارعة الطريق، وطوابير الخبز والغاز والمراحيض، وأكوام النفايات، أو إذا تحدث عن معاناة النازحين، وجوعهم وعطشهم وخوفهم، فإنه يثبط الهمم، ويهدم المعنويات، ويبث ثقافة العبيد، ويتم وصفه بالمرجف والمنهزم؛ ذلك لأنه خدش الصورة المثيرة عن انتصارات المقاومة، والمسافة صفر، وتدمير الدبابات، لأنه خرّب عليهم نشوتهم وفرحتهم بتلك الصور، وأفقدهم راحتهم، وأخرجهم من تلك الفقاعة المريحة والآمنة التي يعيشون فيها أحلام الانتصارات.

لا أقصد هنا التقليل من شأن المقاومة، أو الاستهانة بما تقوم به من بطولات، فهذه حدود إمكانياتها، لكني أردت القول: إن وسائل الإعلام، وبالذات "الجزيرة"، تنقل جزءاً من الصورة، وتغفل الجزء الباقي والأهم، وأنها لا تمثل الحقيقة، ولا تعبر عما يجري في غزة، وهذا النوع من التضليل له أغراض سياسية لا علاقة لها بأهداف وطموحات الفلسطينيين.

يا سادة يا كرام.. ثمة واقع حقيقي، وآخر افتراضي.. في الواقع الحقيقي هناك جيش احتلال غازٍ متخم بالقوة، لديه أحدث المقاتلات الحربية، وغواصات وأسطول بحري، وآلاف الدبابات، وصواريخ موجهة بالليزر، وقنابل ذكية وأخرى غبية، وجميع قطاعاته متصلة بقمر اصطناعي إسرائيلي، ويتلقى دعماً أميركياً بلا حدود وخطوط إمداد مفتوحة.. مقابل مقاومة باسلة تفتقر لكل ما سبق، لكنها شجاعة وتقاتل بما لديها من أسلحة بسيطة.

صحيح أن الإرادة والتضحية تفعل الكثير، وتجابه الحديد والنيران، وتصنع مآثر البطولة والفداء، وتلحق بالعدو خسائر جسيمة.. لكنها لا تحسم حرباً من هذا النوع.. هناك موازين قوى، وقوانين علمية لإدارة المعارك، وشروط للنصر، وأدوات لا بد من توفرها لحسم أي حرب، وواقع سياسي، ومعادلات إقليمية ودولية.. إغفالها، أو تجاهلها يعني الهزيمة.

وللبقاء في واحة الأمان، وللإمعان في التضليل، والعيش في الأوهام.. تقوم بعض وسائل الإعلام بالتركيز على الخسائر الإسرائيلية، وتتجنب ذكر الخسائر الفلسطينية، أو تقوم بمقارنتهما معاً بلغة الأرقام.. مقتل مئات الإسرائيليين أمر رائع مقابل مائة ألف فلسطيني بين شهيد ومفقود وجريح.. تدمير عشرات الدبابات أمر عظيم ومقبول مقابل تدمير مائتي ألف شقة سكنية، بل وتدمير غزة بالكامل.. نزوح مستوطني غلاف غزة ومستوطنات الشمال إنجاز عظيم مقابل نزوح مليونَي فلسطيني.. علماً أن النازحين الإسرائيليين يسكنون في الفنادق والمنتجعات ويتلقون رواتب وتعويضات، ويعيشون في نزهة سياحية، أما النازحون الفلسطينيون فيقيمون في مراكز إيواء بائسة، وينامون في الشوارع، يمضون نهاراتهم في البحث عن الحطب، والوقوف في طوابير مذلة، ويقضون لياليهم في البرد والخوف، ويعيشون في ظروف غير إنسانية، في انتظار المجهول.  

في غزة هناك شعب يباد، وعائلات تدفن تحت الأنقاض، ومليونا مشرد يعانون الذُل والهوان، خسروا بيوتهم وممتلكاتهم، يعيشون في بيئة بائسة وسط انتشار الأمراض، وشبح المجاعة، وبين أكوام النفايات.

ستنتهي هذه الحرب اللعينة قريباً، وستكون مطالبنا العودة إلى حدود السادس من أكتوبر، والسماح بعودة النازحين من الجنوب إلى الشمال، وإدخال المساعدات.. وسنحتاج سنتين لإزالة مائة ألف طن من النفايات، وملايين الأطنان من الردم، وسنوات طويلة قبل أن يتأمّن للعائلات مسكن مؤقت معقول، وسنوات أخرى حتى تبرأ جراحنا النفسية والجسدية.

سيكون إنجازنا الأهم إفشال مخطط التهجير القسري.. والتقليل من أعداد من ينتظرون أي فرصة للهجرة الطوعية.

أما متابعو الأخبار عن بعد، ومناضلو الكيبورد، فسينتظرون حرباً قادمة، وفقاعة أوهام جميلة وجديدة.

عن "الأيام"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية