قبل أن نصبح حمولة زائدة وعبئاً على شعبنا

قبل أن نصبح حمولة زائدة وعبئاً على شعبنا


08/10/2020

قبل أن نصبح حمولة زائدة وعبئاً على شعبنا والإقليم والعالم:

أثار لقاء الأمير بندر بن سلطان، أحد أبرز رجال الدولة السعودية المعاصرين، غضب بعض النخب السياسية الفلسطينية، ورغم أنّ الرجل قدّم قراءة سياسية لسلوك القيادات الفلسطينية المتعاقبة، مجتزأة من سياقها التاريخي، وفي الجوهر مسؤولية النظام العربي الذي هندس المستعمر تفاصيل دوله السبع في حينه. لكن هذه ليست مسؤولية بندر الذي يقدم قراءته السياسية الخاصة لشعبه السعودي ولشعوب الخليج أولاً، ولا هو يدعي انه مفكر ولا عالم سياسة.

سيكون مبرراً ومفهوماً قلب الطاولة على العرب والعالم الظالم، إذا كان لدينا تحضيرات الكيماوي أو البيولوجي أو النووي، أو أنّ قوى الثورة الإسلامية العالمية بدأت بالزحف لتحرير فلسطين!

لم يتمهل الشعبوي الفلسطيني طويلاً، حتى بدأت الملطمة "العفوية" بالردح، وإعادة إنتاج كل خطاب الخمسينات أيام الحرب الباردة وتوزع العرب على قطبيها، لكنّ الإضافة المستجدة في الخطاب "الشتائمي" هي لتيارات الإسلام السياسي المستقطَبة اليوم لطهران واسطنبول. 

ما يحتاج إلى قراءة في خطاب بندر ليس التفاصيل، وإنما ما تستبطنه الأيام القادمة من إعادة للنظر بكل الرواية الفلسطينية، وما يستتبعها من مفهوم للحقوق وللعدالة والحرية، والمبدأ المؤسس لفكرة تقرير المصير بعد الحرب العالمية الثانية وتصفية الاستعمار. لم يكن الفلسطيني النابه والنقدي بحاجة إلى صدمة بندر كي يستفيق، فهي تنبيه الضرورة.

 فالرد الغاضب والشتّام لا يفيد السياسة، ولا يستنهض شعوباً. الفلسطيني قبل غيره هو المعني بالمراجعة الجدية والعميقة لمسيرته الكفاحية، منذ الثورة الأولى وقيادة الحاج أمين الحسيني إلى اليوم، هذا دورنا وليس دور الآخرين ليشرحوا ويراجعوا نيابة عنا، فالتاريخ لا يرحم الكسالى فكرياً والغافلين سياسياً.

دور القيادة - إذا كان هناك قيادة -هو أن لا تترك الانهيار في جدار أوهامنا وأخطائنا للعوام والعواطف. فالوقت والمتغيرات لا تنفعها الخطابات الشعبوية التي تفيد ساسة الصدفة المحمولين على مركب الحالة المريضة. الخطاب الفلسطيني العالي ضد العرب، والخليج تحديداً، لا وظيفة سياسية وعملية له، إلا إذا كان في إطار إستراتيجية وطنية تزن بميزان الذهب حركتها وتحالفاتها.

 سيكون مبرراً ومفهوماً قلب الطاولة على العرب والعالم الظالم، إذا كان لدينا تحضيرات الكيماوي أو البيولوجي أو النووي، أو أنّ قوى الثورة الإسلامية العالمية بدأت بالزحف لتحرير فلسطين، أو أنّ الجيش الصيني قلب الموازين واستعاد تايوان، وهو في الطريق إلى مضيق هرمز، وأنّ نظاماً دولياً عادلاً وأخلاقياً وجه الضربة القاضية للهيمنة الغربية الأمريكية على العالم.

وحتى لا ندور للمرة الألف في حلقة مفرغة، أو نعيد كلام نخب السياسة المترفّعة عن الاشتباك مع الواقع نقول:

مهمتنا تبدأ بإعمال العقل والعلم، بتشكيل خلية أزمة استراتيجية، من خارج النادي التقليدي الفاشل، وإعادة الاعتبار للمثقف السياسي والمفكر الذي رافق الثورة الفلسطينية قبل أن يحدث الطلاق البائن بين المفكر والمثقف والسياسي منتصف السبعينات. مهمة خلية الأزمة هي إعادة إنتاج الفكرة الفلسطينية، ومراجعة المسار لمواجهة التصفية. الوقت لم يفت، بيدنا نستطيع إنقاذ أنفسنا قبل أن نصبح حمولة زائدة وعبئاً على شعبنا والإقليم والعالم.

الرد الغاضب والشتّام لا يفيد السياسة، ولا يستنهض شعوباً. الفلسطيني قبل غيره هو المعني بالمراجعة الجدية والعميقة لمسيرته الكفاحية، منذ الثورة الأولى وقيادة الحاج أمين الحسيني إلى اليوم

وأختم بالدرس العظيم لمعنى القيادة التاريخية من تجربة جنوب أفريقيا ونيلسون مانديلا. بعد نحو ربع قرن من السجن في جزيرة معزولة، مطلع التسعينات وصل نظام الفصل العنصري إلى نهاياته، فتح ديكليرك حواراً مع مانديلا الأسير لوقف العنف والوصول إلى تسوية، اعترض غالبية القيادة في المؤتمر الوطني، على فكرة المشاركة السياسية المتساوية وعدم الانتقام والبلاد لكل ساكنيها، والأهم هو التمسك بالشرعية الدستورية القائمة.

كانت زوجته ويني مانديلا، رفيقة عمره، أول المحرضين على رفض فكرة التسوية. لكنّ مانديلا أعلن بكل صلابة أنّ دور القائد أن يقود شعبه للحرية والعيش الكريم. ورداً على دعوة السلاح بدل السلام، عقد مؤتمراً صحفياً وأعلن انفصاله عن زوجته، وخاطب الجموع السوداء الغاضبة والمعارضة السياسية في المؤتمر القومي، بالقول إنّ الفيصل هو الانتخابات والاستفتاء على البرامج السياسية الداعية إلى التسوية التاريخية مع البيض والمعارضين لها من الأغلبية السوداء.

 فاز مانديلا وفاز العقل في المؤتمر الوطني. اعترف مانديلا بعدها أنّ الاتفاق مع البيض كان مجحفاً أخلاقياً وعملياً، وقال كلمته المشهورة "سيتعلم أبناء شعبي السود، ولو بعد عشرين عاماً، كيف يديرون الدولة ويتمكنون اقتصادياً وتعليمياً وصحياً، سيتعلمون معنى وأهمية الحياة، لكنّ المهم وقف دورة العنف".


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية