فوضى السلاح: ما هو مصير الأسلحة التي خلفها الانسحاب الأمريكي من أفغانستان؟

فوضى السلاح: ما هو مصير الأسلحة التي خلفها الانسحاب الأمريكي من أفغانستان؟


23/08/2021

إسلام أبو العز

“حلت البنادق الأميركية إم4 وإم 16 محل بندقية كلاشينكوف 47 الأيقونية في أيدي مقاتلي طالبان،  هناك عشرات الآلاف منها ضمن عتاد ومعدات أميركية تكلفت مليارات الدولارات باتت في أيدي مقاتلي الحركة”.

بهذه العبارة السابقة، يسلط تقرير لرويترز الضوء على رمزية الظهور الكثيف للأسلحة الأميركية في أيدي مقاتلي حركة طالبان، خاصة خلال الشهور القليلة الأخيرة إبان اجتياحهم المدن الأفغانية، وصولاً للعاصمة كابول قبل أيام، وما صاحب ذلك من انهيار سريع للقوات النظامية، والتي أصبح مصير الأسلحة والمعدات بل وحتى قوائم أسماء الجنود والضباط في حوزة طالبان عملياً.

وفيما أعلن المتحدث باسم حركة طالبان، ذبيح الله مجاهد، عن عفو عام أصدرته الحركة عن كل عناصر القوات النظامية، وتشكيلهم -حسب تصريحات سابقة لممثلي الحركة- “نعلم من هم ولدينا سجلاتهم، وهم الأن بمثابة قوات احتياط سيتم استدعاءها وقت الحاجة”، فإن تصريحات للرئيس الأميركي، جو بايدن، أتت لتؤكد جدية الإدارة الأميركية الحالية حول عدم بقاء قوات أميركية في أفغانستان لمساندة الحكومة الأفغانية المنهارة بأي شكل خارج مطار كابول ولإجلاء الفارين من حكم طالبان، تحت دعوى “لن نبقى لنحارب معركتهم عنهم”، واصفاً انهيار القوات النظامية الأفغانية بـ”التقاعس والاستسلام السريع”، متابعاً بعد أيام من هذا التصريح بـ”لم نكن نتوقع سرعة الانهيار”.

يطرح مشهد الانسحاب والانهيار السابق أسئلة كثيرة من أهمها مصير الأسلحة والمعدات والتكنولوجيا والموارد الأميركية التي كانت في حوزة القوات النظامية، والتي استحوذت عليها طالبان بشكل مطرد طيلة الشهور السابقة، لتصل الذروة في اعتبار أن كل هذه القوات مجرد قوات احتياطية لحركة طالبان، فيما من يمتنع عن التعاون أو تسليم السلاح يدخل في قوائم اعتقال وتصفية سرية، كشفت عنها الأمم المتحدة قبل يومين، وهو ما يطرح كثير من الأسئلة حول مشهدية الوضع الميداني الأفغاني، ومألات المراوحة التي تتبعها حركة طالبان بين فرض السيطرة بوجه جديد، وما بين إرجاء الاقتتال الأهلي الذي يشكل السلاح الأميركي عامل مهم في تشكيل مسارات مستقبل أفغانستان وآسيا الوسطى ككل.

ماهو مصير القوات النظامية وسلاحها؟

تجدر الإشارة إلى أنه على الرغم من تفوق القوات النظامية الأفغانية من حيث العدد والعتاد والأسلحة والامكانيات التكنولوجية وكذلك الشرعية الوطنية، فإن قوات طالبان استطاعت اكتساحها في أقل من شهر، وهو ما فاق توقعات قادة طالبان أنفسهم، الذين كانوا حتى مطلع الشهر الماضي يعتبروا استيلائهم على المدن من الحدود نحو كابل استراتيجية طويلة الأمد ستجبر الحكومة على التفاوض معهم من موقع أدنى خاصة بعد رحيل القوات الأميركية، وذلك بغية الوصول لاتفاق يضفي شرعية على وصول طالبان للسلطة بصيغة تجمع ما بين قوة الأمر الواقع وتجنب حرب أهلية شاملة.

وأتت ذروة هذا الانهيار السريع قبل أيام بدخول طالبان لكابول وفرار القوات الحكومية، بما خالف التوقيتات الأميركية المعلنة لحلفائها المعنيين بالوضع في أفغانستان في الداخل والخارج، والتي كانت تدور حتى مطلع هذا الشهر الجاري حول سقف 6 أشهر لإتمام الانسحاب بما يمكن الحكومة الأفغانية من إدارة صراعها مع طالبان بتوازن يستند لما أسماه بايدن في وقت سابق بـ”الكفاءة العالية في التسليح والتدريب لما يتجاوز 300 ألف عنصر كُلفة إعدادهم لهذه اللحظة تجاوزت في بعض التقديرات سقف 120 مليار دولار. وهو ما يشي بجدية التكهنات والتحليلات التي فسرت وتيرة ما حدث على الصعيد الأفغاني بأنه يأتي وفق حسابات داخلية أميركية مرتبطة بأجندة تشريعية وانتخابية، سواء في الصراع بين الحزبين الديموقراطي والجمهوري، أو حتى بين تيارات الحزب الديموقراطي نفسه.

ويشكل التساؤل السابق ركيزة مجمل ردود فعل دوائر السياسة والإعلام الداخلية في الولايات المتحدة بكافة مستوياتها واستقطابيتها؛ خاصة مع تعاظم كُلفة تسليح وتدريب القوات النظامية الأفغانية التي باتت في حوزة طالبان بعد 20 عام من التواجد الأميركي هناك، ناهيك عن أسلحة وعتاد متطور وبروتوكولات تدريبية وتنفيذية وتقنيات، مازالت واشنطن تحظر بيعها لدول صديقة.

أكثر من تريليون دولار كُلفة تواجد القوات الأميركية هناك، وما يماثل هذا الرقم تقريباً لتسليح وتدريب القوات الوطنية الأفغانية وإعطاءها شكل مؤسساتي وهوية وطنية بعيداً عن الانتماءات القبلية والعرقية والإثنية المتناحرة هناك، لم تكفي لتفادي ما حدث على مدار الأسابيع والأيام القليلة الماضية، والذي تفوق حتى عن ما حدث في تجربة الجيش العراقي الذي سلحته ودربته واشنطن في التصدي لإرهابيي داعش عند اجتياح شمال العراق منتصف 2014؛ حيث تفككت القوات الأفغانية بكافة أفرعها( جيش، أمن، مخابرات، قوات خاصة، شرطة، جوية) وبشكل سريع قد لا يُبنى عليه مستقبلاً مثلما حدث في العراق حيث إعادة تنظيم تنشيط وتشغيل الكوادر في أطر جديدة -الفرقة الذهبية على سبيل المثال- ساعدت في دحر داعش بعد ذلك.

هذه الامكانية قد يكون من المستحيل تكرارها في الساحة الأفغانية، فناهيك عن سيطرة وسطوة طالبان، فإن الاستحواذ الكبير والسريع على أسلحة وعتاد وبيانات هذه القوات، أفقدها الغطاء المؤسساتي الوطني الذي كانت تحظى به منذ نشأتها، وأرجع عناصرها لمظلات وأطر قبلية وعرقية، تجعل الصراع مع طالبان -حال استمراره- مجرد اقتتال أهلي معتاد في السياق الأفغاني، والذي وفق مجريات الأحداث منذ مطلع العام الجاري وحتى دخول طالبان للقصر الرئاسي في كابول قبل أيام، أمراً غير محبذ لكافة القوى في الداخل الأفغاني -عدا إقليم بانجشير- وكذلك روافدها الخارجية، وفي حدود ابقاءه تحت سقف الحرب الأهلية.

هندسة فوضى السلاح

الانهيار السريع للقوات النظامية والاستجابة الأميركية تجاه هذا الانهيار، الذي فاجئ حتى قادة طالبان أنفسهم ، وجعلهم يصدروه كنتيجة لانتفاضة شعبية ضد الحكومة وفسادها، بموازاة اجتياحهم العسكري للمدن الأفغانية، جعل المراوحة التي تتبناها طالبان حالياً بقوة السلاح، هي فرض الأمارة الإسلامية-ولو بصيغة اكثر مرونة عن ما كانت عليه قبل-  كأمر واقع وكبديل عن حرب أهلية، وهو الأمر الذي يفسر تصريحات قادة الحركة حول ضبط فوضى سلاح القوات النظامية المنهارة الذي لم تستحوذ عليه الحركة بعد، وتسجيله وعدم الاصطدام مع من يتملكه الأن من مكونات عشائرية وقبلية، وكذلك اعتبار المقاتلين الحكوميين سابقاً بمثابة قوة احتياط.

وبالابتعاد قليلاً عن المشهد الإعلامي، فإن الأجواء السياسية في المشهد الأفغاني تشي بتعزيز اتجاه توافقي كبديل لحتمية الاقتتال الأهلي، وهو الاتجاه الذي قد تكون ذروته مستقبلاً تقاسم السلطة؛ حيث بدأت طالبان في حوار مع قوى سياسية أفغانية على رأسها الرئيس السابق حامد كرزاي، وذلك ضمن إطار ما أسموه بـ”مصالحه” تفضي إلى حكومة توازن بين مركبات الاجتماع الافغاني وايدلوجية طالبان الإسلامية في نسختها الجديدة.

وتشكل استراتيجية طالبان الميدانية في إحكام سيطرتها على البلاد بوصلة ومؤشر هذه الحوارات التي يبدو أنها حتى الأن تكتيكات مؤقته ومناورات تؤجل لحظة الصدام الأهلي، أو على الأقل توجيهه من حيث التوقيت والأولويات بما يخدم استراتيجية الحركة، خاصة مع غياب آلية التي من المفترض أن تفضي لصيغة تشاركية في ظل حكم إمارة إسلامية، وموقع طالبان كحركة غير هرمية بها، والأهم مسألة سلاح القوات الحكومية المنحلة، وهل ستخضعه طالبان لها بالكامل أم سيكون بمثابة وقود لاقتتال أهلي وشيك، يأتي كبديل حتمي لصيغة طالبان الجديدة للإمارة الإسلامية، التي لم تتبلور حتى كتابة هذه السطور.

 هنا تأتي تصريحات بعض وجوه ومسؤولي الحكومة الأفغانية المنهارة، حول ضرورة المقاومة ضد طالبان وأن المعركة لاتزال مستمرة، في سياق استباقي على المسار الذي بدأت طالبان تنفيذ؛ فالتكتلات المناهضة للحركة على اختلاف دوافعها ومشاربها، كانت في حالة خلاف واحياناً صدام مباشر مع الحكومة الأفغانية، بما يعني أن سلاح القوات النظامية بعد انهيارها إن لم يصبح معظمه في حوزة حركة طالبان، فإنه أضحى تحت مظلة ولاءات قبلية وعرقية وجهوية، ابعد ما تكون عن الانضواء تحت علم أفغانستان الوطني حتى وإن كانت مناهضة لطالبان، التي بدورها بدأت في عملية حوار وتواصل مع قادة سياسيين وأمنيين وعسكريين سابقين في الحكومة لبحث ما أسموه بـ”مصالحة وتوافق عبر مجلس حكم لا يقصي أحد”.

وتراوحت السيناريوهات أميركية ما بين قدرة الحكومة على البقاء في كابول لشهور قبيل توقيع اتفاق نهائي مع طالبان سواء لتقاسم السلطة أو تسليمها، وبين عجز الحركة عن فرض سيطرتها بالكامل على افغانستان حتى نهاية العام الجاري، وأخيراً الوصول لمشهد توافق إجباري من جانب طالبان على باقي مكونات الاجتماع السياسي الأفغاني. وهو ما يحدث بالفعل مع فارق الانهيار السريع للقوات النظامية، والذي مكن طالبان من المضي قدماً في فرض رؤيتها، وقبول دول الجوار وليس فقط واشنطن بأمر واقع مفاده حتمية التعاطي مع الحركة.

ويحسم السابق فرضية تعمد تنفيذ واشنطن لانسحابها من أفغانستان كمان جرى، كخطوة مقصودة من إدارة بايدن التي باتت تلوم القوات الحكومية على ترك المدن الأفغانية والعاصمة تقع في إيدي مقاتلي الحركة، وكذلك نسبة كبيرة من ترسانة أسلحة هذه القوات، لتفويت فرصة اشتعال اقتتال أهلي مباشرة بعد خروج القوات الأميركية، وتأثير ذلك على حسابات داخلية/انتخابية في واشنطن، حسب ما صرحت به المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، التي أرجعت مشهد دخول طالبان لكابول وما صاحبه من فوضى استثنائية لـ”أولويات انتخابية داخلية في واشنطن”، فيما ذهبت رئيسة الحزب الجمهوري، روز ماكدانييل، لإرجاع الطفرة التي شهدها تسليح طالبان لتعمد بايدن وإدارته تنفيذ الانسحاب بما يتوافق مع اجندة وتوقيت الحزب الديموقراطي بشكل قصير المدى، دون الانتباه لما يعنيه وقوع هذا الكم النوعي من الأسلحة في يد الحركة، وتداعيات انتشاره في أفغانستان وآسيا الوسطى ككل.

أرقام وملاحظات

يمتد تأثير حسابات الداخل الاميركي على مشهد الانسحاب من أفغانستان إلى مطالبات واستجوابات نيابية حول احصائيات دقيقة لما تركته الولايات المتحدة من اسلحة ومعدات وتكنولوجيا في أفغانستان، وبالذات تلك التي كانت في حوزة القوات الحكومية، ودور المتعاقدين الأميركيين في توريد عتاد وأسلحة وتدريب بعشرات المليارات من الدولارات خلال العقديين الماضيين؛ حيث معظم ما وقع في أيدي طالبان من أسلحة ومعدات كانت قد وردت للحكومة الأفغانية عبر شركات ومتعاقدين أميركيين.

يعني السابق ان التقديرات المنتشرة حتى الأن حول كم ونوع السلاح الأميركي الباقي في افغانستان، سواء وقع في يد طالبان أم لا، لا تتسم بالدقة الكاملة، خاصة مع صعوبة حصر ما وقع مما قيمته عشرات المليارات في يد الحركة او انتشاره بين القبائل هناك. والأهم دور هذا السلاح في الاقتتال الأهلي الوشيك وكذلك العملية السياسية الموازية له، وامتداد ذلك لعلاقة دول الجوار بتطورات الميدان الأفغاني.

وفيما يلي أرقام واحصائيات تقريبية للسلاح الأميركي المتبقي في أفغانستان، ومحاولة تقدير نسبة ما استحوذت عليه طالبان في الشهور الأخيرة.

حسب تقرير المساءلة الحكومية الأميركي وتقارير المفتش العام الخاص بإعادة إعمار أفغانستان، فإنه من 2003 حتى 2019، نقلت واشنطن بشكل رسمي عبر البنتاجون فقط، دون المتعاقدين المدنيين، ما قيمته نحو 111 مليار دولار من معدات وأسلحة للحكومة الأفغانية، تنقسم للتالي:

– حوالي 75 ألف مركبة برية تتنوع بين الخفيف ونصف المدرع والمدرع والمضاد للألغام.

–  نحو 600 ألف بندقية آلية ورشاش وقاذف قنابل مختلفة الأعيرة والطرازات والاستخدامات.

-حوالي 180 ألف وحدة اتصالات، درونز مراقبة واستطلاع، أجهزة رؤية ليلية، تقنيات تتبع واستطلاع مختلفة الأنواع والاستخدامات.

– حوالي 220 طائرة معظمهم طائرات نقل، وتشمل مروحيات بلاك هوك وطائرات سي27، و4 طائرات سي 130.

أما عن ما وقع في حوزة طالبان منذ مطلع العام الجاري وحتى يوليو الماضي:

– بين 40 إلى 60 ألف بندقية قتالية ورشاش مختلفة الأعيرة

– 420 مركبة قتالية

– 1700 وحدة رؤيا ليلية واتصالات ومراقبة

ما استولت عليه الحركة في أخر شهر:

نحو 15 ألف بندقية آلية

أكثر من 3 مليون ذخائر متنوعة معظمها أسلحة خفيفة.

نحو 2000 مركبة قتالية

630 عربة دفع رباعي خفيف

130 عربة مضادة للألغام

35 مدفع وهاونات

40 مروحية بلاك هوك

3 منظومات مضادة للطائرات

60 درونز من طراز سكان إيجل

وتجدر الإشارة أن الأرقام السابقة تخص السلاح الأميركي الرسمي فقط وليس الروسي الذي يرجع معظمه إلى فترة الثمانينيات من مقاتلات حربية ودبابات. كذلك لا تتضمن هذه الأرقام ما اشترته الحكومة الأفغانية بشكل مباشر من شركات ومتعاقدين مدنيين بخلاف البنتاجون.

ويجب الإشارة أيضاً إلى أن تكنولوجيا القتال والأسلحة الأميركية تشكل متغير نوعي كبير لايزال رصده وتحليله قيد التبلور؛ فمثلاً تقنيات الاستطلاع والمراقبة والرؤية الليلة والطيران والدرونز، تُعد متغير كبير في قواعد الاشتباك الميداني شبه اليومي الذي تشهده أفغانستان طيلة العقدين الماضيين، خاصة وأن هذه التقنيات لم تعد حصرية فقط على القوات الحكومية المهزومة، ولكن باتت في حوزة طالبان، الذي باتوا في مدى إجبار عناصر ومقاتلي الحكومة على الانضمام لهم وتعليمهم ما يمكنهم من تشغيلها بكفاءة في المدى القريب، وهو ما جعل هناك مقترحات في دوائر صنع القرار في واشنطن، بشن غارات جوية على مخازن ومستودعات هذه الأسلحة الأميركية، دون دخول هذا في حيز التنفيذ حتى الأن.

ويتضح من هذه الأرقام التقريبية الفجوة الكبيرة بين ما كانت تمتلكه القوات النظامية الأفغانية وما بين ما استحوذت طالبان عليه فعلاً منها، وهو ما يطرح تساؤل مفاده أين ذهب الباقي؟ هل بات في حوزة طالبان فعلياً أم أنه لا يزال رهن للمحادثات والحوارات والمعارك الوشيكة في الداخل الأفغاني؟ هذا ما ستجيب عليه تطورات الأحداث في أفغانستان في المدى القريب.

عن "مركز الإنذار المبكر"

الصفحة الرئيسية