يقول سارتر: "إنّ كينونة أي موجود، هي بالتحديد ما يظهر به إلى ذلك الوجود"، هذا الوجود بامتداداته المكانية / الزمانية، مارس فيه الموجود البشري، منذ اللحظة الأولى في منفاه الوجودي، فعل القتل، انسياقاً لإكراهات العنف، وانعتاقاً لسطوة الوحشية، من طوق الإلزام الأخلاقي.
منذ بسط قابيل يديه ليفتك بأخيه عقب مقامرة غامضة، في لحظة عبثية، تفجر نهر الدم، قبل أن يشق طريقه الطويل في التاريخ البشري، وتتفرع عنه وتصب فيه روافد شتى، أنهكت الضمير حد السقوط في براثن اللعنة، وقراراتها السحيقة، حين تهاوى الجسد المترنح والمثقل بكل آلام العالم، عند قدميْ الأخ المذنب. وحده الغراب كان يعرف مثواه الأخير، فَوَاراه.
كان الصليب المرفوع عنواناً لطريق طويل من الآلام، اختبر معه أصحاب العقل النقدي عذابات المروق عن مسارات الكهنة
هل هي الضرورة التي جعلت من العنف قانوناً حتمياً؟ ولهذا جعل منها "برمنيدس" إلهة تحتل مركز العالم، ووضعها أفلاطون محوراً لحركة الكون، ليغدو الإنسان هو ذلك الموجود الذي يعمل على تماهي أفعاله مع قوانين الوجود، فتطابق إرادته الباطنة تلك القوانين، كما يقول الرواقيون، لتغدو لعنة الدم قدراً محتماً، أم هو سوء طالع الموجود البشري، الذي اختبر القتل ومارسه وتورط في مستنقعه منذ فجر الضمير؟
في الحكايا البابلية كان الدم هو سر التكوين، حين أطلق مردوخ سهامه ليمزق أعماق تيامة، فلما تهاوت أمامه أجهز على حياتها، وبهراوته فصل رأسها، وقطع شرايينها، قبل أن يتكئ متفحصاً جثتها المسجاة، ليشطرها إلى شطرين جاعلاً من شطرها الأول أرضاً، ومن شطرها الثاني رفع السماء.
اقرأ أيضاً: الحلاج: تصادمَ مع السلطتين الدينية والسياسية فتوضأ بدمه
هابيل المغدور/ أوزوريس المسجى، ومن بعد، المسيح المصلوب قرباناً للخلاص، كل هؤلاء لم يمنعوا آلة القتل التي توحشت، ليحمل التاريخ وطأة الإرث الملعون، قبل أن تتداخل كل الوسائط الرمزية لتعمل على مَوْضَعة حكمة السماء في سياقات مغايرة، ليتجلى العنف الديني بمغزاه المفارق لعلم الإنسان المحدود، في صورة القتل المقدس باسم الرب الأعلى!
في تاريخنا، كان الصليب المرفوع عنواناً لطريق طويل من الآلام، اختبر معه أصحاب العقل النقدي عذابات المروق عن مسارات الكهنة، نزفوا مع كل كلمة حرة دماءهم النقية نقاء النبع الصافي من الكراهية، فدفعوا الثمن على يد جلاد جاهل يسيّره وكلاء السماء.
اقرأ أيضاً: محمود محمد طه.. ترنيمة أخيرة على صليب الحلاج
ذات نهار، قال الجعد بن درهم: "ما كلم الله موسى تكليماً ولا اتخذ خليلاً"، فاستل والي الكوفة سكيناً وذبحه أسفل المنبر، في ليلة عيد، وحين قال غيلان الدمشقي بقدرة الإنسان على خلق أفعاله، بفضل ملكة العقل الذي هو مناط التكليف، استدعاه الخليفة هشام بن عبد الملك، لمناظرة مشؤومة مع الإمام الأوزاعي، فاشتد الجدال بينهما إلى أن أيقن الأوزاعي أنّ الدمشقي لن يتراجع عن أفكاره، فأفتى بكفره وردّته، ليأمر الخليفة بقتله بتهمة الزندقة.
اقرأ أيضاً: هل كان العرب عالة على الفلسفة اليونانية؟
ومع الوقت، اتسع معنى الزندقة اتساعاً كبيراً، حتى أطلق على كل من يدين بمذهب يخالف أهل السنة، ليصبح تتبع الزنادقة حركة دينية/ سياسية واسعة؛ لملاحقة الشعراء والفلاسفة والكتاب والأدباء، وها هو أبو جعفر المنصور يكتب إلى نائبه سفيان بن معاوية، أن يقتل الأديب عبد الله بن المقفع، وكان على الوالي أن ينفذ مشيئة الخليفة بشيء من الوحشية والبربرية، فأخذه وأحمى له تنوراً، وجعل يقطّعه إرباً، ويلقيه في ذلك التنور حتى حرقه كله، وهو ينظر إلى أطرافه كيف تقطع ثم تحرق.
اقرأ أيضاً: هل ما زلنا في حاجة إلى الفلسفة؟
في عهد الخليفة المهدي، بدأت محاكم التفتيش على نطاق واسع، فاتخذت شكل محاكمات صورية، بداية من العام 163هـ، على غرار حملات القتل والإحراق التي حاقت بمفكري أوروبا في العصور الوسطى، فأطلق يد المحتسب عبد الجبار الذي لُقب بـ "صاحب الزنادقة" في الرعية، فاعتقل المئات وأحرق عشرات المجلدات، واستمر الخليفة المهدي في حملته تلك، والتي بلغت ذروتها في الفترة ما بين 166هـ وسنة 170هـ، وكان يقوم على أمر هذه المحاكمات قضاة مخصوصون، ليحمل الفلاسفة صلبانهم على أكتافهم، في مشهد مؤسف، بلغ ذروته حين ضُرب الحلاج ألف سوط، ثم قطعت يده ثم رجله، وحزت رأسه، وأحرقت جثته، وألقي رماده في نهر دجلة، في انتقام وحشي لا نظير له.
من فوق صليبه يقول الحلاج:
هؤلاء عبادك قد اجتمعوا لقتلي
تعصبًا لدينك وتقرباً إليك، فاغفر لهم.
كل الذين مروا على صليب الحلاج، حاولوا إضاءة الدروب المعتمة، وفتح كوة ينفذ منها شعاع النور الأخير، قبل أن يبدد الظلام كل شيء، كان "شهيد العشق الإلهي" شاهداً وشهيداً على المأساة، إذ يرتدي القاتل ثوب الفضيلة، وتتوشح الضحية بدماء الخلاص.
هذه الدوائر المغلقة والمستحيلة، تعزز سطوتها تلك العقول المتطرفة والمستقيلة، التي بات أصحابها الأعلى صوتاً في المجال العام، بعد أن قررت السلطة غضّ الطرف عن أفعالهم، وصم الآذان عن أقوالهم، وفق حسابات سياسية ضيقة، سوف ينقلب في نهايتها السحر على الساحر، كما تخبرنا ذاكرة التاريخ، ولكن بعد فوات الأوان، فجماعات الإسلام السياسي، أبداً، لن تسمح بحرية الاختلاف، لأنَّ أيديولوجيتها تقوم ببساطة على تكريس الصوت الواحد والفهم الواحد، والمسار الأوحد الذي ينتهي بالتمكين وإلغاء العقل، وهو ما يتجلى بوضوح عقب كل جريمة يحرضون عليها، ويخططون لها؛ لإرهاب كل من يخالفهم الرأي، وكل من يفطن إلى ألاعيبهم الرخيصة.