محمود محمد طه.. ترنيمة أخيرة على صليب الحلاج

محمود محمد طه.. ترنيمة أخيرة على صليب الحلاج


12/11/2017

كانت لحظة الحلاج لحظة مربكة إلى أقصى حد، في مجتمع سادت فيه روح القرون الوسطى، يرفض التجديد، وينأى بنفسه عن كل ما يمكن أن يكون بداية لصيرورة تاريخية، مجتمع يحيا من خلال رؤى فقهية تتسم بالثبات والسكونية، وترتبط ببعضها البعض في نسق مغلق، يرفض مغادرة عتبات الماضي، ويقتل كل مغامرة فلسفية في مهدها.
كانت آخر كلمات الحلاج وهو مشدود على الصليب الخشبي: "هؤلاء عبادك قد اجتمعوا لقتلي تعصباً لدينك وتقرباً إليك، فاغفر لهم" . بعدها انهالت عليه سياط الجهل والتعصب؛ ألف سوط سبقت قطع أطرافه وحز رأسه، قبل أن يحرق الكهنة جسده الهزيل، غير مدركين أنهم أخيراً أطلقوا سراح روحه لتسافر بلا عودة في مدارات الخلود الأبدي.
من رحم الخرافة والاستبداد
في السودان؛ حيث يقتات الناس على بقايا أحلامهم، ويتدثرون بغطاء الأمنيات المستحيلة، ولد محمود محمد طه، العام 1909، وتحت وطأة الاحتلال والتبعية، وصراع الهويات كان التصوف هو الملاذ الأخير لنفوس سحقها جبروت الاستعمار ووطأها الفقر والمرض، على ضفاف النيل سافر طه بعقله، وفي حلقات الذكر التي انتظمت حول مقام الشيخ الصوفي الكبير حسن ود بليل صفت نفسه وتطلعت للخلاص الجماعي، وبين تأملاته الصوفية المتجردة، وتطلعاته السياسية التي وضعته زعيماً على رأس الحزب الجمهوري، كان عليه أن يخوض غمار الصراع، وأن يشق بنفسه طريقاً جديداً؛ لمواجهة جمود الفكر الديني وانتهازية واستبداد النظام الحاكم.

كأي صوفيّ يجنح بأفكاره نحو الخلاص كان لمحمود محمد طه فهم مغاير للإسلام هو فهم الخاصة

يحكى أنّ طه وجماعة من رفاقه في الحزب الجمهوري كانوا ذات يوم يطوفون بمزارات الأولياء، وعند مقام الشيخ حسن ود بليل ألقى الروع في نفوسهم، ولم يقدر أحد منهم على التقدم، فقط وحده طه دخل إلى الضريح لتحل السكينة في نفسه، ويتلقى من فيوض المعرفة والعلم الصوفي ما جعل منه حلاجاً آخر على ضفاف النيل.
كانت الحالة الدينية في السودان شديدة التأخر والإنغلاق، مثلها مثل الحالة العامة في كل الأنحاء، نفوس بائسة يشوبها الخمول والجهل، وبلاد ترتع في رحابها كل أشكال الخرافة، فلم يبق من الدين إلا طقوس وحركات شكلية، فالصلاة لم تعد غير أداء رتيب يمارسه الجسد الخامل في آلية، بينما العقل هائم ومشتت في كل اتجاه، لا تحرك فيه صلاته شيئا، ولا تهدِّئ من روع الروح القلقة في فيافي الحياة، رفض طه أن يكون الدين بهذه الشكلانية الفجة، فتصبح الصلاة طقساً ثقيلاً بلا صلة مع الله، يقول في رسالة الصلاة: "الصلاة الحقيقية هي التي نستطيع بها النظر إلى داخلنا حتى نلتقي بأنفسنا... هي حركة من الغفلة إلى الحضرة، ومن البعد إلى القرب، ومن الجهل إلى المعرفة، فهي قرب من الله".
كأي صوفيّ يجنح نحو الخلاص
في تجلياته الصوفية يحاكي طه تأملات الحلاج، فنراه يقول إن العبودية وحدها هي الملاذ، وهو يقصد هنا العبودية بمعناها العرفاني الذي يعنى اتحاداً كاملاً مع الله، وبالتالي الخروج من الجهل إلى العلم، ومن الشقاء إلى السعادة، هنا تتحقق الحرية بتمثلاتها المطلقة، فهي "كالربوبية لا تتناهى... ولم يحققها إلا الأنبياء"، وفي ذلك يقول للحلاج: أعد في الناس مولى.... لأني فيه عبد . 


وكأي صوفيّ يجنح بأفكاره نحو الخلاص، كان لمحمود محمد طه فهم مغاير للإسلام، هو فهم الخاصة، فيذهب إلى تقسيم رسالة الإسلام إلى رسالتين؛ الأولى هي رسالة المؤمنين، وتختص بمرحلة المدينة، وهي في تصوره ذلك القدر من الدين الذي يخاطب العامة على قدر عقولهم، فلم يكن ممكناً في ظنّه أن يأتي الإسلام في لحظة التأسيس بتشريعات لا تطابق الواقع الاجتماعي، ولا تتماهى مع الثقافة السائدة، إنما جاء الإسلام ليؤلف بين قلوب المؤمنين وفقاً لفهمهم ومعطيات حياتهم، وهو هنا يفرق بين الإيمان والإسلام، "فليس كل مؤمن مسلماً، ولكن كل مسلم مؤمناً"؛ لأن الإسلام قي رأيه أرقى مرتبة من الإيمان، وعليه، فرسالة المدينة جاءت للمؤمنين، وآياتها محكومة بسياقات تاريخية واجتماعية وثقافية، لم يكن تجاوزها ممكناً في ذلك الوقت؛ لأنه كان ينبغي لها أن تراعي شروط الاجتماع الإنساني آنذاك، وعليه فإن قضايا مثل: الرق، تعدد الزوجات، الجهاد ليست أصلاً من أصول الإسلام، وإنما هي قضايا ذات طبيعة مرحلية.
أما الرسالة الثانية وتمثلها الآيات المكية التي أرجئ العمل بها حتى يتهيأ العصر ويستوعبها المُخاطب، وهي في رأيه رسالة العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات، رسالة عالمية يتحقق فيها إسلام حداثي متصالح مع العصر، وهي رسالة آن لها أن تتحقق في عصرنا مع تطور العقل، وأصبحت الدعوة لها أمراً واجباً، تبشيراً بعهد الإسلام الكوني.

دعا طه لتشكيل وعي ديني كوني تبرز فيه قامات إنسانية جديدة سلمت دواخلها وتحررت من الخوف والكبت

ويرى طه أنّ آيات الأصول التي نزلت في مكة نُسخت نسخاً مؤقتاً، تحت ضغط السياقات الاجتماعية، وما فرضته مرحلة بناء الدولة الجديدة في المدينة، وما واجهته من تحديات.
وعليه، يمكن تجديد الدين من داخل الدين نفسه، بالكشف عن منطلقات الرسالة الثانية، أو كما يقول: "الانتقال من نص إلى نص، نص فرعي تم تطبيقه في عهد الصحابة إلى نص أصلي قابل للانفتاح على كل العصور"، داعياً إلى "تشكيل وعي ديني جديد.. وعي كوني تبرز فيه قامات إنسانية جديدة تحررت من الخوف ومن الكبت وسلمت دواخلها".
كان الصوفي المسافر في مدارات الوجد يتطلع إلى تأسيس فهم جديد للإسلام، لا يكون فيه الفرد إلا حرّاً، وهي حرية يخرج بها الإسلام من ظلمات القرون الوسطى، وأطر الانغلاق والجمود، ليحقق وفقاً لرؤيته الخاصة تصالحاً مع الحياة، وفهماً أكثر دينامية للوجود.
قربان تواطؤ السياسة والمجتمع
طرح محمود محمد طه فلسفته في مجتمع لا يستطيع فيه الإنسان فهم حاضره سوى برده إلى الماضي البعيد؛ فالماضي الموغل في القدم وحده هو الذي يمنح التفسيرات استحقاقها الديني، وقداستها المفارقة، هنا تتحرك السلطة المستبدة، ويصبح مواتياً لها التنكيل بالمعارضين لممارساتها تحت غطاء حفظ الدين والدنيا وحماية الشريعة.

في العام 1985 كانت المحاكمة الثانية وقبلها كان طه أبرز المعارضين لقوانين أيلول (سبتمبر) 1983 المعروفة بقوانين الشريعة الإسلامية

في تشرين الثاني (نوفمبر) 1968 كانت المحاكمة الأولى له بتهمة الردة، أمام محكمة الاستئناف العليا الشرعية، وحُكم عليه غيابياً "بأنه مرتد عن الإسلام مع أمره بالتوبة من جميع الأقوال والأفعال التي أدت إلى ردته"، وكانت أبرز مسوغات حكم الردة أنه دعا إلى مذهب الحلول، ليشارك الحلاجَ التهمة نفسها، وفيما بعد المصير ذاته.
وفي العام 1985، كانت المحاكمة الثانية، وقبلها كان طه أبرز المعارضين لقوانين أيلول (سبتمبر) 1983، والمعروفة بقوانين الشريعة الإسلامية، التي أراد من خلالها النظام السياسي لجعفر النميري إسباغ القداسة الدينية على حكمه، ليضمن استمراره في السلطة لأطول وقت ممكن، تصدر الحزب الجمهوري المشهد المعارض، وزجت السلطة بالعشرات من أنصاره في السجون، وفي الخامس من كانون الثاني (يناير) 1985 اعتقل طه وحكم عليه بالإعدام شنقاً حتى الموت، بدعوى تقديم فهم جديد للإسلام! وفقاً لما جاء في حكم محكمة الاستئناف الجنائية، التي ذهبت إلى تأييد الإدانة والعقوبة، مع الحكم بألا يُصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، وأن تقوم الجهات المعنية بمصادرة أمواله فيئاً للمسلمين! وفي صباح الجمعة 18 كانون الثاني (يناير) 1985، وقف حلاج آخر ذو بشرة سمراء، تحاكي في صمتها طمي النيل عند ذات المقصلة لينفذ فيه الحكم بالموت.
 


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية