عن الوطنية و"السياسة في أسوأ تعبيراتها"

عن الوطنية و"السياسة في أسوأ تعبيراتها"


06/05/2018

الافتقار إلى اللياقة الدبلوماسية، واعتماد اللغة السياسية المباشرة حدَّ التجريح والابتذال، سمات أصيلة في الشعبوية، المناهضة حُكماً للنخبوية والتقاليد المؤسسية. هذا الأمر يُستدعى لدى قراءة تصريحات الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، في أواخر الشهر الماضي بشأن سوريا، وحديثه عن دفع ثمن وجود القوات العسكرية الأمريكية في هذا البلد. ومع أنّ التريليونات التي تحدث عنها الرئيس ترامب وقال إنّ بلاده أنفقتها في المنطقة من دون طائل، كانت في أكثرها قرارَ الولايات المتحدة الأمريكية لا قرار دولِ المنطقة، وفي مقدمة ذلك، بالطبع، قرار الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، فإنّ الإنفاق عموماً كان جزءاً من إستراتيجية أمريكية في الشرق الأوسط (جرى العدول عنها في عهد الرئيس باراك أوباما)، كما كان جزءاً من الشراكات الإستراتيجية الأمريكية مع "حلفائها" في المنطقة العربية، بما هي مصالح متبادلة، وليست من جانب واحد.

الافتقار إلى اللياقة الدبلوماسية واعتماد اللغة السياسية المباشرة حدَّ التجريح والابتذال، سمات أصيلة في الشعبوية

هذا الاستهلال الاستدراكي المختصر مهمٌ، وقد يرى بعضهم في تلك التصريحات انعكاساً لـ "السياسة في أسوأ تعبيراتها"، لكن ذلك لا يمنع من التقاط هذه التصريحات بوصفها فرصة ثمينة لنا لفتح باب نقاشٍ لفكّ عناصر اشتباك غامضة ومعقدة تتعلق بحقيقة وطبيعة العلاقة الإستراتيجية الأمريكية مع دول الخليج وسواها. فالعلاقات المشتركة والمصالح المتنوعة التي تجمع الدولة الأعظم بدول عربية محكومةٌ بكل تأكيد بمنطق العلاقات الدولية ومنطق موازين القوى، والمدخل لفهم هذين المنطقين هو المصالح المشتركة وليس مفاهيم الهيمنة والاستغلال والخضوع، كما أحبّ كثيرون أن يعلّقوا على تصريحات ترامب تلك.

في العلاقات الدولية، من المفترض ألّا يتناقض منطق المصالح مع القيم والكرامة الوطنية، ومن المفترض، في دول عصرية، أنْ يتم تكييف مضامين الهُوية مع موازين القوى، ومنطق القوة، بمفهومها الشامل. هذه مساحات التباسٍ كبيرٍ في الفكر السياسي العربي، وفي الثقافة الشعبية العربية الرائجة. وحتى اليوم لم تتمكن النخب العربية، الفكرية أو السياسية، من إدماج فكرة المصلحة دمجاً عضوياً وعميقاً في بنية الفكرة الوطنية ومنطق الدولة وعقلها الإستراتيجي. وهو عقل يتعاطى مع الحقائق ببرود، تعتبره الثقافة الشعبية خنوعاً أو خضوعاً للهيمنة، وقبولاً بما لا ينبغي قبوله؛ لأنه ينتهك الكرامة ويستمرئ الهوان!!

من المفترض، في دول عصرية، أنْ يتم تكييف مضامين الهُوية مع موازين القوى، ومنطق القوة، بمفهومها الشامل

من المفترض ألا يكون قيامي بشراء أسلحة أو تكنولوجيا متقدمة من الدول الكبرى تحمي بلدي أو تساعدني في الانخراط في العصر مما يمسّ الكرامة الوطنية أو يهين الكبرياء القومي. وما هو مثالي بالطبع، أن أتمكن من إنتاج ذلك بنفسي، لكن ماذا لو لم تتوافر لدي القدرة؟ المشكلة الأكبر ألا أعترف بعدم قدرتي، أو بأنّني لم أستعدّ لامتلاك شروط هذا الإنتاج الذاتي، وما يتطلبه من علم ومعرفة واستثمار في البحث وتأهيل للكوادر وبيئة محفزة على الابتكار. والحقيقة أنّ النكران سيُبقي الحديث الملتبس عن شراكاتنا الإستراتيجية مع الكبار عبر اختزالها بـ"الخضوع للهيمنة"، وهو التباس يكشف في العمق عن استمرار "أزمة الهُوية" لدينا، وعدم النجاح في تكييفها وفكّ انفصامها (نحن الأفضل وهكذا كنّا وسنعود.. لسنا بحاجة إلى الغرب ونستطيع الاكتفاء بذاتنا.. ظلم الغرب لنا لا بدّ أن ينتهي..كيف نقبل بعلاقة على هذه الشاكلة ونحن من علّمناه...).

هنا يجدر التعليق بأنّ إطراء الذات والدوران حولها كأيقونة لا يصنع قوةً، وليس هذا هو الردّ الأمثل على عجرفة الكبار، كما أنّ الانتقاص من الآخر، المتفوق في الحقيقة، لا يصنع وطنية أو كرامة، وأنْ أكون نظيراً له أو أفضل منه ليس هذا طريقه. وعلى أي حال، ربما تركُ الفهم الإمبراطوري للوطنية بداية شفائنا.

في الواقع، ثمة حاجة لنقاش واسع من أجل إعادة تعريف ذلك كله؛ عبر الاعتراف بالحقائق وعدم التلذذ بالنكران. فوقوفك بعد سقوط يستدعي الاعتراف أولاً بما يجعلك تَسقط.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية