عن التحوّلات المفترضة للسّياسة الخارجيّة للإمارات

عن التحوّلات المفترضة للسّياسة الخارجيّة للإمارات


09/12/2021

محمد قواص

من يتأمل التحولات المتلاحقة في السياسة الخارجية الإماراتية، يستنتج بسهولة "الواقعية السياسية" المعتمدة في مقاربة العالم، بعيداً من أي تصورات أيديولوجية مسبقة. والأرجح أن الإمارات تنهل من تجاربها المتعددة، وربما الموجعة، داخل أتون التطورات التي حصلت في المنطقة في العقد الأخير، لتخرج بخلاصات ودروس تستند إليها لتحصين مصالحها  في الاقتصاد والسياسة والثقافة والأمن والدفاع. ومن يتعمق في التأمل فستسهل عليه ملاحظة أن الإمارات في مستجدّها تبني على المُنجز وما أسهمت به في المنطقة والعالم خلال العقد الأخير. وعلى هذا يصعب الحديث عن تحوّل بل عن انتقال مما تحقق إلى ما بات يتطلب تحقيقاً.

وفيما تطور علاقات أبوظبي بإسرائيل وتركيا وإيران وسوريا يبدو غير متجانس ولا ينتمي إلى قماشة واحدة، إلا أنه يندرج داخل مسار معرفي واحد، يتعامل مع المشهد الإقليمي والدولي وفق قاعدة الخسائر والأرباح، وعلى أساس جردة لتطور موازين القوى خلال العقود الأخيرة. والأرجح أن الإمارات التي تصنع عالمها لا تريد أن تصنع العالم، بل القبول بحقيقته الراهنة والمقبلة مهما كانت تلك الحقيقة مؤلمة.

ومن الخطأ اعتبار التحولات الإماراتية نزوعاً نحو "تصفير المشكلات"، ذلك أن خيارات هذا البلد، وخصوصاً في تطلعاته في الثقافة والمجتمع والدين والمعرفة والحداثة، اصطدمت وستصطدم دائماً بخيارات مضادة، في المنطقة وخارجها. ولطالما اتكأت الخيارات "المعادية" على منطلقات أيديولوجية أو عقائدية دينية أو في ما يندرج منها في علم المصالح، ناهيك عن أن نماذج الاعتراض تعتبر النموذج الإماراتي - في دينامياته النشطة - رشيقاً في مقارباته، ومحرجاً في هزّ أعمدة يراها البعض جماداً مقدساً في علاقات الدول. وبالتالي فإن مسألة "التصفير" ليست بيد الإماراتيين حتى لو أرادوا ذلك.

والحال أن تحولات الإمارات قد تأتي انقلابية في بعض جوانبها عن سياسات اعتمدها البلد نفسه خلال عقود منصرمة وخلال سنوات ماضية. ولا ريب في أن العلاقات مع تركيا وإيران وإسرائيل، كما تلك مع روسيا والصين والولايات المتحدة وغيرها، تتفاوت بدرجات، وتسير بسرعات مختلفة، عما هي عليه حالياً وعما تصبو أبوظبي لأن تكون لاحقاً. والثابت أن الإمارات تغيّرت مقاربتها للتعامل مع هذا العالم، لأن هذا العالم نفسه قد تغيّر.

أن تُصدر الولايات المتحدة الإشارة تلو الإشارة عن عزمها على تخفيف انخراطها التقليدي في الشرق الأوسط، فذلك ليس تفصيلاً عابراً، بل ثابت حقيقي، تقاطعت داخله إدارات الديموقراطيين والجمهوريين، وجرى إغفاله في المنطقة والتعويل على عدم تصديقه. وأن تعبث الصين وروسيا بالخرائط الجيوستراتيجية، على نحو واضح وفاضح، في السنوات الأخيرة، فتلك حقيقة صارت هاجس واشنطن والمنظومة الغربية، فيما ما زال في المنطقة من يعتبر ذلك التطور، على أهميته، حدثاً تحت السيطرة وداخل هامش المقبول في النظام الدولي.

ربما أن الإمارات نفسها كانت أسيرة الإيمان بالنظام الدولي الذي عرفناه منذ سقوط الاتحاد السوفياتي بصفته حقيقة مطلقة، وهي في تحولاتها الراهنة تقرأ ربما نهاية عصر وتقرّ بانبلاج أعراض عصر آخر. تبدو  الإمارات سبّاقة هذه الأيام في استشراف تحولات كبرى، سيفرج عنها الصراع الدولي المتصاعد في يومياته والمتفاقم في أدواته. والظاهر أن لاعبي المنطقة بدأوا فعلاً التموضع وفق ذلك المعطى، بحيث لا يأتي التحول الإماراتي خارج السياق بل من داخل سياقات منطقية، بدأت تخرج من حيّزها الضبابي غير المفهوم.

باتت اتفاقات الإمارات مع إسرائيل من الماضي، وقد تقادمت ردود الفعل عليها وتبخر الضجيج الصاخب السلبي حولها. يكفي لذلك تأمل موقف طهران وأنقرة المرحبتين بحرارة بمبادرات الإمارات، متجاوزتين من دون استحياء ما أخذتاه عليها من علاقات مع إسرائيل. وفيما جاءت اتفاقات إسرائيل مع البحرين والمغرب والسودان شاهدة على تحولات عامة في الإقليم، فإن ذلك الحدث لم يحمل جديداً للتسوية الفلسطينية الإسرائيلية المتوقفة أصلاً، حتى لو أن الإماراتيين يعوّلون، ولو بنمط إشكالي، على مفاعيل المتحوّل لتحريك المتجمد في هذه المسألة.

ولئن مثّلت تلك الاتفاقات انعطافة تاريخية، وربما غير متوقعة، إلا أن مقاربات أبوظبي الجديدة حيال أنقرة وطهران ودمشق أسالت حبراً كثيراً حول حيثيات ذلك التحوّل ودوافعه، وأطلقت الفتاوى والاجتهادات حول نجاعتها وفوائدها. على أن المناورة الإماراتية تقوم دائماً على منهج الدفاع من خلال الهجوم حتى في الدبلوماسية، وفق ما يُعرف بـ"منطق الدولة" (raison d’état).

لا تتعامل الإمارات في مقارباتها الجديدة مع دول تشبهها. تعرف أبوظبي أن نظامها السياسي والاجتماعي يختلف تماماً، وربما على نحو نقيض، عن ذلك في سوريا وإيران وتركيا وإسرائيل. وأمام هذا الواقع الذي لم يتغيّر على مرّ السنين، أسقطت أبوظبي معادلة تغيُّر الآخر أو تغييره وانتظار ذلك ولو بعد حين، واستبدلت بها معادلة أكثر براغماتية لا تقوم بالضرورة على الاقتناع الكلي بهذا الآخر والاعتراف بدينامياته، بل على وقف القطيعة واعتماد الوصل والانخراط التجريبي والكامل في علاقات جدية معه. ولئن تتأسس فلسفة السياسة الإماراتية على ضمان مصلحة الإمارات وصيانتها، نعم، لكنها تلتمس أيضاً توفير مناخات إقليمية جديدة بات يحتاجها ويسعى إليها فرقاء هذا الإقليم من جهة، ولم تعد تصطدم بمعارضات دولية كبرى، من جهة أخرى.

لم يأت التقارب الإماراتي مع تركيا وإيران من منطلقات إماراتية بيتية فقط. من يتأمل المستجد في هذين الملفين يستنتج مراحل التفقد والتفحص والاختبار المتأنية المتبادلة. انطلقت هذه الديناميات من حاجات جيوستراتيجية، عبّرت عنها أنقرة وطهران في العلن وعلى نحو متصاعد. ولا يخرج التحرك الإماراتي عن مناخ عربي عام وخليجي، خصوصاً داخل مجلس التعاون الخليجي. وليس صدفة أن زيارة ولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد لتركيا، كما زيارة مستشار الأمن الوطني الشيخ طحنون بن زايد لإيران، لم تلق أي ضيق من أي طرف عربي، لا بل جاءت ممثّلة لرؤية عربية خليجية، وحتى بالتنسيق التفصيلي غير المعلن مع أطراف المنطقة. ولئن ما زال الإجماع غير متوفّر عربياً وغربياً حول مقاربة العلاقة مع دمشق، فإن زيارة وزير الخارجية الشيخ عبد الله بن زايد للعاصمة السورية لم تشكّل تحدياً للسائد (وهو غامض ركيك مرتبك) لدى عواصم المنطقة، بل كانت تحريكاً مدروساً لمياه راكدة داخل القضية السورية، من دون إغفال تعقّد عواملها الداخلية كما تناقض الأجندات الإقليمية والدولية حولها.

وحريّ الاعتراف بأن الإمارات تقوم بدور يشبهها في حريته ورشاقته والقدرة على توظيفه داخل البيئتين الإقليمية والدولية. تقوم المقاربة مع إيران على قاعدة مفاوضات تجريها الدول الكبرى مع طهران في فيينا، وعلى خلفية طاولة حوار انبسطت بين إيران والسعودية على مدى جولات أربع. وتقوم المقاربة التركية على أساس تحوّل لافت أجرته أنقرة في تواصلها مع الرياض والقاهرة، كما في مقاربتها المستجدة مع مظاهر الوجود الإعلامي الإخواني في تركيا وضبط منابره.

تتحرك الإمارات آخذة دائماً بالاعتبار بيئتها الخليجية، وهي تنهل المستجد في سياستها الخارجية المستجدة مما استجد في أجواء مجلس التعاون الخليجي منذ قمّة العلا بداية هذا العام. تنطلق أبو ظبي في حركيتها، متمسّكة بالثابت الصلب في تحالفاتها الإقليمية، متناغمة في كرّها وفرّها الدبلوماسي مع مصالح حلفائها. على هذا لا تهوى الإمارات المغامرات غير المحسوبة، بل تخطو بحذر وجرأة خطوات أولى وربما ريادية في ما قد يصبح سياسة معتمدة في كل المنطقة. لا تزعم الإمارات في عيدها الخمسين صناعة هذا العالم بل التعامل معه.

عن "النهار" العربي

الصفحة الرئيسية