علمانية فرنسا تكشّر عن أنيابها في مواجهة إرهاب الإسلام السياسي

علمانية فرنسا تكشّر عن أنيابها في مواجهة إرهاب الإسلام السياسي


14/10/2020

يبدو أنّ الكيل طفح بالفرنسيين من الإرهاب النابع من البيئة الإسلامية، فلا يكاد يمرّ شهر دون حادث إرهابي في فرنسا، وكان الهجوم على المارة أمام المقر السابق لجريدة "شارلي إيبدو" الساخرة، في 25 أيلول (سبتمبر) الماضي، آخر هذه السلسلة. وشكّلت هجرة مسلمين أوروبيين للالتحاق بالتنظيمات الإرهابية، بما يمثّلونه من خطر حال عودتهم، قلقاً غربياً كبيراً، وأعادت النظر في مدى صحّة فرضية أنّ عدم الاندماج وراء ظاهرة الإرهاب.

يؤكد مشروع قانون "النزعة الانفصالية" على ضرورة فصل الكنيسة عن الدولة، الذي يمثّل عماد العلمانية الفرنسية، وفرض رقابة أكثر صرامة على الجمعيات الإسلامية، والمساجد الخاضعة للتدخل الخارجي

الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، خرج على الشعب بخطاب عنوانه "مواجهة النزعة الانفصالية الإسلامية"، في الثاني من الشهر الجاري، مفتتحاً كلامه بالتفريق بين أصحاب النزعة الانفصالية من أصحاب أيديولوجيا الإسلام السياسي والإرهاب، والأغلبية المسلمة التي تحترم قيم الجمهورية الفرنسية، وتعيش باندماج في المجتمع.

وكان ماكرون صريحاً لأبعد الحدود؛ حين وضع يديه على لبّ المشكلة، وهي الإسلام السياسي، الذي يسعى إلى تكوين حاضنة بين المسلمين الفرنسيين، عن طريق فصلهم عن المجتمع، واستغلال الماضي الاستعماري لفرنسا في ذلك، كخطوة في سبيل الوصول للسلطة، وإن كانت في نطاق ضيق.

اقرأ أيضاً: "السياسة الدينية والدولة العلمانية".. لماذا ظلّ الدين مؤثراً؟

وأشار ماكرون إلى الأخطاء التي وقعت فيها الجمهورية، بتخليها عن أدوارها الاجتماعية والترفيهية والخدماتية بشكل عام، في مناطق الأغلبية المسلمة، ما فتح الطريق للإسلام السياسي للتغلغل إلى العقول والقلوب، عبر هذا الغياب.

الحياد الديني

تقف العلمانية موقفاً حيادياً من الدين، لا من الرؤى الدينية التي تحاول فرض تصوّرها عن الحياة على المجتمع؛ لذلك لا يستقيم الإسلام السياسي، أو الأصولية الإسلامية مع العلمانية، لكن لا تتعارض التجربة الإيمانية مع العلمانية؛ فهي تتيح فضاء لها بكل تمثّلاتها، شريطة ألا يحاول أيّ فكر ديني استغلال هذا الحياد في تأطير الناس لصالح فكرة تخالف العلمانية.

لوحة الحرية تقود الثورة، للفنان الفرنسي يوجين ديلاكروا، أثناء ثورة 1830

وظهر التعارض بين المجتمع العلماني والدين مع نشوء مجتمعات إسلامية في الدول العلمانية، عبر هجرة المسلمين إلى الدول الغربية، منذ عقود، وتوالد أجيال مسلمة، إلى جانب التحوّل إلى الإسلام من أبناء المجتمعات الغربية.

لا تُعارض العلمانية الإيمان الفردي، أو التجمعات الدينية، طالما بقيت بعيدة عن التأثير على المجال العالم لصالح رؤية دينية ما؛ لأنّ العلمانية تقوم على أسس احترام الاختلاف والحريات، وقد نجحت المجتمعات الغربية المسيحية في التحوّل إلى العلمانية، دون أن يعني ذلك غياب الدين من أوروبا.

اقرأ أيضاً: الإسلام السياسي أم العلمانية.. أين يكمن الخطر الحقيقي؟

وحول ذلك، يقول الإعلامي والمحلل السياسي، المقيم في فرنسا، شريف عبد الغفار: "الجمهورية الفرنسية تحافظ على حياد تامّ تجاه الأديان، ما لم تتعدَّ الأديان على القيم الجمهورية المشتركة بين الفرنسيين".

لكنّ المشكلة الإسلامية تتمثّل في الشعور بالانهزامية، ووضع الإسلام الأصولي والسياسي مقياساً لما يجب أن يكون عليه المسلم، وهي رؤية لا بدّ أنّ تتصادم مع العلمانية، فأن تكون مؤمناً في مجتمع علماني يعني أن تتقبّل الاختلاف، وألّا تحاول محاربة الاختلاف أو الانعزال باسم الهوية أو المشاعر أو الخصوصية، ففضاء العلمانية رحب، ولا يفرض على أحد شيئاً، سوى الحياد.

الإعلامي شريف عبد الغفار لـ"حفريات": هناك رسوم مسيئة للمسيحية ورموزها، تفوق الرسوم المسيئة للإسلام ورموزه، ورغم ذلك لم يخرج مسيحيّ واحد بسكين ليطعن الرسامين

ومع ترّسخ المجتمعات الإسلامية في أوروبا، كانت الأخيرة قد قطعت شوطاً طويلاً في تقبّل الاختلاف، بحيث أنّها استقبلت الإسلام دون رقابة أو توجّس، فتركت الباب مفتوحاً أمام انتشار الجماعات الأصولية والإرهابية، وجماعات الإسلام السياسي، وتغلغلها، واستفاقت أوروبا على وقع عمليات إرهابية، تخرج من الأجيال التي وُلدت في أوروبا من المسلمين، وممارسات غير إرهابية، لكنّها تضرب القيم الغربية في مقتل، وتهدّد نمط الحياة.

اقرأ أيضاً: هل ساهمت العلمانية في بروز الإسلام السياسي؟

وتمثّل الردّ الأوروبي في محورين؛ الأول نموّ اليمين المتطرف، الذي رأى في الإسلام كافةً خطراً على أوروبا، وليس الإسلام وحده، بل قيم الانفتاح على الآخر، والوحدة الأوروبية، وغير ذلك. والمحور الثاني؛ هو خطط الدولة لمواجهة هذه الظاهرة، والتي تراوحت بين الأبعاد الأمنية والقانونية، ولاقت هذه الخطط عقبات قانونية كبرى، نتيجة قصور القانون عن التعامل مع هذه الظاهرة الجديدة، ثمّ طرح ماكرون، للمرة الأولى، رؤية متكاملة لمواجهة منشأ ظاهرة الانفصال الشعوري التي يتولَّد عنها الإرهاب.

الانفصالية الإسلامية

أحد مظاهر الانعزالية الإسلامية، التي لا يوجد بند قانوني حولها، هي ظاهرة الأكل الحلال، وهي قضية بسيطة، ولا يوجد انتهاك قانوني فيها، لكنّها تنمّي الروح الانفصالية، خصوصاً حين يُطالب الآباء المسلمون بتقديم وجبات خاصة، على خلفية دينية لأبنائهم الطلاب.

من الهجوم الإرهابي في باريس

وحول ذلك، يقول عبد الغفار: "استغلت جماعات الإسلام السياسي في أوروبا قضية الأكل الحلال، لجني ملايين الدولارات، عن طريق إقناع المسلمين بأنّ الأطعمة التي تحوي لحوماً في أوروبا ليست حلالاً، بالتالي؛ المنتجات التي يبيعها رجال الأعمال المنتمون للإسلام السياسي هي الوحيدة الحلال".

ويضيف عبد الغفار لـ "حفريات": "يستغل الإسلام السياسي الانتخابات في الضغط على المسؤولين البلديين، من أجل تطبيق رؤيتهم الانفصالية والتمييزية، وطالبوا بتخصيص وجبات للأطفال المسلمين، وتبع ذلك التدخّل بشكل تدريجي في المناهج والأنشطة التي يتلقاها الأطفال".

اقرأ أيضاً: هل حانت المواجهة بين العلمانية الفرنسية والمسلمين؟

أما عن خطورة هذه السلوكيات، ومثيلاتها؛ من مطالب بعدم إعطاء الأطفال دروساً في الموسيقى، أو الرياضات المشتركة، أو تمييز  الطفلات المسلمات بالحجاب، فيقول عبد الغفار: "مبدأ الإخوة يعني عدم التمييز بين الذكر والأنثى، أو على أساس الدين، وقيم الجمهورية يتعلمها الأطفال في المدارس، من سنّ 6 سنوات، وحين يُطالب شخص بتمييز لأطفاله، لأنّه مسلم فقط، فذلك يعني أنّه ينعزل وينفصل عن قيم الجمهورية".

اقرأ أيضاً: العلمانية أم الإسلامية؟ عن الآفاق المثقوبة للإصلاح العربي

ويردف عبد الغفار: "قامت الجمهورية الفرنسية على مبادئ الحرية والإخاء والمساواة، والصراع مع التطرف الإسلامي نابع من عداء الأخير لهذه القيم، وفرنسا دولة علمانية، تدافع عن القيم التي توصل إليها شعبها بعد قرون من الصراع الديني الدموي، وصراعها مع التطرف الإسلامي ليس صراعاً بين المسيحية والإسلام، بل صراع حول قيم الجمهورية".

استخدمت الصلاة في الشوارع، لفرض القوة للإسلام السياسي، فتقرّر منعها

وكان ماكرون قد أشار، في خطابه، إلى وجود 50 ألف طالب مسلم يتعلمون في المنازل، ويتشربون أفكاراً متطرفة؛ إذ إنّ الفئات المتطرفة من المسلمين فقط هي التي أطفالها من المدارس، إلى جانب وجود 115 مدرسة إسلامية، يتلقى نصفها تمويلاً من الدولة، وبعض هذه المدارس تديرها نساء منقّبات، وهي غير مجهزة بمنشآت ترفيهية أو رياضية، وبعضها عبارة عن أبنية متهالكة.

اقرأ أيضاً: هل علينا إعادة التفكير في مفهوم العلمانية عربياً؟

ويعلّق عبد الغفار: "تختلف فرنسا عن الولايات المتحدة، فالجنسية الفرنسية هي ثقافة قبل كلّ شيء، ويجب أن يكون المواطن فرنسياً، فهي هوية واحدة جامعة للتنوع الديني والعرقي والثقافي، الذي يحترم القيم المشتركة، وغياب الطلاب عن المدارس يفقدهم تعلم ذلك؛ بل يتمّ تعليمهم في المدارس الإسلامية والمنازل قيماً ضدّ الجمهورية، فيكبرون على كراهية المجتمع، ويصبحون فريسةً لخطاب التطرف والإرهاب".

ولا تقتصر الانفصالية على ما سبق؛ فهناك مطالبات بقوانين خاصة باسم الإسلام، لكنّها تعادي المرأة، ومنها عدم تجريم العنف المنزلي، والميراث، والختان، ومطالبات تحطّ من شأن المرأة، ويستغل الإسلاميون ماضي الاستعمار الفرنسي في تنشئة المسلمين على كراهية فرنسا.

تحديث الإسلام

وقال ماكرون في خطابه: "الإسلام دين يعيش اليوم أزمة في جميع أنحاء العالم"، وعن النزعة الانفصالية قال: "ثمة في تلك النزعة الإسلامية الراديكالية عزم معلن على إحلال هيكلية منهجية للالتفاف على قوانين الجمهورية، وإقامة نظام موازٍ يقوم على قيم مغايرة، وتطوير تنظيم مختلف للمجتمع".

ولا يختلف حديث ماكرون عمّا يردّده كثيرون من المسلمين اليوم، من الباحثين وحتى رجال دين، لكنّ كلام ماكرون تلقّفه كثيرون بحساسية، بسبب هيمنة رؤية الصدام المسيحي -الإسلامي عليهم، رغم أنّ فرنسا علمانية، ولو وجدت جماعات مسيحية، مثل الإخوان المسلمين، لتمّت مواجهتها بالقوة نفسها، وربما أعنف.

الشاحنة التي استخدمت في حادث نيس الإرهابي

ووفق الإعلامي شريف عبد الغفار؛ فإنّ هناك رسوماً مسيئة للمسيحية ورموزها، تفوق الرسوم المسيئة للإسلام ورموزه، ورغم ذلك لم يخرج مسيحيّ واحد بسكين ليطعن الرسامين، لأنّ الأوروبيين المسيحيين تعلموا تقبّل الاختلاف، واحترام حرية التعبير.

وهناك تيار آخر من بعض اليساريين يتبنّى تفسيراً يرى أنّ الوضع المعيشي وعدم الاندماج هما السبب وراء الإرهاب بين المسلمين في الغرب، وحول ذلك يقول عبد الغفار: "من أجل الأصوات الانتخابية يُطلق الساسة الفرنسيون تفسيرات مغلوطة، مثل اتهام الحكومة بالتقصير في دمج المسلمين، كي ينالوا أصوات المسلمين، التي تبلغ 10% من الشعب، وهم بذلك يبادلون قيم الجمهورية بحفنة أصوات".

وكان ماكرون مدركاً لذلك؛ فطلب من سلطة مديري الأمن تعطيل أيّ قرار يصدره المسؤولون في البلديات، إذا خالف قيم الجمهورية، وهو أحد بنود القانون الجديد.

وتحدّث ماكرون عن حاجة الإسلام إلى تحديث، ليواكب الرؤى الحديثة للحياة، وكي لا يتعارض مع العلم، ويبدو أنّ أمله خاب في مؤسسات التعليم الشرعي في العالم الإسلامي، خصوصاً تركيا والمغرب العربي؛ لذلك أعلن انتهاء نظام جلب أئمة من الخارج، على أن تنتهي كلّ عقود الأئمة في 2025، وقرّر إنشاء مركز للدراسات الإسلامية، لتجديد الرؤية الإسلامية، بما يتوافق مع قيم الجمهورية، وهي خطوة سيشارك فيها أئمة وباحثون مسلمون فرنسيون.

وهي خطوة أصاب ماكرون فيها؛ حيث فعل ما عجزت معظم دول العالم، العربي والإسلامي، عن فعله، من خلال إنشاء مراكز دراسات إسلامية تتبنى المناهج الحديثة، وتعيد صياغة علوم إسلامية وفق رؤية عصرية، بدلاً من هيمنة رؤى فقهية قديمة على الإسلام.

المواجهة المتكاملة

وأعلن ماكرون تقديم مشروع قانون حول "النزعات الانفصالية" لمجلس الوزراء، بداية كانون الأول (ديسمبر)، يُناقَش في البرلمان، في النصف الأول من عام 2021، أي قبل الانتخابات الرئاسية عام 2022، لمواجهة ما أسماه "الانفصال الشعوري".

ويؤكد مشروع القانون على ضرورة فصل الكنيسة عن الدولة، الذي يمثّل عماد العلمانية الفرنسية، وفرض رقابة أكثر صرامة على الجمعيات الإسلامية، والمساجد الخاضعة للتدخل الخارجي.

كما ينصّ على منع الممارسات التي تهدّد المساواة بين الجنسين؛ بما في ذلك "شهادات العذرية" التي تحرص بعض الأسر المسلمة على استخراجها قبل الزواج. وإرغام أيّة جمعية تطلب مساعدة من الدولة بالتوقيع على ميثاق للعلمانية، وفرض إشراف مشدّد على المدارس الخاصة الدينية، والحدّ بشكل صارم من التعليم الدراسي المنزلي. وعودة خدمات الجمهورية إلى الأحياء التي انسحبت منها، وتركت الفضاء للمتطرفين.

اقرأ أيضاً: علمانيون ضد الديمقراطية... ديمقراطيون ضد العلمانية

وحول خطّة ماكرون لمواجهة الانفصالية؛ يقول شريف عبد الغفار، لـ "حفريات": "ماكرون طرح خمسة محاور لمواجهة الانفصالية، لا تتضمن حلاً أمنياً، بل تضمّنت حلولاً تتناول منشأ الظاهرة، وهذا ما نفتقده في عالمنا العربي، في مصر مثلاً، لا يوجد تعريف لمن هو العدو، والدولة تحصره فيمن يحمل السلاح فقط، بينما تترك الأغلبية تحمل أفكاراً عن قتل من يختلف معها في الاعتقاد، ولا تريد الاستثمار في تعزيز العلمانية، التي هل الحلّ الوحيد للقضاء على الإرهاب من منبعه".

ويردف عبد الغفار لـ "حفريات": "أراد ماكرون تعديل قانون العلمانية، لعام 1905، الذي يمنع تدخل الدولة في أمور الدين، من أجل أن يتدخّل لمواجهة التطرف الإسلامي، لكنّ الخبراء والباحثين أخبروه بألا يتبنى ذلك، بل ينظر للمسألة من وجهة نظر الدفاع عن قيم الجمهورية، وبذلك لن يحتاج إلى تعديل القانون، ويعزز العلمانية، ويحافظ على عدم تدخل الدولة في أمور الدين".

اقرأ أيضاً: مأزق العلمانية الكندية بعد منع الرموز الدينية في كيبيك

وشهدت فرنسا، منذ عام 2015، هجمات إرهابية مروّعة، راح ضحيتها المئات، وبلغ عددها 69 هجوماً، حتى الشهر الجاري، ومنها؛ هجوم شارلي إيبدو، عام 2015، الذي خلّف 17 قتيلاً، وهجمات باريس، في العام نفسه، وخلّفت 130 قتيلاً، و430 مصاباً، ومجزرة نيس عام 2016، وخلفت 86 قتيلاً و458 مصاباً، كما تعرضت مساجد إلى حوادث إرهابية، نفّذها اليمين المتطرف.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية