ليس من قبيل الصدفة؛ أنّ الظاهرة الإسلاموية ظهرت في مطلع القرن العشرين، مصاحبة لاتفاقية "سايكس بيكو"؛ التي ظهرت للوجود العام 1916، وكانت اتفاقاً وتفاهماً سرياً بين فرنسا والمملكة المتحدة، بمصادقة من الإمبراطورية الروسية، على اقتسام منطقة الهلال الخصيب بين فرنسا وبريطانيا، لتحديد مناطق النفوذ في غرب آسيا، بعد تهاوي الدولة العثمانية، المسيطرة على هذه المنطقة، في الحرب العالمية الأولى.
وتمّ الوصول إلى هذه الاتفاقية، بين تشرين الثاني (نوفمبر) العام 1915 وأيار (مايو) العام 1916، بمفاوضات سرّية بين الدبلوماسي الفرنسي فرانسوا جورج بيكو، والبريطاني مارك سايكس، وكانت على صورة تبادل وثائق تفاهم بين وزارات خارجية فرنسا وبريطانيا، في مضمونها تقسيم مناطق نفوذ الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، وإعادة رسم الدول بما يتناسب مع هذه المصالح.
ولم يكن إعلان الاتفاقية من عدمه، برأيي، ما يهمّ المتفقين، قدر اهتمامهم بالأدوات التي ستساعدهم في جعل الاتفاقية محلّ تنفيذ.
لم يكن إعلان الاتفاقية من عدمه ما يهمّ المتفقين، قدر اهتمامهم بالأدوات التي ستساعدهم في جعل الاتفاقية محلّ تنفيذ
وممّا بدا في أفق القرن العشرين؛ أنّ الشعور الوطني كان قد نما بقوة، وأصبح تياراً كبيراً لو ترك لنما أكثر، وقد يتحول إلى قوة فاعلة في المنطقة، ومن الممكن أن يعيق تنفيذ الاتفاقية على أرض الواقع، مما بدا من رموز التيار الوطني القومي في بواكيره؛ أنّهم بصدد تأسيس تيار مناهض للاتفاقية، فعلاً لا قولاً، وهذا يتعارض ويتناقض مع مصالح المتفقين.
ولأنّ القوى المجتمعية في المنطقة العربية والشرق أوسطية كانت كثيرة ومتنوعة؛ كان على المتفقين اختيار قوة دافعة على الأرض، تمتلك حلماً غير قابل للتطبيق، وقادر على سحق القوى المختلفة معه، ويحمل في الوقت نفسه، في طياته، الانشقاق الذاتي والتشظي.
اقرأ أيضاً: الاغتراب عند الإسلامويين مشكلة نفسية أم قيمة عليا؟
كلّ هذه الخصائص تجعل التيار (المختار من قبل المتفقين) أضعف من أن يتحوّل إلى قوة ضاغطة، أو رافعة، للمجتمع، أو مناهضة لاتفاقية التقسيم، كلّ ما يملكه هو التعبير بشعارات الرفض وتوليد طاقة سلبية داخل المجتمع مع العمل على انسداد منافذ تفريغ هذه الطاقة؛ أي أن يصبح المجتمع جاهزاً للانفجار للداخل، وأيّة محاولة لإصلاح هذا التيار، أو مقاومته؛ هي إهدار لطاقاته البشرية والمادية، كلّ هذه الصفات لم تتواجد إلا في تيار ديني ماضوي، كان قد انتهى في القرن التاسع عشر؛ هو تيار "السلفية الوهابية"، لهذا اختار المتفقون أن يساعدوا في ظهور التيار الديني المتشدّد؛ فأوّل ما ظهر من صناعة هذا التيار في الجزيرة العربية، عندما تمكّن الأمير عبد العزيز من حكم إمارة نجد كاملة، وأراد توطين القبائل الخاضعة لسيطرته في مستوطنات معدَّة لذلك، سمّيت (هجر)، تشبّهاً بهجرة الرسول، صلّى الله عليه وسلّم، وقد بدأت عملية توطين القبائل العربية في الهجر، بداية في العام 1911، لكن كانت الذروة العام 1916، وتوقّفت بسبب المعارك بين القبائل العربية والأمير عبد العزيز.
اقرأ أيضاً: كيف تطرفنا دينياً؟ المسار والخلاص
في الهجر؛ تلقّى المتشددون تعليماً دينياً جافّاً غليظاً، يحمل قدراً كبيراً من التكفير للآخر، تحت مزاعم أنّ هذا هو الدين، هذه التعاليم لم تكن إلا إحياءً للسلفية الوهابية؛ فقد وجد المتفقون أنّها ملاذاً آمناً لهم، فقد كانت الأفكار الوهابية تحقّق لهم كلّ ما يريدونه؛ من تيار ديني يحطم الدول، ويقتل التيار القومي، ويستهلك طاقة الأمة، وهي التي تمّ تأسيس التيار الديني الجديد عليها، وهي أفكار كان من المفترض أنّها ماتت بموت الحركة وانتهاء دورها، لكن تمّت مساندة الشيوخ والوعاظ الوهابيين، وتمّ استدعاء من بقي منهم بمهمة تلقين وترسيخ أفكار التشدّد للجيل الجديد.
اقرأ أيضاً: الإخوان وصناعة وهم الأيديولوجيا المقدّسة
كثير من أفكار الوهابية هي أفكار تدمير ذاتي، قبل أيّ شيء، وهي تقبل التعامل مع الخصوم أكثر ممّا تقبل التعامل مع المخالفين في المذهب، وسمّوا هذا التيار في أول الأمر "إخوان المسلمين"، ثمّ تمت البيعة لعبد العزيز آل سعود، فسمّوهم إخوان آل سعود"، ثمّ تغيّر الاسم بعد الخلاف مع السعوديين، إلى اسم "إخوان مَن أطاع الله" وكانت شرارة انطلاق الإسلام السياسي في القرن العشرين.
كانت شعارات الجهاد مكوّناً ثقافياً خطيراً حول رغبة هؤلاء (الإخوان) في السلب والنهب والتدمير والتحطيم، إلى واقع إسلامي يثاب عليه المرء؛ لهذا عمد علماء هذا التيار إلى أن يمنحوا أعضاء تيارهم الوليد مبرراً لسفك الدماء، فأفتوا لهم بإباحة دماء المخالفين لهم، وبضرورة مهاجمة القرى والمدن التي لا تدين لهم بطاعة.
لأنّ القوى المجتمعية في المنطقة كانت كثيرة ومتنوعة كان على المتفقين اختيار قوة دافعة على الأرض تمتلك حلماً غير قابل للتطبيق
وتسلّح (الإخوان) بالبنادق والمدافع؛ التي كانت من صنع الغرب، الذي من المفترض أنّه كافر وصليبي، وأنّه معادٍ للإسلام، بحسب المفاهيم الموروثة لهذه الفئة.
تمّ تحويل مفاهيم السلب والنهب والقتل والإرهاب إلى مفهوم إسلامي بحت؛ هو "الجهاد في سبيل الله"، ومفهوم العمالة للغرب إلى مفهوم "التعاون مع أهل الكتاب"، والناظر إلى أداء القوات العسكرية (لجيش الإخوان)، يرى كيف أنّهم وجّهوا كلّ طاقتهم العسكرية والدينية ضدّ المسلمين والعرب، وأنهم كانوا، دون أن يدروا، سبباً في تدعيم الاتفاقية، وكانوا أداة رائعة لجعل بنود الاتفاقية محلّ تنفيذ.
لم يمضِ وقت طويل حتى ظهر الانشقاق داخل التيار الإسلاموي الناشئ (الإخوان)،
اقرأ أيضاً: الإسلام هو الحل.. شعار أم مشروع؟
ومع تحوّل هذه الفئة للاقتتال الداخلي؛ تدخّل أصحاب اتفاقية "سايكس بيكو" فوراً، بمساندة فريق على الآخر، وانتهت الحالة الإسلاموية العسكرية في معركة السبلة، لكن لم تنتهِ أفكارها؛ فقد انتقلت إلى مصر، بعد تأسيس الجمعيات الإسلامية التي تحمل الفكر ذاته، وكان الهدف هذه المرة؛ هو استهلاك طاقة الأمة، وإنهاك أيّ تيار مقاوم أو مناهض للاتفاقية، سواء بالمزايدة عليه، أو بإفساد القضية، أو بتحويل الأنظار عن هدف الأمة، وبشغلها بتفاصيل مشتتة، والعمل على عدم الاتفاق على قضية واحدة مصيرية، وهذا ما تم حتى اللحظة، أدرك هذا أبناء التيار الإسلاموي أم لم يدركوه، فلن يغيّر ذلك من نتيجة وجودهم في حياة العرب والمسلمين. والله أعلم