يوسف الديني
ما يحدث في سوريا اليوم لا علاقة له بالحالة السياسية المضطربة إلى أجل غير مسمى، في ظل تحول الأراضي السورية إلى مركز مصالح دولية متضاربة ومتعارضة، بل هو إعادة فرض الخريطة الأمنية لدول المنطقة بمباركة روسية وتمدد إيراني ومجرد وعود وتهديدات أميركية ساخنة في ظل عجز المجتمع الدولي عن لعب دور فاعل في الملف السوري، والاكتفاء بالإدانة وبعض المشاريع الإنسانية لعلاج مخرجات الأزمة التي تبدو أكبر حتى من التغطية الإعلامية لها.
أنقرة تمضي نحو التصعيد في ظل صمت روسي متودد للأدوار الجديدة التركية في الملف السوري، وهي لا ترغب في التدخل بسبب ما بدا للأكراد عقوبة قاسية تجاههم لرفضهم مشروعات الحكم الذاتي ضمن مشروع سوريا الجديدة وانحيازهم للخيارات الأميركية التي لا تبدو واضحة رغم تركيزها على مشروع محاربة تنظيم داعش المستفيد الأول من كل الفوضى الجديدة التي تمارسها دول بأجندات متناقضة، الوقوف ضد أي مشروع كردي بدعم أميركي واستغلال التحالف الأميركي - التركي الهش في التأثير على عقلنة تدخل أنقرة في شمال سوريا، في ظل اضطراب التقارير حول تراجع أميركي ورغبة في ترك بعض المناطق التي قد أعلنت في السابق أنها ستعتبرها مناطق أمنية لحماية حلفائها.
هل سيعود الأكراد إلى أحضان النظام السوري والإرادة الروسية، وبالتالي استبدال موسكو بالولايات المتحدة لمواجهة أنقرة؟ الجواب لا يمكن استنتاجه من هذه الإرادات المعارضة بقدر محاولة فهم السلوك الروسي في تسهيل عملية عفرين، التي هي في البداية موقف من أي مشروع كردي مستقل، لكنه أيضاً إخراج الولايات المتحدة من تحقيق مشروع النصر على تنظيم داعش والسيطرة على شمال غربي سوريا، ما يعني مزيداً من التهميش لإدارة الرئيس الأميركي ترمب الذي يفقد أحد أهم مشاريعه الاستراتيجية في الحرب على الإرهاب.
استنزاف الأكراد في تركيا لا يعني سوى مزيد من التدخلات الدولية لمآرب سياسية ضيقة وذاتية لا تهدف إلى حل للأزمة السورية، فضلاً عن التفكير في معاناة السوريين التي لطالما شكل دافعاً وطرح تساؤلات عن حقيقة موقف حزب إردوغان من الأزمة، لا سيما بعد تحالف الجيش السوري الحر مع القوات التركية تحت مظلة ما سمي الجيش الوطني، حتى وإن بدت عفرين منطقة سهلة للسيطرة عليها عسكرياً، لكن النجاحات غير مضمونة في ظل التحركات الروسية المرتقبة، وقدرتها على إعادة موضعة موقف النظام مما يحدث.
وعلى الرغم من عدم التأثير المباشر فيما يحدث تجاه الأكراد على سير الأزمة السورية فيما يخص التنظيمات الإرهابية وعلى رأسها تنظيم داعش، فمن المرجح أن تؤدي عودة «داعش» إلى الواجهة إلى دق إسفين بين الولايات المتحدة وإردوغان الذي يستغل غياب أو تغييب المسألة الكردية في التناول الإعلامي العربي، وتراجع الاهتمام بالمسألة السورية على مستوى الإعلام الدولي، لا سيما بعد أن تخلى التنظيم عن الاستراتيجية الإعلامية الدعائية، واكتفى بتقوية جيوبه وإعادة تشكيل قواته، وكانت أولى المفاجآت إعادة السيطرة على الحجر الأسود جنوب دمشق، وهو يدرك أن بقاء قوته ولو في حدودها الدنيا سيعطي المبرر للنظام وروسيا لإبقاء الأوضاع مفتوحة وسيضعف التحالف التركي - الأميركي في ظل عدم قدرة الولايات المتحدة على تحقيق هدف القضاء على «داعش» دون الأكراد.
وفي الأيام القليلة السابقة، سيطر تنظيم داعش على80 في المائة من مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين، جنوب العاصمة السورية دمشق بعد معارك دامية مع «هيئة تحرير الشام» المناهضة لنظام الأسد، وهو ما يعني اقتسامه الهيمنة مع النظام وتصفية المعارضات المحلية المسلحة.
بقاء تنظيم داعش هو مبرر الوجود الأميركي وإعلان بوتين بشكل منفرد نهاية «داعش» للقطع مع أي مشروع لتمكين الأكراد، يعني أننا أمام ساحة إرادات متباينة لا تبحث عن حل للأزمة السورية، وحتى ما يشاع عن مفاوضات سياسية لن تؤدي في نهاية المطاف مع الفوضى العسكرية والأمنية سوى لإطالة أمد الأزمة ومنع عودة محتملة لأي لاجئين في ظل سيطرة تركيا المتوقعة على عفرين، وزحف الوجود الإيراني المدعوم من روسيا إلى حدود الجولان، وإذا كان من محرك جديد في هذه الفوضى الكبيرة التي تعيشها سوريا اليوم، فهو للأسف الشديد سيكون انطلاقاً من أي تهديدات أو ضغط على إسرائيل التي لن تتوانى عن الدفع بكل كروتها السياسية لدى الولايات المتحدة لإيقاف المد الإيراني، دون أي احتمال لمواجهات مباشرة، هناك مقايضة كبيرة على واقع سوريا وليس مستقبلها، حيث باتت البلد الذي تتحدد من خلاله هوية وقوة الأنظمة المجاورة وتظل الكوارث الإنسانية التي تطول السوريين فوق كل احتمال أو فهم في بلد لم يعد أهله عاجزين عن التفكير بمستقبل أكثر أمناً، وإنما حتى القوى الدولية التي تورطت في المستنقع السوري المفتوح على كل الاحتمالات.
عن"الشرق الأوسط"