لفنون الجميلة هي جوهر الحضارة، وروح الحضارة، ومعنى الحضارة. لا يشك في ذلك غير جاهل أو متجاهل. كما أن حضارة بلا فنون جميلة تبقى حضارة بدون حياة، حضارة ميتة في الحساب الأخير. لذلك، لم يحدث في التاريخ أن وُجدت حضارة بدون فنون جميلة شاملة لكل مناحي العمران والمعمار والتشكيل والموسيقى والمسرح والطبخ واللباس وما إلى ذلك من الجماليات التي تعكس الهوية المشتركة والذوق العام للمجتمع.
بل ليس تاريخ الحضارات، في مجمله، سوى تاريخ الفنون الجميلة التي تغذي الروح، وتنمي الحواس، وتهذب سلوك المواطنين داخل الفضاء العمومي، وتلجم غرائز العنف والعدوان في النفوس، وتضمن العيش المشترك بين أفراد المجتمع.
لذلك لم يحدث في تاريخ البشرية أن قامت حضارة مقتصرة على السيف، أو العتاد الحربي والآليات العسكرية، كما يزعم أنصار شعار “أعدوا لهم”. بل لا تخلو الجوانب العسكرية نفسها من الفنون الجميلة حين يتعلق الأمر بالحضارة وبكل ما تعنيه كلمة الحضارة من معنى، من قبيل الموسيقى العسكرية، والقصائد الملحمية، والنصب التذكارية، إلخ.
كل الحضارات القديمة قامت على قاعدة الفنون الجميلة، لا شك في ذلك. بل حتى الحضارة الحديثة نفسها انطلقت فنيا وجماليا من النهضة الإيطالية، والتي كانت نهضة فنية وجمالية في المقام الأول، من خلال الأعمال الفنية الكبرى لرواد النهضة الأوروبية (على غرار ليوناردو دافنشي، مايكل أنجلو، رافائيل، وغيرهم)، وصولا إلى الروح الفنية الألمانية التي أنتجت روائع الموسيقى العالمية (مثل بتهوفن، موزارت، باخ، فاغنر، وغيرهم). إن الفنون الجميلة لهي الهوية الحقيقية للشعوب. وبلا شك فإن شعوبا بلا فنون جميلة هي شعوب بدون هوية. فعن أي هوية حضارية يتحدث دعاة تحريم الفنون الجميلة؟
لقد كان تحريم الفنون الجميلة في حضارتنا بدعوى “درء الشرك” كما يزعمون، تعطيلا للحواس، ودخولا رسميا إلى عصر الانحطاط، ومن ثمة بداية تآكل الحضارة الإسلامية من الداخل، وانهيارها في الأخير تحت معاول من يزعمون حراستها، ثم وصولا في آخر الحساب إلى تكاثر الحركات الجهادية المنتشية برفع الأعلام السوداء على الأشلاء والأنقاض والمقابر الجماعية في مشارق الأرض ومغاربها.
في واقع الحال لم يدمر الاستعمار نفسه فنوننا الجميلة -أو ما أبقينا منها- مثلما فعلنا بأنفسنا وأيدينا. فليست “القابلية للاستعمار” التي تحدث عنها مالك بن نبي سوى العدمية الناجمة عن خواء الروح من المعنى، وذلك بعد أن همشنا الفن والإبداع، ومسحنا الأرض من مظاهر الجمال الكائنة والممكنة.
إن الإصرار اليوم على تحريم الفنون الجميلة باستعمال كل الحيل الفقهية الممكنة وغير الممكنة، وتأليب الناس على أهل الفن، وتحريض الفنانين على إعلان التوبة قبل يوم الحساب الذي يوصف كما توصف الكوابيس المرضية، كل ذلك ليس سوى تبديد وسواسي لممكنات النهوض من جديد، وهذه المرّة بدعوى “الصحوة المباركة”، ويا للمفارقة.
حتى القضية الفلسطينية نفسها، فالملاحظ أنها لم تعد بمثل ذلك الزخم الذي كانت تمتلكه في إنتاج الفنون الجميلة خلال النصف الثاني من القرن العشرين (مثل الرسم والكاريكاتير والشعر والسينما والموسيقى والأغنية والرواية، إلخ)، فماذا بقي منها في الحساب الأخير غير صواريخ عشوائية بين الفينة والأخرى، مرفقة بتغطية فرجويّة تضمنها بعض الفضائيات التهييجية، والتي انتهت، من حيث تقصد أو لا تقصد، إلى استنزاف الطاقة التعاطفية لدى شعوب المنطقة.
بهذا المعنى يكون الإسلام السياسي في الحساب الأخير مجرد مرحلة من مراحل الحرب الأهلية طويلة الأمد التي تشنها الذات على الذات، والتي يشنها “حراس الهوية” على كل ما تحفل به الهوية من قيم فنية وجمالية، إنها اللحظة الأشد ضراوة من فتنة دائمة تنام حينا، وتستيقظ أحيانا.
وإن كان الهجوم يبدأ أحيانا من الحلقة التي تبدو كأنها الأضعف (الفن الهابط، أو الفن التافه، إلخ) إلا أن الغاية القصوى هي الوصول إلى تدمير كل أشكال الإبداع الفني، وذلك بدعوى مكافحة البدع والشرك، وعدم التشبّه بالكفار، وما إلى ذلك من أساطير التكفيريين.
لعل البعض يستشهد بقوة السينما الإيرانية في عهد حكم آيات الله كدليل على أن “الإسلام السياسي” قد يتصالح مع الفنون الجميلة، بل قد يصبح داعما لها ولو بحسبان. لكن، ينسى هؤلاء أو بالأحرى يتناسون أن أشهر المخرجين السينمائيين الإيرانيين في المستوى العالمي، والذين يحصدون فعلا جوائز دولية مستحقة، إنما يعيشون في المنافي البعيدة، هناك حيث يبدعون بلا قيود.
إضعاف الفنون الجميلة والحس الجمالي سيكون بمثابة إضعاف للحواس أوّلاً، ثم إضعاف للرّوح الإبداعية لدى الشعوب على وجه العموم، وذلك قبل أن تصبح الحضارة -أو بقايا الحضارة- مجرّد صحراء قاحلة، ممتدة بلا أول ولا آخر. وبئس ما يبتغون.خلال حقبة المعارضة والطابع الاجتماعي لبرنامجه الانتخابي.
وإذا كان الحزب قد استطاع تصدر الانتخابات الأخيرة وقيادة الحكومة مرة ثانية، فإن هذا عائد بدرجة أولى إلى حجم المقاطعة لدى الناخبين الذين لا يرغبون في التصويت، مقابل أنصار الحزب الذين يصوتون بكثافة، بمثل ما يعود إلى خطاب المظلومية الذي رفعه الحزب في عهد عبدالإله بن كيران خلال الحملة الانتخابية.
بيد أن هناك تحولات عميقة داخل المجتمع المغربي تسير في منحى سحب الثقة من هذا الحزب، كما تعكس ذلك الانتخاباتُ الجزئية المرحلية التي أجريت في بعض المدن خلال الأسابيع الأخيرة، التي خسر فيها أصوات الناخبين لفائدة أحزاب أخرى كحزب الاستقلال وحزب الأصالة والمعاصرة والتجمع الوطني للأحرار.
عن صحيفة "العرب"