عبد الباسط هيكل: لا يمكن إحداث قطيعة معرفية مع التراث

عبد الباسط هيكل: لا يمكن إحداث قطيعة معرفية مع التراث

عبد الباسط هيكل: لا يمكن إحداث قطيعة معرفية مع التراث


31/12/2023

أجرى الحوار: سامح إسماعيل

قال الدكتور عبد الباسط هيكل إنّه لا سبيل لتجديد الفكر الديني دون البدء بقراءة التراث الذي يأتي أولاً، ثم يليه التجديد الذي لا ينفي التراث بل يعيد النظر فيه، مؤكدّاً أنّ كل قراءة للتراث ليست سوى محاولة لإعادة تفسيره من خلال الحاضر، ولا سقف يحدّها، ولا شروط تعوقها سوى "التمكن" المعرفي والتمرّس بأدوات البحث ومناهجه.

وأضاف الأستاذ المشارك في علوم العربية وآدابها بجامعة الأزهر في حوار مع "حفريات" أنّ التراث فكر واجتهاد إنساني لا يتم بمعزل عن واقعه "فهو نتاج مباشر للمكان والزمان الذي أُنتج فيه ووفق الآليات المعرفية التي توفرت له"، منتقداً التخوف من استخدام المناهج الحديثة في دراسة التراث بحجة الخوف من الخطأ والتبعية، وذهب إلى أنّ ذلك يعكس ضعفاً في الثقة بالنفس، ويوهم بقداسة التراث وتعاليه عن كونه اجتهادات صاغها القدامى.

لا يمكن إحداث قطيعة معرفية مع التراث فالماضي مايزال يتحرّك من خلالنا في وعينا به وتفاعله

والدكتور عبد الباسط هيكل باحث مصري متخصص في الفكر الإسلامي وخطاب الجماعات الإسلامية، من أهم منشوراته: "مفهوم الدولة المدنية في الإسلام"، و"أزمة خطاب الجماعات الإسلامي بين القديم والحديث"، و"الضلع المفقود: علاقة المفسر بالنص". و"قراءة في منطلقات تأويلية نصر أبوزيد"، صدرت له مؤخراً دراسة بعنوان: باب الله، الخطاب الديني بين شقي الرحى.

وهنا نص الحوار:

هل نستطيع رصد تحولات نوعية اتخذها الأزهر تحت ضغط التساؤلات الصعبة، في اتجاه صياغة رؤى جديدة، تنقل التراث من منطقة المقدس والمفارق، إلى مساحات أخرى أكثر مرونة، كخطوة أولى ربما تأخرت كثيراً، نحو خطاب ديني جديد؟

يمكن القول إنّ مؤتمر جامعة الأزهر: "قراءة التراث الإسلامي بين ضوابط الفهم وشطحات الوهم" الذي عُقد في آذار (مارس) 2018، وما سبقه في مؤتمر "البناء المعرفي والأمن الفكري"، أعاد إلى الواجهة موقف الأزهر من محاولات قراءة التراث، الذي يظهر في استخدام دال الأمن الفكري، وشطحات الوهم، وضوابط الفهم التي تُجمل الموقف المعرفي للأزهر في: "أنا أو شيطان التطرف".

من الخطأ الاعتقاد أنّ التراث فقط هو الذي يُؤثّر في الحاضر على نحو أحادي الاتجاه

ويمكننا التعرف أكثر إلى موقف الأزهر من خلال التوصيات التي تبنّاها المؤتمر، ومنها تعريف التراث بأنّه "مجموع الذخيرة الحضارية للأمة الإسلامية، وذاكرتها الحافظة لتطور العلوم والمعارف والمناهج والعقول والثقافة والفنون"، وأخرجت من التراث القرآن الكريم والسنة، بوصفها نصوص الوحي المؤسِّسة، فأسقطت بذلك القداسة عن التراث، التي قال بها الدكتور طه عبد الرحمن -الحاصل من منظمة المؤتمر الإسلامي على جائزة الفلسفة والفكر الإسلامي العام ٢٠٠٦ - عندما جعل القرآن الكريم جزءاً من التراث، وهذا الاختلاف نموذج لتعدد الصور الذهنية التي بُنيت حول طبيعة "التراث" في الفكر الإسلامي المعاصر.

وبذلك أسس مؤتمر الأزهر لنفي القداسة عن التراث، ولفكرة قابلية التراث للنقد، ثم عاد واستدرك على الفكرة فميّز بين مسار هدم، ومسار نقد  حصره في عملية التنقية والتدقيق والعناية بتحقيق التراث، وأوصى بنشر مئات الرسائل العلمية بالجامعة التي قامت بتحقيق كتب التراث، وأكّد المؤتمر في توصياته على رفض إخضاع التراث لمناهج بحثية حديثة، رأى أنّها لا تتناسب مع طبيعة نصوص التراث.

مؤتمر جامعة الأزهر"قراءة التراث الإسلامي بين ضوابط الفهم وشطحات الوهم"عُقد بآذار 2018

ولكن، في هذه الرؤية رغم أهميتها قدر كبير من المراوغة، فما الذي يمكن أن نؤسّس عليه، في ظل هذه المصادرة على حرية إخضاع التراث للمناهج العلمية الحديثة؟

في هذه الرؤية ما يمكن أن نُؤسّس عليه، وفيها ما يحتاج إلى إعادة مناقشة، فنسلّم بداية بأنّه لا يمكن إحداث قطيعة معرفية مع التراث؛ فـ"نحن في التراث كما نحن في العالم، لا اختيار لنا معه ولا انفصال عنه"؛ فالماضي وإن كان قد انقطعت صيرورته ولم يعد فاعلاً، إلا أنّه مايزال يتحرّك من خلالنا في وعينا به وتفاعله -إيجاباً أو سلباً- مع سعينا لبناء الحاضر واستشراف المستقبل، فمن الخطأ أن نظنّ أنّ التراث فحسب هو الذي يُؤثّر في الحاضر على نحو أحادي الاتجاه، بل الحاضر أيضاً يُؤثّر في التراث بالقدر نفسه؛ لأنّه ليس كياناً منفصلاً عنّا، بل نحن مركز ذاك التراث نعيد تشكيله وفق الحاضر منه في عقولنا.

ما بين دعاة القطيعة ودعاة استدعاء التراث، كيف يمكن تحقيق تجديد ناجز للفكر الديني؟ وهل من سبيل لذلك دون الحاجة إلى قراءة جديدة لإعادة استنطاق التراث؟

لا سبيل لتجديد الفكر الديني دون أن نبدأ بقراءة التراث الذي يأتي أولاً، ثم يليه التجديد الذي لا ينفي التراث؛ بل يعيد النظر فيه، فكل قراءة للتراث ليست سوى محاولة لإعادة تفسيره من خلال الحاضر، فقراءة التراث لا تبدأ من فراغ؛ بل من طرح أسئلة الحاضر التي تبحث لها عن إجابات داخل بنية التراث، وكلما كان الباحث على وعي بمشكلات الواقع الذي يعيشه أمكنّه إنتاج قراءة واعية تُساهم في مسار التجديد.

كيف يمكن إنتاج قراءة موضوعية للتراث، يتأسس عليها فهم جديد للدين، دون أن يتم ضبط المفهوم نفسه أولاً؟ بمعنى آخر كيف نسائل التراث ونحن لا نعرف طبيعته، وهو يستعصي على التحديد بهذه الصورة رغم حضوره الطاغي؟

أغفلت توصيات مؤتمر "قراءة التراث" التركيز على طبيعة التراث، فإدراكنا  لطبيعة التراث هو الذي سيقودنا لإنتاج قراءة واعية يُمكن البناء عليها؛ فالتراث فكر واجتهاد إنساني لا يتم بمعزل عن واقعه، فهو نتاج مباشر للمكان والزمان الذي أُنتج فيه ووفق الآليات المعرفية التي توفرت له. كما أنّ التراث ليس معطى واحداً بل متعدد ومتنوع، فلا يخضع لمنظومة فكرية موحدة متجانسة، بل لمجموعة من أنساق فكرية متنوعة تبعا لاختلاف الرؤى والتوجهات، ومن أمثلة ذلك الاختلاف حول تعريف "الإيمان"، بين كونه قاصراً على تصديق القلب، وكونه مرتبطاً إلى جانب تصديق القلب بالعمل (العبادات)، ومثل قضية المجاز في القرآن الكريم  التي شهدت اختلافاً وتنوعاً في تراث الأشاعرة والحنابلة والمتصوفة والفلاسفة والمعتزلة وغيرهم.. مما يجعل الباحث -شاء أم أبى- في حالة اختيار مع التراث، الذي هو في واقعه متنوع؛ فالباحث لا يقدّم التراث بالألف واللام الجنسية، وإنّما يُقدم اختيار وموقف من التراث، وفي الوقت الذي نسلّم فيه بتنوع وتعدد مجالات واتجاهات التراث، إلا أنّه يربطها ببنية فكرية واحدة تُمثّل المنجز المعرفي التراثي.

وكيف يمكن الوقوف على طبيعة هذه البنية؟

يُمكننا الوقوف عليها من خلال اكتشاف العلاقات العضوية المُشكّلة لمختلف مجالات التراث، من اللغة والنقد والبلاغة وعلم الكلام وعلوم القرآن وغيرها.

وما التحديات التي تقف أمام تفعيل هذا الطرح؟ وهل تعود إلى   طبيعة التراث؟

التحدي الأكبر هو إنجاز وعي علمي بالتراث، من حيث الأصول التي كوّنته والعوامل التي ساهمت في حركته وتطوره، حتى وصل إلينا، فذاك هو البعد المفقود في دراسة التراث، وإذا كنا في حالة خوف من ضياع الهوية، والقلق من حالة التبعية الثقافية الكاملة للآخر، فإنّ الوعي العلمي بحقيقة تراث وكيفية تكونه، سيُساعدنا على  الصمود والتصدّي والمقاومة، بل والتجاوز والتأسيس والمضي في البناء المعرفي.

ليس معقولاً في القرن 21 أن نتمسك بقواعد القراءة العلمية التي وضعها أسلافنا تمسكاً حرفياً

نبقى أمام إشكالية المنهج؛ فالمناهج الكلاسيكية القديمة لن تقدم لنا أي جديد، وستظل مخرجاتها في دوائر السرد والتكرار دونما حل للتناقضات الصارخة، والأزهر يرفض التجاوب مع منهجيات تحليل الخطاب الحديثة.. فما الحل في رأيك؟

نعم، التفكير في إنجاز وعي علمي بالتراث يضعنا في مواجهة مع إشكالية المنهج الذي سيُحدد مسارنا، بين كونه ترديداً أو تجديداً، إنها الإشكالية التي تغلّب عليها الشيخ عبد القاهر الجرجاني، فتفرّد عن معاصريه بتجديد ما زلنا نحتفي به إلى يومنا، وعجزنا نحن عن مواجهة إشكالية المنهج، وهو ما جعل قراءاتنا للتراث لا تعدو عن كونها ترديداً فحسب، وإذا كان عبد القاهر قد أفاد لا من جهود سابقيه فقط، وعلى رأسهم القاضي عبدالجبار الأسد آبادي المعتزلي، بل من إنجازات أرسطو اليوناني في كتابيه "الشعر" و"الخطابة"، فإن واجبنا كباحثين معاصرين أن نفيد من إنجازات المناهج الحديثة المعاصرة في: اللسانيات، وعلم تحليل الخطاب، والسميولوجيا، والسرديات.

التحدي الأكبر إنجاز وعي علمي بالتراث من حيث الأصول التي كوّنته والعوامل التي ساهمت في حركته وتطوره

إنّ التخوف من هذه المناهج في دراسة التراث بدافع الخوف من الخطأ، يتنافى مع الإسلام الذي جعل للمجتهد المخطئ أجرين، والتخوّف منها بدافع من الوقوع في التبعية، يعكس ضعفاً في الثقة بالنفس، ويوهم بقداسة التراث وتعاليه عن كونه اجتهادات صاغها القدامى، في الوقت الذي أقررنا فيه بنفي القداسة عنه وقابليته للنقد، القراءة الواعية للتراث لا سقف يحدّها، ولا شروط تعوقها سوى "التمكن" المعرفي؛ أي تمام العلم بشروط وأدوات "المعرفة"، والتمرّس بأدوات البحث ومناهجه، حسب المواصفات التي وصل إليها التقدّم المعرفي في عصر الباحث.

ليس معقولاً ونحن في القرن والحادي والعشرين أن نتمسك بشروط وقواعد القراءة العلمية التي وضعها أسلافنا تمسكاً حرفياً، ونتجاهل تطوّر أدوات المعرفة في عصرنا هذا، إذا كانت علوم اللغة والبلاغة وعلوم القرآن من العلوم الأساسية التي اعتبر أسلافنا -على حق- أنّ الإلمام بها شرط من شروط التأهُّل للاجتهاد والقراءة العلمية المنتجة، فهل معنى ذلك أن نتمسك بمستوى علوم اللغة والبلاغة في القرن الخامس أو السادس الهجريين، وأن نتجاهل مستوى التقدم المُذهل الذي تحقق في مجال هذين العلمين! لماذا لا نستفيد في المنجزات المتغيرة للعلم والمعرفة في قراءة النصوص اللغوية والخطابات الفكرية"! لماذا عندما نتحدث عن تناول التراث وفق أدوات منهج التحليل اللغوي الحديث مثلاً، نراها محاولات لإخضاع التراث لمنهجيات غربية؟ ألم تكن لغة العلم لغتنا في عصور التألق الحضاري، لماذا ألصقناها اليوم بالغرب وجعلناها مرادفة له؟

الصفحة الرئيسية