عندما توفّى، وحتى ينشر خبر نعيه في الصحف، اضطر أصدقاؤه إلى تغيير حقائق عنه، ربما تكون جذرية، من أجل إشهار نبأ رحيله عن هذه الدنيا التي عاركها وعاركته، وأشعل في أفكارها الحرائق، واختلف القوم بشأنه، لا سيّما وأنه ابن منطقة لم تعرف هذه المشاكسة التي تمسّ المقدس، وتصيبه في مقتل.
ينتسب المفكر السعودي عبدالله القصيمي إلى جيل قديم في الثقافة العربية المعاصرة، وكان لوقع اسمه في الخليج العربي رنة تبعث على الشكوك، وتثير المشكلات، فكانت كتبه ومنشوراته توزّع سراً، وكانت أفكاره تُهرّب، والويل لمن تورط بحيازة فكرة أو منشور أو كتاب لعبدالله القصيمي الذي يوصف بأنه من أوائل الملحدين وأشهرهم في السعودية والخليج العربي.
كانت كتبه ومنشوراته توزّع سراً وكانت أفكاره تُهرّب
ورغم ما جلبته هذه الاختيارات الفكرية عليه من متاعب، وما وضعت في سبيله من عثرات، وعقبات هددت حياته، إلا أنّ ذلك لم يحُلْ دون أن يوصف من لدن الشيخ حسن القاياني في مجلة "المقتطف"، في عددها الصادر في 10 شباط (فبراير) 1947، "معسكر الإصلاح في الشرق، قلبه هو السيد القصيمي نزيل القاهرة اليوم، نجديّ في جبته وقبائه، وصمادته وعقاله، فإذا لمحَتهُ عيناك لأول مرة، قلتَ: زعيم من زعماء العشائر النجدية، تخلف عن عشيرته، لبعض طيته، حتى إذا جلستَ إليه فأصغيت إلى حديثه الطيب، أصغيتَ إلى عالم بحر يفقه بعلم ديني واجتماعي".
القاياني يضيف: "تعرّفتُ إلى العلم النجديّ القصيمي، فجلست إليه مرة ومرة، ثم شاهدته كرّة، فناهيك منه داعيةَ إصلاح، أكثر ما يلهج به الشرق وأدواؤه وجهله ودواؤه".
ولد القصيمي، بحسب السرديات التاريخية، في العام 1907 في خب الحلوة بمدينة بريدة في منطقة القصيم وسط السعودية، وأخواله من عائلة الرميح المشهورة. التحق بالأزهر في القاهرة في العام 1927، لكنه سرعان ما فُصل منها بسبب تأليفه كتاب "البروق النجدية في اكتساح الظلمات الدجوية"، الذي جاء رداً على مقالة عالم الأزهر يوسف الدجوي "التوسل وجهالة الوهابيين" المنشورة في مجلة نور الإسلام في العام 1931.
بعدها، ألّف القصيمي كتباً هاجم فيها علماء الأزهر، مثل "شيوخ الأزهر والزيادة في الإسلام"، "الفصل الحاسم بين الوهابيين ومخالفيهم" و"الثورة الوهابية".
وبعد هذه المرحلة، كما يرى مؤرخو سيرة الرجل، تغيّر القصيمي ووصل مرحلة وصفه فيها معارضوه بالملحد. فألّف كتاب "هذي هي الأغلال" وكتاب "يكذبون كي يروا الله جميلاً"، وكتابه "العرب ظاهرة صوتية".
ولد القصيمي في العام 1907 في خب الحلوة بمدينة بريدة في منطقة القصيم وسط السعودية
ونتيجة لتوجهه الإلحادي الجديد، تعرّض القصيمي لمحاولتيْ اغتيال في مصر ولبنان. ثم سُجن في مصر بضغط من الحكومة اليمنية، بعدما بان تأثر طلاب البعثة اليمنية في مصر بفكره، لكثرة لقاءاته بهم.
وفُرض حصار شديد على القصيمي وأفكاره وكتبه، وظل هذا الحظر مقيماً ردحاً طويلاً من الزمن حتى قررت أخيراً دار جداول للنشر والترجمة التي يديرها السعودي الدكتور يوسف السمعان التعاقد مع المحامي المصري إبراهيم عبدالرحمن لنشر وتوزيع كتابه "خمسون عاماً مع عبدالله القصيمي". وعبدالرحمن، كما يقول موقع "إيلاف" أحد أكثر الأشخاص القريبين من القصيمي، تعرّف إليه أثناء دراسته الثانوية، ولم يفارقه إلا ملقياً عليه وداعه الأخير قبل أن يُوارى الثرى في مقابر باب الوزير في القاهرة في 9 كانون الثاني (يناير) 1996.
وقيل إنّ القصيمي عاد إلى الإسلام في آخر حياته، وثابر على تلاوة القرآن الكريم. لكن عبدالرحمن نفى هذا، مؤكدًا أنه مات على فكره الذي عُرف عنه.
وسبق للكاتب عبد الله القفاري، في الحلقة الثالثة من سلسلة مقالات معنونة "خمسون عاماً مع القصيمي"، نشرت في جريدة الرياض السعودية في عددها الصادر في 16 حزيران (يونيو) 2008، أنْ ذكر:
سألته أخيراً (ويقصد الكاتب القفاري أنه سأل ابراهيم عبد الرحمن) هناك من روج لفكرة تحول القصيمي في آخر أيام حياته وهو على فراش الموت، وأنت القريب منه حتى تلك الساعات الأخيرة في مستشفى فلسطين حيث ودع الحياة؟! قال لي: هذه كذبة جميلة، روج لها البعض ليُمرّر اسم القصيمي على صفحات الصحف، في وقت كانت الكتابة عن القصيمي مشكلة بحد ذاتها، فقد حسم عبد الله القصيمي منذ وقت مبكر خياراته، لقد كانت كذبة جميلة تستهوي من يبحث عن فكرة التائب العائد، لكنها ليست هي الحقيقة على الإطلاق".
تغيّر القصيمي ووصل مرحلة وصفه فيها معارضوه بالملحد
يقول عبد الله القصيمي في كتابه "هذي هي الأغلال": إنّ المسلمين يقفون أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن يستفيدوا من التراث العلمي للبشريةـ أو أن يبقوا متخلفين جهلة، ولكي يتخلصوا من الركود الذي هم فيه، ما عليهم إلا أن يعرفوا أنه لا توجد معرفة ضارة ولا جهل نافع، وأن كل الشرور مصدرها الجهل، وكل الخير مصدره المعرفة".
أما في كتابه "العرب ظاهرة صوتية" فيرى أن"العرب ليظلون يتحدثون بضجيج وإدعاء عن أمجادهم وانتصاراتهم الخطابية حتى ليذهبوا يحسبون أن ما قالوه قد فعلوه، وأنه لم يبق شيء عظيم أو جيد لم يفعلوه لكي يفعلوه.. إن من آصل وأرسخ وأشهر مواهبهم أن يعتقدوا أنهم قد فعلوا الشيء لأنهم قد تحدثوا عنه".
تعرّض القصيمي لمحاولتيْ اغتيال في مصر ولبنان ثم سُجن في مصر بضغط من الحكومة اليمنية
ويقول في كتابه "عاشق لعار التاريخ": "قد يكون تحطيمك لصنم ما، تشييداً لصنم أعظم". ويضيف في موقع آخر من الكتاب بلغة شاعرية وجدانية:
"إن كل دموع البشر تنصبّ في عيوني...
إن كل أحزانهم تتجمع في قلبي...
إن كل آلامهم تأكل أعضائي...
ليس لأني قديس، بل لأني مصاب بمرض الحساسية، بمرض الانتقال إلى الآخرين، إلى أحزانهم، إلى آلامهم، إلى آهاتهم المكتومة والمنطوقة، إلى عاهاتهم المكشوفة والمستترة.
إني أنقد الإنسان بقسوة لأني أتألم له، لأنه ليس سعيداً كما أريده، ليس نظيفاً كما أريده، ليس عظيماً كما أريده.
لا توجد معرفة ضارة ولا جهل نافع وأن كل الشرور مصدرها الجهل، وكل الخير مصدره المعرفة
إني أريد الابتسام والسرور لكل القلوب لكل الوجود، فلا أجد ما أريد، فأثور وأنكر، أعاتب الكون والحياة، لأنهما لم يحترماه، لم يرحماه، لم يسألاه.
إني أغضب من أجل الانسان... ليس لأني قديس بل لأني حزين، لأني حزين!"
وتتضّح معالم فكر القصيمي أكثر في كتابه "العالم ليس عقلاً" حيث يقرر أن "الذين لا يشكّون هم الذين لا يعلمون. فالعلم دائماً شك والجهل يقين. وكلما تعلمنا الشيء وأحطنا به ازددنا شكاً. والمبصرون أكثر من العميان شكاً في مرئياتهم. وكلمة يقين لا وجود لها في القوانين الكونية أو العلمية".
عن"thewhatnews.net"