طرابلس المُعاقبة تدفع ثمن سياسة الفراغ

طرابلس المُعاقبة تدفع ثمن سياسة الفراغ


31/01/2021

منى فياض

الشارع يغلي منذ مطلع الأسبوع، والغضب يتعمم. يبدو أن الاحتجاجات تتوالى تصاعديا. مظاهرات وقطع طرق واعتراضات متنقلة بين طرابلس وصيدا وبعض المناطق الأخرى، مروراً ببيروت، وسط تعتيم إعلامي نسبي وقمع للمتظاهرين وللصحفيين. من غير المعروف بعد إلى ما ستؤول إليه دورة الاحتجاج هذه: هل ستتعمم على مختلف المناطق وتطال مختلف الشرائح كي لا تتخذ طابعاً مذهبياً معيناً كما يكون عليه الحال عندما تتمركز في مدينة طرابلس السنية التي تعاقب على مدى السنوات! 

يسهل على البعض شيطنة حركة جياع حقيقية - في المدينة المصنفة كأفقر مدن المتوسط - زمن الحجر الذي يخيّر فقراءها بين الموت جوعاً أو بكورونا. وبدل توفير المساعدات الغذائية، يطلب منهم الموت في بيوتهم أو بالرصاص في الساحة. فعند تجمع شبان الدراجات الغاضبين، ومنهم ملثمون، يسهل تحوّل ساحة النور إلى ساحة حرب مملوءة حجارة وإطارات مشتعلة وقنابل مولوتوف. 

كلما اعترضت طرابلس، حركت بعض الجهات أزلامها ليخرّبوا التحرك ويقلبوا حراكها السلمي عنفاً وتدميراً للمدينة. سبق أن حطموا قلب بيروت مرات عديدة. بالمقابل تتحرك القوى الأمنية لمواجهة الوضع بالمزيد من العنف. 

تدهور الوضع هذا قابل للاستغلال من قبل أطراف أو أجهزة أو مخابرات لتشويه وشيطنة حركة الاعتراض وتحويلها إلى أعمال عنف. كما يسمح في نفس الوقت بالتسبب بايجاد شرخ بين الجمهور وبين الجيش والأجهزة الأمنية. من هنا ضرورة التنبه لمنع تخلخل الثقة بالمؤسسة الوحيدة الباقية كأداة توحيد للشعب اللبناني بين مسلميه ومسيحييه. 

في هذا الوقت لا تحرك السلطة السياسية ساكنا، وكأن هذا يحدث في بلد آخر، ما يؤكد مجدداً أحقية الاحتجاجات من قبل شعب متروك لمصيره. 
ما الذي ننتظره من سلطة تمارس الضغوط على القضاء فتؤخر التحقيق في انفجار المرفأ الذي يعد جريمة العصر؟ فتعرقله وتقضي على صدقيته! في هذا الوقت يفتح ملف تبييض الأموال من قبل القضاء السويسري الذي تقدم بطلب تحقيق قضائي يتعلق بمصرف لبنان والتحويلات المالية المشبوهة التي حصلت منه إلى البنوك السويسرية. ويبدو أن مساءلة رياض سلامة في هذا الملف تتعلق بصفته حاكم مصرف لبنان وليس بملفاته الشخصية. ما يعني أن التحقيق قد يطال مجمل السياسيين المتورطين في حركة الأموال المشبوهة.

لا نعرف إلى أين ستصل تداعيات هذا الملف، وهل سيكون الأمر إيذانا بفتح صندوق باندورا على الطبقة السياسية برمتها أم لا؟ ما يزيد من هشاشة القطاع المصرفي المهتز أصلاً. كلها أسئلة مفتوحة لا نملك الإجابة عنها حالياً ولا في القريب العاجل. يعتبر البعض الدعوى التي أقيمت في لبنان على رياض سلامة التفافاً على القضاء السويسري لمنع سفره وفتح كافة الملفات.

بالمقابل لا تكتفي السلطة الحاكمة بتأجيل الاستحقاقات لتلبية مطالب شعبها، بل تمعن في تصفية حساباتها وكأن الأمر جزء من مهمتها في تصفية الدولة ككل. وبما أن جميع الملفات متداخلة وعالقة، تستخدم الأطراف كل استحقاق للتصويب على بعضهم البعض لتحقيق مكاسب من جهة وحماية أنفسهم من جهة أخرى، لمنع فتح الملفات على غاربها. 

في هذا الوقت تستكمل دائرة الهدر والفساد ووضع اليد على ما تبقى من أموال المودعين في المصارف، بعد أن نهبت أموال الخزينة، فيستمر تهريب المواد المدعومة بأموالهم على الحدود الفالتة، إضافة إلى تصاعد أصوات تطالب باستخدام احتياط الذهب - إذا كان لا يزال سالما- أو بيع أملاك الدولة بعد أن وضعت وزارة المالية اليد على مشاعاتها.

هذا في ظل انهيار الاقتصاد بجميع قطاعاته، كالسياحة والفنادق والتربية، من مدرسة وجامعة. والأخطر انهيار الأمن الصحي. وفي هذا تهديد للأمن القومي ككل. 

حتى القطاع الصناعي الذي انعشته قليلاً الأزمة الاقتصادية والمالية في العام الماضي، مهدد بالانهيار بسبب تدابير السلطة غير المسبوقة في أي من دول العالم، إذ أقفلت المصانع ومحال السوبر ماركت تحت ذريعة الحجر الصحي. 

فلقد جاء هذا الإغلاق ليشعل الأسعار ويفاقم الغلاء لصعوبة نقل السلع، الأمر الذي يتسبب باختناق المياومين من باعة وعمال يدويين وسائقي التاكسي وغيرهم ممن يكسبون لقمتهم باليومية، في ظل غياب الدعم والمعونات التي تقدمها دول العالم لسكانها كي يستطيعوا الصمود في منازلهم، من تقديمات عينية وتخفيف الضرائب وتأجيل الفوائد الخ... كل ذلك يفتقده اللبنانيون الذين وصل أكثر من نصفهم إلى خط الفقر بسبب الانهيار الاقتصادي والمالي وتضخم العملة وفقدان حوالي 80% من قيمتها، ما يضع لبنان على بركان متفجر.

كيف وصلنا إلى هنا؟ سلطة تهدد حياة اللبنانيين والأمن القومي اللبناني وتستمر في الحكم؟

يصعب فهم الأحداث السياسية اليومية إذا اكتفينا بمتابعة ذبذبات الزمن القصير السريعة، بحسب تعبير بروديل. نحتاج إلى متابعة الزمن المتوسط لفهمها بشكل أفضل. فجميع ألعاب التشاطر والتشدد والاعتدال ، تصل إلى نهايتها ويتم كشفها مع الوقت. وهذا ما يسمح لنا بالاستنتاج أن تجميد الأوضاع في سبيل الضغط لتعديل موازين القوى، هو أداة حكم من يحتل لبنان بالواسطة. 

فمنذ اغتيال الحريري، نمرّ دورياً بفترات من الجمود التام كوسيلة ضغط لفرض أجندا معدة سلفاً. فبعد حرب 2006، لجأ من عرفوا بفريق 8 آذار، الذين أدّوا التحية لجيش الأسد المنسحب من لبنان، وكانوا أقلية نيابية، إلى عدد من وسائل الضغط تراوحت من "الست – إن" لأشهر عديدة في ساحة رياض الصلح مقابل القصر الحكومي، (ما قضى على وسط المدينة كمركز تجاري واقتصادي وسياحي)، للضغط على رئيس الحكومة فؤاد السنيورة آنذاك، (بعد أن استقالوا منها واعتبروها بتراء). لكن السنيورة فاجأهم بصموده.

وتتابعت الضغوط من غزوة بيروت المجيدة في 7 آيار 2008 التي راح ضحيتها حوالي 100 قتيل، بذريعة مؤامرة منعهم من تركيب كاميرات مراقبة في المطار، إلى اللجوء إلى العنف العاري حيث اغتيل عدد من أعضاء البرلمان النيابي لتغيير الأكثرية والتخويف. أدّى كل ذلك الى اتفاق الدوحة الذي أعطاهم ما سمّي الثلث المعطّل في مخالفة واضحة للدستور اللبناني.

ثم استخدمت جميع أنواع الابتزاز والتعطيل التي أصبحت وسيلة الضغط الدورية للحصول على تنازلات من الأطراف السيادية أو ما كان يعرف بـ 14 آذار. فعطِّل تشكيل الحكومات من أجل توزير الصهر أو ذريعة الحصول على حقائب سيادية أو خدماتية أو من أجل تمرير المعادلة الخشبية "جيش، شعب، مقاومة"، التي لم تعد ذات نفع الآن على ما يبدو. كما تم تعطيل الانتخابات حتى إقرار قانون انتخاب يكفل لهذه الجهة أكثرية مقاعد البرلمان.
وفي كل مرة كانت الأكثرية المنتخبة، قبل أن تحوّل إلى أقلية متعاونة، تخضع أمام سلاح الصبر الاستراتيجي الذي استنسخه حزب الله عن حافظ الأسد وملالي طهران. فتهرع لتنفيذ المطلوب منها خوفاً من الفراغ أو لحفظ مصالحها!!

وبعد تعطيل انتخاب رئيس لأكثر من سنتين ونصف، تحت شعار إما عون (الرئيس الحالي) أو لا رئيس. خضع السياديون، مرة أخرى للابتزاز، وامتنعوا عن انتخاب رئيس بالنصف زائد واحد، على غرار انتخاب سليمان فرنجية الجد، لماذا؟ خوفاً من الفراغ! 

الآن يتساءل اللبنانيون: ألم يكن الفراغ أفضل من تسويتهم التي فرغت المؤسسات وأمّنت انهيار الدولة بقضها وقضيضها بشكل "شرعي"! بانتخابهم من يغطي الحزب الذي يحكم باسم إيران وفي خدمتها؟ ويسعى للتجديد لنفسه ولو على الخراب؟

الآن وبدل الإسراع في تشكيل حكومة بحسب ما يطالب به الشعب اللبناني والأسرة الدولية والدول الإقليمية، لمعالجة الوضع والتخفيف من العنف المتفجر والكوارث المتناسلة، نجد الإمعان بالتعطيل. ولا حكومة في المدى المنظور: بذريعة ثلث معطل يضع السلطة بيد العهد، وتنافس على الوزارات وتقاتل على الحصص.

طبعاً كل ذلك انتظاراً لتبلور تطور العلاقات الإيرانية مع أميركا والدول الأوروبية

ربما يكون تدهور الوضع في طرابلس ومواجهة الاحتجاجات بدل معالجتها، مقدمات لانفجار العنف في لبنان على ما يعدنا به عضو كتلة التنمية والتحرير النائب محمد نصرالله: "إن البلاد تسير باتجاه الانفجار الكبير، الذي بدأ الجميع يتوقعه كنتيجة طبيعية للتدحرج الدراماتيكي على كل المستويات، والناتج بدوره عن القطيعة غير المعلنة بين رئيسي الجمهورية ميشال عون والمكلف سعد الحريري"، في حديثه لـ"الأنباء الكويتية". 

إلى ماذا سيؤدي مثل هذا العنف؟ تعميم العنف المجتمعي؟ أو عقد اجتماعات ومباحثات ووساطات تمهيدا لمؤتمر تأسيسي يعيد صياغة لبنان على ما يفرضه الأقوى؟ وهل سيحتمل الوضع ذلك؟

وهل أن تحرك بعض الأطراف لتشكيل جبهة معارضة سيكون باستطاعته منع هذا السيناريو؟ ومعارضة بوجه من؟ ومن أجل أي هدف أو برنامج؟
من باستطاعته قلب الطاولة هذه المرة؟ 

سننتظر لنرى ماذا سيحدث في ظل التغيرات العميقة والتحالفات الجديدة التي تحدث على مستوى الإقليم والعالم. وإلى متى سنظل تحت رحمة سلاح الفراغ وشيطنة مناطق السنة متمثلة بطرابلس.

عن "الحرة"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية