
إنّ واحدة من المظالم التي تعرضت لها السيدة هدى شعراوي، هي تقديمها على أنّها المرأة التي نزعت النقاب وداسته، وهذا ما لم يحدث تاريخيًا، فقد استغل هذا الحدث في أدبيات الجماعات المتشددة، ورُوّج له وزيد عليه بأنّها نزعت الحجاب وليس النقاب فقط، والفرق بينهما واضح، بل حتى نزع نقابها كان ضمن سياق تاريخي وحضاري تبحث فيه المرأة عن مكانتها. وظلم آخر تعرضت له هذه المرأة تاريخيًا بتحجيم دورها في كونها داعمة للمرأة ورائدة أولى للتحرر النسوي فقط، ومع صحة هذا لكن ما قدمته هدى يتخطى هذا الدور. والمطلع على الأدبيات التي كُتبت عنها ورسائلها وزياراتها وتحركاتها إبّان تلك الفترة التاريخية يتأكد أنّ تلك المرأة برزت كزعيمة وطنية على غرار سعد زغلول تمامًا، ولكن ضمن الثقافة الشرقية تُختزل المرأة في موقف لم يأتِ على هوى الجميع، وتنسى جميع وقفاتها. وذكر الباحث فتحي رضوان أنّها برزت بالفعل كزعيمة سياسية، لولا أنّ زعامتها اقترنت بالجهاد من أجل المرأة، فحجبت عن الناس خصائص زعامتها السياسية.
فقد حدث أنّه بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، ومع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ووقوف مصر إلى جانب بريطانيا، تطلعت مصر وقادتها إلى أن تفي بريطانيا بوعدها وتمنح مصر الاستقلال، لكنّ ما حدث هو أنّ بريطانيا تنكرت لهذا، ونفت سعداً ورفاقه خارج البلاد، وأعلنت أنّ مصر ليست دولة مستعدة للحكم الديمقراطي وإدارة شؤونها بنفسها، فتولى علي شعراوي زوج هدى زعامة الحزب بعد نفي سعد، ودعت هدى (300) امرأة من بنات وسيدات الطبقة العليا للخروج في مظاهرة تنادي فيها بالإفراج عن سعد ورفاقه واستقلال مصر، وكان خروج النساء في مظاهرة يحدث لأول مرة في تاريخ مصر الحديث، وكان متوقعًا لهذه المظاهرة الفشل، لكنّ ما حدث هو أنّ هدى خرجت على رأس الفتيات الكريمات، وسرن في أهم شوارع القاهرة، وتواجهن مع الضباط الإنجليز، وصوّب أحدهم بندقيته إلى هدى، التي قالت له بكل شجاعة: هيّا افعلها، واقتلني.
نضال سياسي يتجاوز الحدود
انضم الطلاب والعمال والموظفون في الأيام التالية، وبدأت حركة إضراب عظيمة في البلاد، وافقت على إثرها بريطانيا بالسماح لسعد ورفاقه على عرض مطالب مصر في مؤتمر السلام بباريس.
تبادلت هدى شعراوي الرسائل مع الكثير من الرجال والسيدات البارزين في عصرها، عارضة قضية بلادها، والظلم الواقع على شعبها، وكانت أهم تلك الرسائل تلك الواردة من السيدة چولييت آدم، تلك المرأة الفرنسية النبيلة التي وقفت تشد على أيدي الوطنيين المصريين، وكتبت لهدى تقول:
"مازلت أراكِ أمامي وأنت في شرفتي تتحدثين عن مصرنا الغالية. وأتذكر أيام صيف بعيدة كنتُ أتحدث فيها عن مصر مع مصطفى وعمر (تقصد مصطفى كامل وعمر شعراوي شقيق هدى). كانا زعيمين من زعماء المستقبل، مثلك وأنت تناضلين في سبيل هذا المستقبل. تذكرنّ أيتها المصريات ملكاتكنّ العظيمات اللائي لم تكن عهودهنّ أقلّ قيمة من عهود ملوك مصر...، ولتكن في هذه اللحظة مصدر إلهام لمطالب وطنية مشروعة."
وفي 16 آذار (مارس) عام 1923 دعت هدى إلى تأسيس الاتحاد النسائي المصري، وانتخبت رئيسة له، وشريفة رياض نائبة لها، وسافرت هدى بصحبة سيزا نبراوي ونبوية موسى لتمثيل المرأة المصرية في مؤتمر روما، وتم بحث مسائل المساواة في الأجور والتوظيف وجنسية المرأة المتزوجة من أجنبي، ووضع المرأة في القانون، وكانت هدى وسيزا قد تخلتا عن النقاب أيام انعقاد المؤتمر، وشعرتا بأنّه يمثل عائقًا للتواصل، وكان من التناقض أن تتخليا عنه في المؤتمر وتعودا إلى وضعه في مصر، وقد كانت هدى تؤجل هذه الخطوة حتى شعرت أنّ وقتها قد جاء، بينما صممت سيزا على أنّها لن تلبسه ثانية، وحين وصلت باخرتهما إلى الإسكندرية، صعد محمود سامي زوج ابنة هدى إليها، فأعلنت له عن نيتها فدعمها في موقفها، وعندما رأت السيدات المصريات سيزا وهدى تغادران الباخرة دون نقاب كشفن جميعهنّ عن وجوههنّ. كانت خطوة خلع النقاب رغبة قوية من المرأة العربية للمشاركة في الحياة العامة وصنع التاريخ، وكان النقاب رمزًا لعزل المرأة وقصدًا لتواريها، والتعامل معها بشكل جمعي، بينما يأتي كشف المرأة عن وجهها رغبة في أن يُتعامل معها كذات مستقلة لها بصمتها ورؤيتها لا تؤخذ بالجملة، لها ميزان ورأي وحضور يجب أن يحترم منذ الآن. وكانت هدى في كل ما جاء بعد ذلك في حياتها مثالًا قويًا للمرأة التي حفرت ملامحها الخاصة باستقلال وعزّة، مسجلة أعمالها باسمها الخاص، حيث تذكر عائلة كاملة منسوبة إلى امرأة في قدرها.
مناضلة عصية على التراجع
وبعد الاطلاع على الأدبيات التي تحدثت عن حياة هدى شعراوي، سترى أنّ هناك امرأة كانت تعمل بجد واجتهاد وطني لا يقلّ عن دور سعد زغلول، وإن كان أحيانًا يزيد، ومع هذا لم تحتل هذه المرأة في التاريخ المكانة التي تستحق. فعلى الرغم من كونها المرأة التي أرادت أن تخرج النساء من ظِل البيوت وعتمات الجهل وخمول التفكير، فقد كانت في التاريخ على قدرها ظِلًا للحراك الذي أحدثه سعد زغلول، مع أنّ المتحري لدور هذه السيدة سيجد أننا لو تخيلنا تاريخًا آخر، كانت فيه هدى شعراوي زعيمة حزب الوفد وقائدة ثورة 1919، ربما حصلت مصر على استقلالها قبل ذلك بأعوام كثيرة... كيف هذا؟ لم تكن لتتعطل مسيرة البلاد نحو استقلالها بسبب تقديم مصالحها الشخصية على مصلحة البلاد على نحو ما فعل سعد بزرع الشقاق بين قادة حزبه في فترة من فتراته وطمعه في الوصاية على العرش، وإن لم تكن وصلت أنباء هذا الشقاق وهذه المطامع إلى الشارع، لكنّه على الأقل أسهم بأنانيته التي شعرت بها بريطانيا في ألّا تأخذ مطالب البلاد بجدية، في الوقت نفسه الذي كانت تدفع فيه هدى باستماتة لوحدة رجال الوفد وتذكيرهم بهدف الوفد الأول، وحتى حينما شعرت في سعد ميلًا نحو الأنانية الشخصية، تغافلت تغافل إمرأة عاقلة وذكية، لأنّها تعرف أنّه لا أحد غيره يستطيع توحيد البلاد في ذلك الوقت.
لقد كانت هدى شعراوي بشخصيتها الصلبة ووطنيتها العتيدة وعائلتها طويلة الباع في العمل السياسي وثروتها التي رهنتها لخدمة الوطن ظهيرًا قويًا للحراك الوطني الذي شهدته عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، لقد كانت بتحركاتها ظهرًا قويًا لسعد وللوفد، فعملت على إنشاء مجلة (ليجيبسيان) التي تولت التعريف بالقضية المصرية داخل البلاد وخارجها، وكانت في كل تحركاتها تريد أن تكسب مزيدًا من الأصدقاء الحقيقيين لمصر، ورأت أنّ الاحتلال البريطاني يعمد إلى تخريب الاقتصاد الوطني وإضعافه، فعملت على تدعيم الصناعات الوطنية، وجاهدت لإنقاذ صناعة الخزف والتحف والنسيج المصري، وعمل معارض لهذه الحِرف خارج البلاد، وجمعت المزيد من الأموال من بيع هذه المنتجات للأنشطة الخيرية، وحثت الدولة ودعمتها في بناء المستشفيات والمدارس، ولم تكتفِ بهذا، بل كوّنت كتيبة أو جيشًا صغيرًا من الفتيات المتطوعات العضوات في الاتحاد النسائي الذي أسسته، فكانت كلّ منهن تحمل حقيبة بها صابون ومنظفات وأدوات إسعافات أولية ينتشرن بها في الأحياء الفقيرة من القاهرة. لقد كانت شعراوي ترسل رسائل احتجاج لممثلي السياسية البريطانية وكبار سياسييها بسبب تحركاتهم بأسطولهم في مياه المتوسط، ونددت بتدخلهم في السودان، وفي واحة جعبوب وضمها للأراضي الليبية، وكانت يقظة لتقسيم سوريا الكبرى ومرامي الدول الاستعمارية، وعارضت بشدة رغبة سعد عندما شعرت منه إذعانًا للإنجليز واختياره الحلّ الوسط، وعادت ودعمته ثانية لكي يخرج البلاد من انقسامها ويشكل حكومة ائتلاف وطني، ودعمت الملك فاروق الشاب الصغير حينما حاصرت قصره القوات البريطانية، وكانت في كل مسانداتها للرجال الذين مثلوا البلاد في ذلك الوقت مثالًا للمرأة القوية التي لا تهاب والتي تعرف ماذا تريد.
من أجل فلسطين
وكان موقفها مع القضية الفلسطينية منذ باكورة الأزمة دليلًا واضحًا على دور مصر في حمل هذه القضية على عاتقها منذ بداياتها، فقد كانت تستقبل الوفود الفلسطينية من رجال ونساء في بيتها "بيت المصرية"، كما كان يُسمّى، وفي مقر الاتحاد النسائي، وتستمع لما يحدث هناك على أيدي عصابات اليهود، وفي 9 حزيران (يونيو) 1936 عقدت هدى اجتماعًا مع زميلاتها في الاتحاد النسائي المصري، وقررن أن تصبح قضية فلسطين من الآن فصاعدًا الأولوية الأولى لهنّ...، وكتبت الكثير من المقالات والمراسلات باسم نساء الشرق، تندد فيها بالمظلومية التي تقع على الشعب الفلسطيني.
وفي أيلول (سبتمبر) 1938 كاتبتها منظمات المرأة الفلسطينية والسورية واللبنانية والعراقية تدعوها إلى تمثيلها في عرض القضية الفلسطينية في المنظمات الدولية وغيرها من المحافل.
وكان وقع قرار تقسيم فلسطين على هدى عظيمًا، إذ نُقل لها أنّ النقراشي باشا لم يستطع أن يُخفي دموعه المنهمرة وإحباطه وقنوطه يوم تلاوة قرار تقسيم فلسطين في الأمم المتحدة، وفاضت روحها بعد هذا الحادث بأسبوع واحد. لقد فارقت هدى شعراوي سيدة الدولة العزيزة الحياة في 7 كانون الأول (ديسمبر) عام 1947، بعد أن تركت تاريخًا مُشرّفًا تفخر به كل مصرية وعربية.