صبر أوروبا ينفد بشأن أردوغان

صبر أوروبا ينفد بشأن أردوغان


18/11/2020

ترجمة: محمد الدخاخني

سارع العديد من أولئك الّذين قدّموا نظريّاتٍ حول الواقعة إلى اتّهام الرّئيس التّركي، رجب طيّب أردوغان، بإذكاء غضب الإسلامويّين المتشدّدين. الواقعة هي هجومٍ إرهابيّ في في فيينا، حيث قُتِل أربعة أشخاص وأصيب 22 آخرون في هجومٍ بإطلاق النّار على حاناتٍ مكتظّة.

اقرأ أيضاً: السيسي في اليونان: هل انتهى زمن أردوغان في شرق المتوسّط؟

ليس ثمّة ما يُشير إلى أنّ أردوغان قد حرّض المُهاجم، وهو شابّ متطرّف اتّضحَ أنّه سَبق أن أُدين في النّمسا لمحاولته الانضمامَ إلى داعش، وقد أشارت السّلطات النّمساويّة إلى تعاطف الشّابّ مع داعش، فضلاً عن مزاعم داعش الّلاحقة بمسؤوليّته عن الهجوم، بيد أنّ الشّكوك الفوريّة في أنّ زعيم تركيا كان مسؤولاً بشكلٍ غير مباشرٍ تعكس الغضبَ في أوروبا من ردّ فعل أردوغان على الهجمات الجهاديّة الأخيرة على القارّة.

تماشياً مع نمطٍ تليد؛ جعل أردوغان نفسه، عن عمد، شخصيةً جاذبةً للنّقد، محاولاً الاستفادة من التّوترات الأوروبيّة الدّاخليّة بشأن الإسلام، من خلال الادّعاء بأنّه المدافع عن كافّة المسلمين، وبقيامه بذلك، يؤزّم علاقات تركيا، المشحونة أصلاً، مع غيرها من الدّول الأعضاء في حلف شمال الأطلسيّ ويزيد من لاشعبيّته بين العديد من الأوروبيّين، ومن المفارقات أيضاً؛ أنّ أردوغان يجعل موقف المهاجرين الأتراك الّذين يعيشون في دولٍ مثل النّمسا وألمانيا وهولندا، وأماكن أخرى في أوروبا، أكثر صعوبة؛ حيث يُنظر إليهم بشكلٍ متزايدٍ على أنّهم أسلحة محتملة لأردوغان في معركته السّياسيّة ضدّ الغرب، وقد حاول أردوغان بالفعل القيام بذلك في أماكن أخرى في أوروبا؛ فكما أشرتُ، عام 2017، أدخل أردوغان نفسه في الانتخابات البرلمانيّة الهولنديّة في ذلك العام، مرسلاً وزير خارجيّته لعقد تجمّع انتخابيّ ضدّ رغبة الحكومة الهولنديّة، وساعياً علانية للتّأثير على النّاخبين من أصلٍ تركيّ.

مهما كانت دوافع ماكرون؛ فإنّ أردوغان واضح، إنّه يلعب اللعبةً المألوفة، نفسها الّتي لعبها لأعوام، في محاولةٍ لتتويج نفسه زعيماً للعالم الإسلاميّ الحديث

بيد أنّ بؤرة هذه التّوترات تكمن في العلاقة بين أردوغان والرّئيس الفرنسيّ، إيمانويل ماكرون، الذي ردّ بقوّةٍ، كما يُحاجج البعض بقوّةٍ شديدة، على الهجمات الإرهابيّة الأخيرة في فرنسا، وقد وصلت العلاقات الثّنائيّة بين تركيا وفرنسا، الآن، والتي كانت متزعزعةً بالفعل من قبل، إلى نقطة الانهيار.

اقرأ أيضاً: هل ينقذ بايدن الأكرادَ من براثن "المستبد" أردوغان؟

وفي 16 تشرين الأوّل (أكتوبر)؛ قتلَ لاجئٌ مسلمٌ من أصلٍ شيشانيّ مدرّساً يُدعى صمويل باتي، وقطع رأسَه في إحدى ضواحي باريس، وخلال فصلٍ دراسيٍّ حول حرّية التّعبير، عرض باتي لطلّابه بعض الرّسوم الكاريكاتوريّة المثيرة للجدل لمجلّة "شارلي إيبدو" الفرنسيّة السّاخرة، والتي اتّخذت من النّبي محمّد موضوعاً لها، وكان قد استُشهد بالرّسوم الكاريكاتوريّة، بالطّبع، على أنّها الدّافع وراء أحد أكثر الأيّام صدمة في فرنسا، عام 2015، عندما ذبح جهاديّون موظّفي مكتب "تشارلي إيبدو" في باريس، وقتلوا آخرين، بمن فيهم زبائن متجرٍ يهوديّ، وكان وقْع مقتل باتي الوحشيّ شديداً على الفرنسيّين؛ لأنّه مات في سبيل دفاعه عن حرّية التّعبير، وهو مبدأ شبه مقدّس في إخلاص فرنسا للّائكيّة، أو العلمانيّة.

ومن جانبه، أطلق ماكرون، على الفور، حملة توقيفٍ وكبح؛ حيث أغلق منظّمات إسلامويّة في كافّة أنحاء فرنسا، وأعلن أنّ حكومته "ستكثّف حربها ضدّ الإسلامويّة الرّاديكاليّة"، وقد عبّر عن الصّراع بعباراتٍ صريحةٍ، قائلاً إنّ السّلطات ستتّخذ إجراءاتٍ ضدّ الأفراد، وكذلك الجماعات، الّذين يروّجون "لمشروعٍ إسلامويٍّ راديكاليّ، بعبارة أخرى، أيديولوجيا تَهدِف إلى تدمير الجمهوريّة الفرنسيّة".

اقرأ أيضاً: مغامرات أردوغان الفاشلة: من "صفر مشكلات" إلى "مشكلات فقط"

وسُرعان ما شنّ أردوغان هجومه، منتقداً ماكرون بشدّة، وعندما قتلَ مهاجمٌ آخر ثلاثة أشخاص في كنيسة في نيس، في 29 تشرين الأوّل (أكتوبر)، ذابحاً امرأة، لم يرتدع أردوغان، وأعلن في اجتماعٍ لحزبه؛ أنّ "ماكرون في حاجةٍ إلى نوعٍ من علاجٍ نفسيّ"، وأضاف: "ما الّذي يمكن قوله غير ذلك عن رئيس دولةٍ لا يؤمن بالحرّيّة الدّينيّة؟"، ووصفت فرنسا التّصريحات بـ "غير المقبولة"، واستدعت سفيرها في أنقرة.

يَزعم بعض منتقدي ماكرون أنّه يلعب سياسة داخليّة، حامياً نفسه من خصومه اليمينيّين من خلال تعهّده بقمع المتطرّفين الإسلامويّن والدّفاع عن الحقّ في الإساءة

ثمّ رفع أردوغان الرّهان. وفي خطابٍ مُتلفَزٍ إلى الأمّة، بعد يومين، دعا إلى مقاطعة المنتجات الفرنسيّة، وادّعى بشكلٍ غير معقولٍ أنّ مسلمي فرنسا "يتعرّضون لحملة إعدام دون محاكمة شبيهة بتلك الّتي استهدفت يهود أوروبا قبل الحرب العالميّة الثّانية"، وحثّ بقيّة العالم على الدّفاع عن المسلمين في فرنسا، ومن جانبهم؛ أعرب القادة الأوروبيّون على الفور عن دعمهم لماكرون، بيد أنّ انتقادات أردوغان لردّ ماكرون وجدت صداها عند الزّعماء الشعبويّين في باكستان وماليزيا، ومتظاهرين في الشّرق الأوسط، وفي كافّة أنحاء العالم الإسلاميّ.

اقرأ أيضاً: أردوغان.. بين التصريحات الجوفاء وغياب الفعل

بالنّسبة إلى العديد من الأوروبيّين؛ بدت كلمات أردوغان وكأنّها تبرير مقنّع لعمليّات القتل والتّحريض على المزيد من العنف، ومن النّاحية الفلسفيّة؛ يُعدّ هذا صداماً حول حدود حرّيّة التّعبير وردّ الحكومة الفرنسيّة المناسب على الإرهاب، لكنّ الخلاف يتكشّف في سياق المنافسة الجيوسياسيّة؛ حيث يُراهن أردوغان على جانب وماكرون على الآخر.

يَزعم بعض منتقدي ماكرون أنّه يلعب سياسة داخليّة، حامياً نفسه من خصومه اليمينيّين من خلال تعهّده بقمع المتطرّفين الإسلامويّن والدّفاع عن الحقّ في الإساءة، لكنّ ردّ ماكرون عكس، أيضاً، مشاعر شعبيّة في فرنسا، وعندما اتّهم بعض المراقبين الّليبراليين في الولايات المتّحدة ماكرون بمحاولة الحصول على ميزة سياسيّة عبر موقفه الصّارم، قال كثيرون في فرنسا؛ إنّ الأمريكيين لا يفهمون الوضع، حتّى الـ "لو موند"، وهي صحيفة يساريّة، اشتكت من "العمى الأمريكيّ المربك تجاه الجهاديّة في فرنسا".

اقرأ أيضاً: "بايدن أوروبا".. وأردوغان

ومهما كانت دوافع ماكرون؛ فإنّ أردوغان واضح، إنّه يلعب لعبةً مألوفة، الّلعبة نفسها الّتي لعبها لأعوام، في محاولةٍ لتتويج نفسه زعيماً للعالم الإسلاميّ الحديث.

 لقد فعل ذلك، عام 2009، عندما خرج بشكلٍ مسرحي من إحدى لجان المنتدى الاقتصاديّ العالميّ في دافوس، بعد مهاجمة رئيس إسرائيل، شمعون بيريز، بشأن الوضع في غزّة، وفعل ذلك في ذروة الربيع العربي، قبل ما يقرب من عقدٍ من الزّمن، عندما كانت الأحزاب المرتبطة بجماعة الإخوان المسلمين تفوز بالانتخابات في تونس، وتكتسب نفوذاً في كلٍّ من مصر وليبيا، لقد سافر أردوغان إلى الدّول الثّلاث في جولة انتصار واضحة؛ حيث أظهر نفسه على أنّه زعيم ما بدت لفترةٍ وجيزةٍ وكأنّها ديمقراطيّات عربيّة ناشئة تُهيمن عليها أحزاب إسلامويّة.

اقرأ أيضاً: مَن خوّل أردوغان للتحدث نيابة عن المسلمين؟

لقد انهار هذا المشروع، لكنّ أردوغان لم يتخلّ عن تطلّعاته لمدّ نفوذه خارج حدود تركيا، حتّى مع تصاعد المشكلات الاقتصاديّة المحليّة. فإضافة إلى تحرّكات أردوغان العدوانيّة تجاه ماكرون، كان الخلاف يتصاعد بالفعل بشأن عددٍ من القضايا الأخرى، أبرزها؛ مسعى أردوغان لإرسال سفنٍ تركيّة بحثًاً عن حقول النّفط والغاز في المياه المتنازع عليها شرق البحر المتوسّط​، وهو نزاع أدّى إلى قراراتٍ صعبةٍ، الصّيف الماضي، عندما بدا أنّه قد يقود إلى صراعٍ عسكريّ.

 ويُعدّ التّدخّل العسكريّ التّركيّ في ليبيا مصدر خلافٍ آخر، وكذلك دعم أنقرة لأذربيجان في صراعها مع أرمينيا حول منطقة ناغورنو-كاراباخ المتنازع عليها.

إنّ وقوع هجوم فيينا دون أيّة كلماتٍ من جانب أردوغان، أو ماكرون، من الأمور المحتملة بشدّة، لكن مع وجود أوروبا في خضم ما يمكن أن يُصبح موجةً أخرى من الإرهاب، فإنّ الصّبر على خطاب أردوغان ينفد.

مصدر الترجمة عن الإنجليزية:

فريدا فيتيس، "وورلد بولتكس ريفيو"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية