
حملت الإطاحة بنظام بشار الأسد في الثامن من كانون الأول (ديسمبر) العام الماضي آمالاً كبيرة بالنسبة إلى السوريين، فنظام الأسد واستبداده أنهكا الشعب السوري، منذ توليه الحكم في تمّوز (يوليو) عام 2000، كما نالت سوريا نصيب الأسد من الفوضى التي لحقت بالانتفاضات العربية في العام 2011، ودخلت سوريا في دوامة حرب أهلية مدمرة كانت الأسوأ في تاريخها.
وحسب ما صرحت به أنياس كالامار، الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية عقب سقوط حكم عائلة الأسد، فإنّ السوريين تعرضوا لما وصفته بـ "سلسلة مرعبة من انتهاكات حقوق الإنسان، تسببت بمعاناة إنسانية لا توصف على نطاق هائل"، وذكرت كالامار أنّ منها "هجمات بالأسلحة الكيماوية والبراميل المتفجرة وغيرها من جرائم الحرب، ناهيك عن أعمال القتل، والتعذيب، والاختفاء القسري، والقتل الجماعي التي ترقى إلى حد الجرائم ضد الإنسانية".
وعلى قدر عداوة الشعب السوري لعائلة الأسد جاء تمجيده لأحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) بوصفه مُخلص الشعب السوري من استبداد وإجرام بيت الأسد، ورغم تعامل الشرع ببراغماتية شديدة على مستوى السياسات الخارجية، إلّا أنّ حكمه لسوريا يبدو حتى اللحظة إقصائياً وذا بُعدٍ واحد، حيث يتصدر المشهد الإسلاميون، أو أصحاب الميول الجهادية.
هل تخرج سوريا من دوامة الاستبداد؟
مع سيطرة فئات بعينها على الإدارة السورية، وربما المجال العام في سوريا عموماً، خاصّة الإدارات السياسية والمؤسسات المحلية، والحديث عن الانتقال الديمقراطي للسلطة، يظهر التساؤل حول إمكانية بناء سوريا الديمقراطية، بالمعنى الكامل للديمقراطية وليس صندوق الانتخابات الذي يبرر الاستبداد، ومع دعوى أسلمة الدولة السورية يظهر السؤال حول مصير الدولة المدنية في سوريا.
وفي تصريح للأكاديمي السوري الفرنسي خلدون النبواني لـ (حفريات) قال: "لا شك أنّ سوريا تحررت بسقوط نظام الأسد، وهو أكثر نظام قمعي استبدادي في التاريخ المعاصر، ولكنّها لم تتحرر بذلك حينما سقطت في يد جماعات وفصائل إسلامية، لها تاريخ جهادي معروف، على الرغم من أنّها تتعامل ببراغماتية في سياساتها الخارجية؛ فيما يتعلق بعلاقاتها مع دول الجوار والدول العربية، والدول الأخرى خاصة في دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، بل حتى مع دول المنطقة إسرائيل وإيران تتعامل ببراغماتية واضحة.
وأضاف النبواني أنّه على مستوى الداخل، فالأمور ليست مبشرة، فحتى الآن لا توجد غير حكومة من لونٍ واحدٍ؛ غير مؤهلة أو كفء، فهي تضم مجموعة من الجهاديين الذين لم يعرفوا غير القتال، وحصلوا على شهادات مشكوك بأمرها، من مؤسسات تعليمية تابعة لهم، وغير معترف بها، ويسوّقون لأنّفسهم بوصفهم حكاماً مدنيين، ولكن خلف هؤلاء المدنيين ما تزال هناك شخصيات التفكير الفصائلي الجهادي.
ورغم الدعاوى المُختلفة لمشاركة كافة الأطياف في إدارة الشأن العام في سوريا، إلّا أنّ هناك سيطرة واضحة للعناصر الإسلامية والجهادية، وهذا ما أوضحه النبواني: هناك أيضاً احتكار للحكومة وللسلطة من لونٍ واحدٍ، وإقصاء للشخصيات الوطنية السورية، حتى اللجنة التي قدموها ربما قبيل اجتماع باريس بيوم واحد ليقولوا إننا نتحرك ونحتاج لرفع العقوبات كانت أيضاً من لون واحد، غير سيدة واحدة مسيحية اختاروها، وهم في ذلك لم يختلفوا عن بشار الأسد الذي كان عادة ما يقدّم شخصيات مسيحية ليقول إنّه يحترم التنوع والحضور الطائفي ليحظى بتأييد الغرب.
وكان بقية أعضاء اللجنة جميعهم من مرجعية دينية، وحتى معظمهم من الجناح العسكري، أو الجهاديين، والبعض الآخر كانوا من المشرفين على الجهاد السياسي أو ما يسمونه بالتوجيه السياسي والمعنوي، وطبعاً من خلفيات متطرفة. ووفق ما تدار به الأمور في سوريا فالأمر غير مبشر ولا أظن أنّ الحكومة القادمة ستكون باتجاه الديمقراطية، وحرية الرأي وعدم الإقصاء.
وبسؤال الدكتور نبواني عن انتقال سوريا من مراحل الاستبداد الأسدي والخروج إلى الحرية وإمكانية تدوال السلطة، أجاب: هم سيسعون بشكل واضح إلى الانفراد بالحكم وفرض سيطرتهم على الدولة السورية، وكمجرد واجهة سيقولون إنّهم سيجرون الانتخابات، وإنّهم فازوا بالانتخابات لمدة (7) أعوام، ويليها (7) أعوام، ويمرّ الأمر كما كان مع الأسد، لتدخل سوريا عصراً من الاستبداد، ولكن بصبغة دينية متشددة.
أسلمة المجتمع السوري
الواقع أنّ المشهد السوري العام تسيطر عليه الجماعات الجهادية، وحسب ما تقوله وكالة (رويترز) فإنّ مصدرين سوريين صرحا بأنّ حكام سوريا الجدد ضموا بعض "المقاتلين الأجانب"، ومن بينهم من الأويغور والأردن وتركيا، إلى القوات المسلحة، بدعوى تشكيل جيش محترف من مختلف القوى والفصائل الموجودة، وهو ما يتعارض بشكل مباشر مع مواطنة الدولة ومدنيتها، حيث يُعدّ الانتماء هنا عقائدياً وذا خليفة جهادية، وليس مواطنة جغرافية من داخل المجتمع السوري.
وحسب ما تذكر (العربية) فإنّ مبعوثين أمريكيين وفرنسيين وألماناً حذروا الإدارة الجديدة في سوريا من أنّ تعيينهم مقاتلين أجانب في مناصب عسكرية عليا يمثل مصدر قلق أمني، ويسيء إلى صورتهم في محاولتهم إقامة علاقات مع دول أجنبية، خاصة أنّ من بين هؤلاء المقاتلين من كانوا أعضاء في تنظيم (داعش) الإرهابي.
وحسب المشهد السياسي السوري، فإنّ كافة العناصر الرئيسية المسيطرة على المشهد السوري الآن لها نشاط جهادي سابق، ممّا يوحي بأسلمة الدولة السورية، وهذا ما أضافه الدكتور نبواني لـ (حفريات) قائلاً: "على مستوى الداخل هناك محاولة لأسلمة سوريا، وتمرير إيديولوجيا متشددة غريبة على المجتمع السوري، وهذا يؤكد أنّ ما يتم الآن هو محاولة لتقديم تنازلات حتى تمرّ العاصفة، ولكي يتمكنوا أكثر، ويثبتوا أقدامهم في السلطة، ويحصلوا على دعم شعبوي كبير".
وأضاف الدكتور النبواني أنّ هناك نظرة أو فيما يشبه القاعدة أنّ السنّة الآن قد وصلوا إلى الحكم، ويجب ألّا يتنازلوا عنه، حتى وإن كانوا من مرجعيات جهادية، وبالتالي فإنّ الأمر لا يبشر بالخير لا على مستوى تمدين سوريا، والحفاظ على وجهها المدني الحضاري المعروف، وقبول كل أطياف الشعب السوري، ولا على صعيد التداول السلمي للسلطة، فهو نزوع طائفي وربما جهادي بلا شك، وليس مدنياً بالضرورة.
وحسب المعطيات التي يقدمها المشهد السوري وتاريخ عمل الفصائل الإسلامية، خاصة بعد فشلها الذريع على المستوى العسكري والسياسي والاجتماعي، فإنّ العمل البراغماتي الذي يشهده العالم من أحمد الشرع والعالم اليوم، ما هو إلّا إحدى أدوات سيطرة هذه الجماعات السياسية على المشهد العام، والتمكين الإداري والاجتماعي الذي يُمكنها من السيطرة وفرض رؤيتها على الدولة السورية، ثم على المجتمع الدولي برمته.