سنقاتل حتى آخر فلسطيني.. قراءة في خطاب حسن نصر الله

سنقاتل حتى آخر فلسطيني.. قراءة في خطاب حسن نصر الله

سنقاتل حتى آخر فلسطيني.. قراءة في خطاب حسن نصر الله


05/11/2023

جاء خطاب الأمين العام لحزب الله اللبناني حسن نصر الله؛ ليطرح على المشهد المحتدم في الشرق الأوسط جملة من التساؤلات؛ تحيل بدورها على قراءة حتمية لكواليس الصراع، في ظل شلال الدم المتفجر في قطاع غزة، بشكل غير مسبوق، بحيث لم يعد من المقبول، بالتزامن مع المحرقة الجنونية التي تباشرها إسرائيل في القطاع، استدعاء مقولات التبرير التقليدية، وبالتبعية تحقيق المزيد من الانتظار لمشهدية خلاصية، يقودها السيد من مخبئه في لبنان أو من أيّ مكان آخر.

وبعيداً عن التصورات الوصفية، ارتكزت سردية حسن نصر الله على قاعدة خبرية؛ تعمد فيها إخفاء الحقيقة، عبر جملة من الإشكالات المنطقية، لعلّ أبرزها إيهام المتلقي بأنّ الجميع تفاجأ ممّا جرى صباح 7 تشرين الأول (أكتوبر) الفائت، وأنّ حماس تقاتل وحدها منذ البداية، دون حلفائها في محور الممانعة، لكنّ السيد لم يرهق نفسه كثيراً في صياغة مبررات مقنعة لهذا الإخفاء، أومحاولة  فض الاشتباك بين مفردات الخطاب التي يحاول إقناع المتلقي بها، والجهاز المفاهيمي لأبجديات التحرك السياسي والعسكري، وطبيعة التحالفات في الشرق الأوسط.

لم يعد خافياً على أحد ضلوع طهران في المشهد القائم، فدولة الملالي التي قامت على مبدأ تصدير الثورة، أصبحت لا تملك الآن غير تصدير أزماتها للمجال الجغرافي المحيط

بالطبع، خضع نصر الله للأمر الواقع في لبنان، حيث تلقى السيد اتصالات متعددة من الداخل اللبناني، طالبته صراحة بأن ينأى بلبنان عن الحرب الشاملة، كما طالبته واشنطن بعدم تطوير الموقف العسكري في الشمال، من خلال اتصالات جرت عبر رئيس البرلمان نبيه بري، وحملت تطمينات بأنّ إسرائيل لن تجتاح الجنوب، شريطة أن يظل التصعيد عند حدوده الدنيا.

ويمكن القول إنّ السيد أذعن لإيران ليس إلّا، والتي لم يكن لديها أيّ خطط لتطوير الصراع بعد 7 تشرين الأول (أكتوبر)، لكنّها استغلت الموقف لنقل الميليشيات التابعة لها من العراق إلى الجنوب السوري، والجنوب اللبناني، بالإضافة إلى تطوير ترسانتها العسكرية في المنطقة، عبر نقل أسلحة نوعية، حملها لواء تحرير الجولان الموالي لها، وكذلك ميليشيات المرتزقة (زينبيون وفاطميون) التي تمّ نقلها من العراق إلى جنوب غرب سوريا.

استخدم نصر الله مفهوم الحقل البوردياوي، حيث ربط في أسلوب خطابي كلاسيكي، بين جملة من العلاقات الموضوعية والتاريخية، مع توظيف الرأسمال الرمزي، مثل: الحديث عن هزيمة الولايات المتحدة الأمريكية في لبنان والعراق وأفغانستان، وانتصارات المقاومة في حرب تمّوز (يوليو) 2006، ليخلق فضاءً مربكاً من تدافع الأحداث، من أجل فرض مقولاته الإدراكية على البنى الذهنية للمتلقي، الذي ينتظر لحظة بعينها، يعلن فيها السيد الدخول المباشر إلى المعركة، لكنّ السيد لفت في مناورة مدروسة، إلى أنّه في المعركة بالفعل، وأنّ الانتصار يتراكم ويتشكل بالنقاط مع مرور الزمان.

ينتزعك السيد سريعاً من الإحباط، عبر بناء اعتباطي اصطناعي لجملة من المقولات الحماسية، ترتفع فيها نبرة التهديد والوعيد، من خلال مشهدية ربانية؛ يستدعي فيها مناقب آيات الله (الخميني وخامنئي)، ويبشر تحت غطاء ديني بنصر حتمي. ويغرق السيد أكثر فأكثر في فضاء اللعبة، بحسب توصيف بورديو؛ ليحيل المتلقي على مراهنة يقتحم سريعاً كل شروط الدخول إليها؛ عبر تهديد أساطيل الولايات المتحدة، زاعماً أنّه أعدّ لها العدة، لكنّه لن يكشف عمّا دبر لهذا اليوم الموعود! ليوهم المتلقي أنّه فاعل مستقل وقوي، قبل أن يمهل أنصاره بعض الوقت؛ ليدوي الهتاف: "لبيك نصر الله"، كحلٍّ أخير لصراع الأفكار المتناقضة داخل الحقل الخطابي المرتبك.

جرّد نصر الله المعركة من عنفوانها، وأهال الماء البارد على طوفان الحماسة المشتعلة؛ ليحدث ما يشبه القطيعة مع الأمنيات؛ باستدعاء التمثل الواقعي لتوازن القوى، مؤكداً أنّ المقاومة لم تستعد بعد للحظة الفارقة.

لم يعد خافياً على أحد ضلوع طهران في المشهد القائم، فدولة الملالي التي قامت على مبدأ تصدير الثورة، أصبحت لا تملك الآن غير تصدير أزماتها للمجال الجغرافي المحيط، فإيران التي استبقت موجة "الربيع العربي" العاتية بهجوم اعتراضي في سوريا، نجحت في ضبط حركة الأواني المستطرقة على وضع الإيقاف، لكنّها فشلت بفعل تناقضها الداخلي في تأجيل لحظة الانفجار، بفعل ضغوط الداخل من جهة، وبفعل التدخلات الأمريكية/ الإسرائيلية من جهة أخرى، وهنا لجأت طهران إلى تخفيف الضغط؛ عبر الدخول إلى ساحة الرهان بكل حمولته.  

كان نصر الله حريصاً على نفي أيّ دور لإيران في أحداث "طوفان الأقصى"، وبالتبعية نفي دور حزب الله، على عكس سير الأمور ومنطق الأحداث من الناحيتين الاستراتيجية والجيوسياسية، وبعد فاصل من الوعيد بلا وعود، لفت نصر الله إلى دور المقاومة الإسلامية العراقية، في المناوشات التي استهدفت القواعد العسكرية الأمريكية، في تغطية مدروسة وساذجة في الوقت نفسه على الدور الإيراني المدمر في العراق، والذي أحالها إلى دولة ميليشيات طائفية.

حرص نصر الله على التأكيد على هوية المقاومة الإسلامية في العراق، بأنّها عراقية، رغم كونها مجموعات طائفية من ميليشيات الحشد الشعبي وألوية النجباء والوارثين وعصائب أهل الحق، وغيرها، بالإضافة إلى المرتزقة من باكستان وأفغانستان.

وبالمجمل، لم يكن خطاب نصر الله لإعلان الحرب كما ظن البعض، أو إعلان مفاجآت على غرار خطب عبد الناصر في الخمسينيات والستينيات، وجاء الأداء رتيباً نمطياً، ألقى فيه بالكرة في ملعب إسرائيل، حين جعل التصعيد في الجبهة الشمالية مرتهناً بقرار تل أبيب.

كان نصر الله حريصاً على نفي أيّ دور لإيران في أحداث "طوفان الأقصى"، وبالتبعية نفي دور حزب الله، على عكس سير الأمور ومنطق الأحداث من الناحيتين الاستراتيجية والجيوسياسية

ربما كان الخطاب محبطاً لأنصار السيد، لكنّه كشف عن ضعف محور الممانعة الذي تقوده طهران، والتي تلعب أدواراً براغماتية، عبر أذرعها الميليشاوية الوظيفية في العراق وسوريا ولبنان واليمن؛ بحيث بات من الواضح أنّ طهران لن تدخل في أيّ صراع مباشر يستفز إسرائيل، وينتج عنه إضعاف حزب الله، أو القضاء عليه، وقد بات واضحاً أنّ حماس تُركت وحدها في ميدان القتال، في مواجهة وحش فاشي متعطش للدماء، بينما تنصلت طهران وأذرعها الميليشياوية من المسؤولية.

ربما لم يكشف السيد عن جديد، في سرديته الكربلائية التي مجد فيها الموت، كثمن رخيص لنضال طويل تحسمه النقاط، رغم أنّه قرّر ألّا يدفع هذا الثمن، وهذا حقه، لكنّ اللافت أنّه ظلّ يحث الفلسطينيين على الموت المقدّس، ممّا يعني أنّ إيران مستعدة للقتال حتى آخر فلسطيني.

أبرز المسكوت عنه في خطاب السيد، هو ذلك الوهن الذي أصاب إيران، والترهل الذي لحق بذراعها المسلحة في الجنوب اللبناني، وهو ترهل ربما بات ينذر بسقوط دولة حزب الله الموازية في لبنان، والتي تستمد مشروعيتها من وجود إسرائيل.

إنّ الارتباك الداخلي الذي لحق بطهران طيلة عام مضى، منذ مقتل مهسا أميني، يدفع تجاه جملة من التصورات، لعل أبرزها وضوح رغبة طهران في إشعار الآخرين بوجودها على الأرض، وبأنّ دولة الملالي ما زالت قوية، رغم كل ما يعتريها من وهن، ممّا يدفع تجاه اتفاق نووي يرضي المرشد الأعلى، ويدفع الولايات المتحدة وإسرائيل إلى الابتعاد عن ساحة الداخل الإيراني.

ربما لم يكشف السيد عن جديد، في سرديته الكربلائية التي مجد فيها الموت، كثمن رخيص لنضال طويل تحسمه النقاط، رغم أنّه قرّر ألّا يدفع هذا الثمن، وهذا حقه، لكنّ اللافت أنّه ظلّ يحث الفلسطينيين على الموت المقدّس، ممّا يعني أنّ إيران مستعدة للقتال حتى آخر فلسطيني

فشل خطاب نصر الله في لفت الانتباه، ولم يحقق الحد الأدنى من ردة الفعل الإيجابية، بفعل الرتابة الخطابية الرنانة، والشعارات الجوفاء، دون وجود مضمون سياسي حقيقي، بل وحمل خطابه لغة فوقية خلاصية، أشبه بربانيات الإخوان وجماعتهم الناجية.

يمكن القول إنّ ألوان الطيف التي جاءت بها إيران إلى المنطقة فقدت صبغتها الممانعة، وسقطت كل أكاذيبها، وظهر تخليها عن المقاومة في فلسطين، بعد أن لعبت طهران دوراً مركزياً في استقطاب المقاومة، عبر جماعة الدعوة والإصلاح، التي يقودها عراب الإخوان في إيران عبد الرحمن بيراني، الذي كان القنطرة التي عبرت من خلالها حماس إلى الحرس الثوري الإيراني، ومع الوقت أصبح إسماعيل قاآني هو القائد الحقيقي للقسام، وحين بدأت المحرقة الصهيونية اللعينة، وخرجت عن السيطرة، نفض الحرس الثوري يده من المقاومة، وآثر، في نهج طائفي ضيق، الحفاظ على أذرعه المسلحة في المنطقة، مع إطلاق عمليات محدودة هنا وهناك، لذرّ الرمال في العيون، والإعلان عن تضامن عبثي بلا معنى.

وعلى المقاومة أن تدرك، وهي تخوض حربها العادلة ضدّ عدو لم يعرف التاريخ مثلاً لوحشيته، أنّها ترفع لواء القتال وحدها، وأنّ أجندة طهران السياسية يغلب عليها الطابع الانتهازي، وتصدير الأزمات للآخرين، دون وجود خطة حقيقية للدخول إلى حرب تحرير، ذلك أنّ العمائم لن ترفع أبداً رايات النصر.

لقد فقد حسن نصر الله الكثير من سلطته الرمزية التي صنعها عبر عقود، وهي سلطة ربما كانت في وقت ما شبه سحرية، والآن لم يعد لها ذلك الأثر المتداول، بعد أن عجز خطابه عن تحقيق التماسك النظري بين الأفكار المطروحة، وافتقد إلى عمق التحليل، وفشل في إبراز البنى الخفية لاستراتيجيته، وطرق اشتغالها الأدائي، أو تحديد طبيعة النظم السياسية الفاعلة، والعلائقية الداخلية والخارجية بين مكونات المقاومة وأدوراها في لحظة تاريخية حاسمة، فسقط السيد بفعل فقدان التمثل البنيوي لمخرجات خطابه السياسي، ومفردات الراهن، وبفعل عدم التماهي مع الحقل السياسي الذي أنتجت فيه كل شعارات المقاومة، ومقولات الممانعة، وهدفها الرئيس (تحرير القدس)؛ ليمضي تجاه إعادة إنتاج خطاب جديد (رخيص) للمقاومة، يثني فيه على موت الآخرين واستجابتهم للنضال، وينأى بنفسه عن تطبيق مقولاته، مكتفياً بالوعيد والتهديد، والتأكيد على ضرورة وقف إطلاق النار، والضغط السياسي عبر معبر رفع، عن طريق مشهدية عبثية، طالب فيها كبار المسؤولين والعلماء باصطحاب زوجاتهم وأولادهم، والاعتصام عند معبر رفح! من أجل ممارسة الضغط الرمزي على المجتمع الدولي.

مواضيع ذات صلة:

نصر الله.. المرابط لا المحارب

البيت الأبيض وإسرائيل تابعاه عن كثب... كيف علقت واشنطن على خطاب نصر الله؟

لماذا نفى نصر الله صلة إيران بـ"طوفان الأقصى"؟



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية