سلطوية أردوغان التركي ودرس ديغول الفرنسي!

سلطوية أردوغان التركي ودرس ديغول الفرنسي!


04/10/2020

عادل بن حمزة

توجد تركيا اليوم في قلب العديد من الأحداث والأزمات الإقليمية، من القوقاز إلى سوريا فشرق المتوسط وصولاً إلى ليبيا، إذ يحاول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان استعادة الخلافة العثمانية ويقدم تركيا كقوة إقليمية يصعب تجاوزها. في جانب من هذا الحضور نجد تركيا تدافع عن مصالحها الحيوية والاستراتيجية، لكن في الجانب الآخر يظهر أن أنقرة، كغيرها، تريد أن تستثمر في حالة الفوضى التي يعيشها النظام العالمي بعد تراجع الدور الأميركي، لكن هل تستطيع الدولة التركية فعلاً أن تتحمل الثمن السياسي، العسكري والاقتصادي لحضور كهذا على الساحة الدولية؟.

شكل أردوغان، منذ وصوله إلى السلطة، ظاهرة خاصة في تاريخ تركيا الحديثة، ونموذجاً لتيار الإسلام السياسي في المنطقة، إذ نجح في عبور حقول ألغام كثيرة في بنية النظام السياسي بثقله الأتاتوركي العلماني الصارم، وهذا ليس سوى جانب من الصورة في تركيا، فالبلاد، وفق عدد كبير من المراقبين، تسير بخطى ثابتة نحو نظام سلطوي مغلق، على الأقل منذ التعديلات الدستورية التي حسمها حزب "العدالة والتنمية" اعتماداً على غالبيته البرلمانية، من دون تقديم أي مبرر جدي ومنطقي لتحويل النظام السياسي من برلماني إلى رئاسي، غير تمكين أردوغان من السلطة الفعلية، ما دام وضعه ساعتها لم يكن يسمح له سوى بأدوار رمزية وأخرى بروتوكولية كرئيس للدولة، وهو ما يعني أن دولة بحجم تركيا تحول نظامها السياسي بالكامل، إرضاء فقط لزعيمها الوحيد والأوحد سلطان الزمان السيد أردوغان، بما يمكنه من الاستمرار في السلطة إلى حدود عام 2029.

ولا أحد يضمن ما يمكن أن يكون عليه الأمر بعد ذلك، فقبل سنوات ظهر أن أردوغان يعيش تضخماً كبيراً في "الأنا"، وبدأ يتحرر كثيراً من المحاذير التي طوق بها نفسه بخصوص خلفيته الإيدولوجية. وظهر ذلك جلياً في كثير من القوانين التي تؤطر المجال العام. كما أن تراكم النجاحات الانتخابية، أنسى أردوغان أن الديموقراطية ليست فقط حكم الأكثرية، بل هي أساساً الضمانات التي تتوافر للأقلية، والشيء نفسه يمكن أن يقال على مستوى حرية التعبير، وبخاصة حرية الصحافة، إذ بدأت تركيا تنحدر فعلياً في إتجاه السلطوية والاستبداد بشكل يعيد إنتاج تجربة بوتين في روسيا. وشكل "قرار" أردوغان تغيير طبيعة النظام السياسي في البلاد، من برلماني إلى رئاسي بعد استنفاده عدد الولايات المسموح له بها في رئاسة الحكومة، وتمكينه في المقابل من ولايتين جديدتين كرئيس للدولة بإختصاصات كاملة، دليلاً على أن الرجل بسط نفوذه الكلي والمطلق على حزب "العدالة والتنمية"،أولاً، وعلى مفاصيل كثيرة في هياكل الدولة.

أردوغان الذي بدأ إسلامياً يتحول اليوم مزيجاً يجمع الإسلام السياسي والقومية التركية، في استعادة للمزج الذي تم في إيران بين الثورة الإسلامية والقومية الفارسية، لذلك تجده لا يفلت النزاعات والمواجهات التي تثير المشاعر الدينية والقومية، ونموذج ذلك المواجهة الإعلامية المفتوحة التي عرفتها العلاقات التركية - الغربية على خلفية القرار القضائي/السياسي التركي تحويل متحف آيا صوفيا إلى مسجد، وهو فقط تعبير عن التوترات القادمة بين الدولة العثمانية الجديدة وبين من يعتبرون، من دون أن يصرحوا بذلك، أن الاتحاد الأوروبي هو في الواقع نادٍ مسيحي مغلق.

تتعزز هذه القناعة عندما نستحضر أن دول الاتحاد اعترضت على انضمام تركيا وذلك بعد أن فرضت شروطاً كثيرة عليها، بينما في المقابل، قبلت الدول نفسها بلدان المعسكر الشرقي سابقاً، باقتصادات ضعيفة جداً عكس الاقتصاد التركي، وكل من كان يدور في فلك الاتحاد السوفياتي السابق، علماً أن تركيا كانت مؤهلة أكثر من غيرها للإنضمام إلى الاتحاد. ويظهر واضحاً أن مسألة الهوية الدينية وتبعاتها الثقافية، كانا عاملين حاسمين في موضوع الانضمام الى الاتحاد، علماً أن تلك المفاوضات الطويلة جرت قبل وصول حزب "العدالة والتنمية" وزعيمه أردوغان الى السلطة، إذ لم يشفع لتركيا كونها حليفاً للغرب في حلف الناتو وواجهة كانت دائماً متأهبة في مواجهة المعسكر الشرقي بزعامة السوفيات.

قد نختلف أو نتفق مع القرار التركي بخصوص آيا صوفيا، لكن ردود الفعل التي صدرت من الغرب، كانت مبالغاً فيها بشكل كبير، بخاصة تلك التي صدرت عن الدول الأوروبية، فإذا كانت تلك الدول تحذر اليوم من النزعة الإسلاموية لأردوغان وحزبه، فإن الواقع يشهد أن سياسات إقصاء تركيا من الفضاء الأوروبي في العقود الماضية، عززت تلك النزعة ولم تترك للأتراك غير هويتهم الدينية والقومية، كخط دفاع أخير لصون كرامتهم التي تم إذلالها في أشواط من المفاوضات الطويلة مع الأوروبيين، فالرفض الأوروبي ساهم في تعزيز الهوية التركية ببعدها العثماني، إذ سعى الأتراك إلى إعادة اكتشاف بعد أساسي من هويتهم، تعسف عليه في لحظة من اللحظات الراحل مصطفى كمال أتاتورك، هذا البعد هو البعد الإسلامي الذي جعله اتاتورك، بعد إعلان نهاية نظام الخلافة الإسلامية، مجردَ بعدٍ من بين أبعاد أخرى محددة للهوية التركية، بل وبعداً هامشياً ليس إلا، ومثلت محاولات كسر هذا التمثل الثقافي والهوياتي، فرصة لصعود لافت لظاهرة أردوغان ومعه حزب "العدالة والتنمية"، الذي نجح في ما فشلت فيه الحركة الإسلامية في تركيا منذ منتصف سبعينات القرن الماضي، ألا وهو عدم الاصطدام مع المؤسسة العسكرية، وعدم المس بالهوية العلمانية للمجتمع والدولة، وعدم خلق بنية حزبية منغلقة إيدولوجياً والرهان الكلي على تحقيق النجاح الاقتصادي واستقطاب حلفاء جدد بخلفيات براغماتية وليست إيديولوجية محضة، فتحقق لأردوغان بهذه الوصفة السحرية، ما لم يتحقق لمن سبقوه من قادة الاسلام السياسي في تركيا، أما على المستوى الإقتصادي، فإنه حقق نجاحات غير مسبوقة ما ضاعف أعداد مناصريه ممن لا يتقاسمون معه بالضرورة خلفيته الإيديولوجية، لكن الربح يقودهم للتحالف معه...

المواجهة المفتوحة التي يخوضها اليوم أردوغان مع الغرب بصفة عامة على جبهات عدة، هي عملية محسوبة بعائدها الانتخابي، اذ يراهن أردوغان على الفوز فيها، وهي مواجهة مشحونة بالعواطف ومجيشة للمشاعر، وهو كل ما يطلبه أردوغان للفوز، لكن ليس الرئيس التركي هو فقط من يسعى للفوز بعائد هذه المواجهة، بل حتى أولئك الذين ينتقدونه، أفراداً وجماعات.

أردوغان يمثل أساساً نموذجاً للصعود اللافت للشعبوية على حساب الديموقراطية التمثيلية، فهذا الصعود إلى جانب تيارات شعبوية أخرى حول العالم، يمثل أحد وجوه الأزمة العميقة التي تعرفها الديموقراطية التمثيلية، ويبدو أن السنوات القادمة ستعرف تحولات جذرية في ما يخص مسألة السلطة وموقع الشعوب من شرعية ومشروعية المؤسسات التي تحدد مصيرهم، فاليقين المتزايد اليوم هو أن المواطنين يساهمون بصورة أقل في اختيار الماسكين بزمام السلطة وذلك بصفة متزايدة على مر السنوات التي تلت بصورة خاصة، نهاية الحرب الباردة.

القناعات التي تترسخ اليوم لدى طيف كبير من المهتمين وأيضاً لدى جمهور واسع من الفئات المختلفة في عدد من المجتمعات الغربية الديموقراطية وغيرها من البلدان التي تتهجأ طريق الديموقراطية، أن أصواتهم في الانتخابات لا تؤثر بصفة حاسمة في مخرجاتها، سواء تعلق الأمر بالسياسات العمومية المتبعة أم في عدالة ما يتحملونه من تكاليف لكي تستمر مؤسسات الدولة، ويبدو أن هناك قناعات متزايدة، بكون الدولة وجزء كبير من مؤسساتها واختياراتها، يعملان بمعزل عن مخرجات العمليات الانتخابية، بحيث تصبح الانتخابات فقط مظهراً خارجياً لديموقراطية افتراضية، بل تتحول الانتخابات مجرد تقنيات وآليات، من نجح في ضبطها، نجح في كسب نتائجها، وهو ما نجح فيه حزب "العدالة والتنمية" في تركيا...

لذلك ليس سراً أن اختصار الديموقراطية في الانتخابات الدورية، هو استعادة لما صنعته صناديق الاقتراع عندما قادت النازية للحكم عقب الأزمة المالية والاقتصادية العالمية الكبيرة لعام 1929، وقد يكون اليوم تصاعد النجاح الانتخابي لليمين المتطرف وللتيارات الشعبوية في عدد من الدول الغربية، هو الثمن السياسي الذي تدفعه اليوم نتيجة الهزات الإرتدادية للأزمة المالية والاقتصادية لعام 2008، كما أنه تجدر الإشارة إلى الأعمال المهمة التي قاربت "الربيع العربي" من زاوية الاقتصاد السياسي في علاقة بالأزمة المالية والاقتصادية العالمية ذاتها، ولربما سيكون لجائحة "كوفيد-19" الأثر نفسه في الانتخابات التي سيعرفها العالم بداية من الانتخابات الرئاسية الأميركية الشهر المقبل.

إن هذه الأزمة التي تعرفها الديموقراطية في صيغتها الليبرالية الغربية، ساهمت في ظهور ممارسات واختيارات في عدد من بلدان العالم ومنها تركيا، تمهد لظهور بديل من الديموقراطية الليبرالية. قد يبدو الأمر مبكراً للجزم بقابلية تحول ممارسات معزولة تياراً فكرياً وفلسفياً قد يصبح اختياراً واعياً لدى العديد من الأنظمة السياسية، لكن تصاعد أزمة الديموقراطية في الغرب وإنهيار أسسها الاجتماعية يساهمان في تسريع بلورة هذا البديل، والذي يُدعى اليوم بـ" النظامية" كاختيار يعطي الأولوية للاستقرار وللتنمية الاقتصادية وللعدالة ولتعزيز حضور القناعات والاختيارات الدينية، والشعور بالهوية الوطنية مع الحد من حرية التعبير، وبصفة خاصة حرية الإعلام، هذا التوجه تعتبر فيه روسيا بوتين، رائدة على المستوى العالمي، كما تشكل تركياً أردوغان نموذجاً صاعداً لها، علماً أن هذه التجارب تقوم على صناديق الاقتراع بصفة خاصة.

أردوغان قدم بالتأكيد أشياء كثيرة لتركيا منذ وصوله إلى السلطة، وإستطاع أن يحقق إستقراراً مثالياً لسنوات طويلة، لكنه في النهاية يبقى بشراً يصيب ويخطئ، وخطأه الأكبر أنه لا يقبل سماع الرأي المخالف، وعندما تكون هذه الصفة في مسؤول من حجمه، وعندما يقلب نظام الحكم لمصلحته حتى لا يبقى في الهامش أو يعود إلى بيته، فإن ذلك يكشف عن تعطش كبير للسلطة هي بطبيعتها قابلة للإنحراف عندما لا تجد من يقول في وجهها كلمة "لا".

شارل ديغول كان رجلاً عظيماً في تاريخ فرنسا، إذ لا يمكن أن تذكر فرنسا، من دون الحديث عن ديغول. لقد استطاع الرجل أن يتجاوز ربيع باريس عام 1968 بخبرته وتجربته الكبيرتين، وفاز بالانتخابات النيابية التي أعقبت ذلك الربيع، في وقت كان الجميع يعتقد أن الحزب الشيوعي الفرنسي سيستثمر تلك الأحداث لفائدته.

في عام 1969 دعا ديغول الشعب الفرنسي الى إستفتاء سعى من ورائه إلى إدخال تعديلات تهم عدداً من المجالات الحيوية، بل ربط إستمراره في رئاسة الجمهورية بنتيجة التصويت. الفرنسيون كانوا يقدرون ديغول بلا شك، لكن جزءاً كبيراً منهم لم ترقه تلك الإصلاحات، فجاءت نتيجة التصويت بـ "لا" بنسبة 52 في المئة، فما كان من الكبير ديغول سوى أن سارع لإعلان إستقالة في سطرين أمام ذهول الجميع: "أعلن توقفي عن ممارسة مهماتي رئيساً للجمهورية. يصبح هذا القرار نافذاً ظهر اليوم 29 نيسان (أبريل) 1969". بعدها بسنة فقط غادر ديغول الحياة للأبد تاركاً وصية هي الأخرى من سطرين، حيث طلب في الأول ألا يحضر جنازته رؤساء ولا وزراء، وطلب في الثاني ألا يكتب على قبره سوى "شارل ديغول 1890-1970".

مات ديغول رجلاً عظيماً، بينما آخرون لا يعرفون سبيلاً للنهايات الجميلة...

عن "صحيفة النهار اللبنانية"


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية