"سفّاح الجيزة": ضوء في عتمة الدراما

"سفّاح الجيزة": ضوء في عتمة الدراما

"سفّاح الجيزة": ضوء في عتمة الدراما


27/09/2023

تشهد الدراما العربيّة بين الفينة والأخرى انتقالات ترفع المعنويات بإمكانية انبثاق أعمال فنيّة تحترم الذائقة وتوقّر عقل المشاهد. ويستبطن ما سبق ما يشبه الإقرار بأنّ الدراما العربيّة (مسلسلات وأفلاماً) تضخّ أعمالاً دون المستوى الفنيّ المطلوب، وبعضها هابط المستوى يحاول أن يستثمر في "الجمهور عايز كده" وهي مقولة خدّاعة ومراوغة.

خلال شهور رمضان تبدأ الأعمال الفنيّة تتساقط على رأس المشاهد وعينه ووعيه. ومن بين أعمال عديدة جداً قد لا يعثر المرء إلا على مسلسلين أو ثلاثة تحظى بشروط الإبداع، أو قل الرضى الفنيّ والأدائيّ.

قد تكون المقدّمة السابقة من قبيل "نافل القول"، ولا جديداً يذكر فيها ولا قديماً يعاد. ولقد فكّر الكاتب أن يشطبها، لولا أنّ التذكير بالأعمال الهابطة يحفّز على الانتباه إلى الأعمال الجيّدة.  ومن بين هذه الأعمال الجيدة التي شاهدها كاتب هذه الحروف، في الآونة الأخيرة، مسلسل "سفّاح الجيزة" ومسلسل "الغريب" وكلاهما عرض على منصة "شاهد" وحظيا بمتابعة واسعة، رغم أنهما مختلفان في الفكرة والرؤية والمعالجة والأداء.

وإن كنا سنتناول الآن "سفاح الجيزة" فستكون لنا وقفة مع "الغريب" عندما تنتهي حلقاته الاثنتا عشرة نهاية الشهر الجاري.

لم يكن في مسلسل "سفّاح الجيزة" عنف بالمعنى التقليديّ. القاتل يطهو الطعام بلذاذة، ويساعد المحتاجين، ويذرف لسانُه عسلاً وطيبة

شدّتني في مسلسل "سفّاح الجيزة" براعة الأداء وحُسن السيطرة على الأفكار. الفنّان البارع قد يحمل مشروعاً كبيراً، فيغدو بفضله ذا قيمة إضافيّة. الممثّل المصريّ أحمد فهمي فعل الأمر ذاته، فقدّم أداء ساحراً لشخصيّة القاتل المتسلسل، فلم يغرق في الدراما ولا في الانفعال الخارجيّ الذي يُوحي بالقسوة والغلظة، بل كان رقيقاً وشاعريّاً، يقتل بصمت، ويمسح، برقّة، الدمَ المتناثر على وجهه حين يحزّ عنق ضحيّته من الوريد إلى الوريد!

تلك ليست نظرة شاعريّة إلى فعل متوحّش كالقتل، لكنّ المخرج هادي الباجوري قدّم لنا هذا الشرّ الفتّاك بحُلّة فنيّة قشيبة، لأنّ إخلاصه للفن أشدّ من ولائه للفكرة المجرّدة.

المسلسل ذو الثماني حلقات، تفوّق على الصورة النمطيّة العربيّة (والمصريّة تحديداً) التي تتناول الإجرام. لم يكن في المسلسل عنف بالمعنى التقليديّ. القاتل يطهو الطعام بلذاذة، ويساعد المحتاجين، ويذرف لسانُه عسلاً وطيبة. ويبدو أنّ رسم الشخصيّة احتاج من المؤلف محمد صلاح العزب أن يستعين بخبراء نفسيين، أو يقرأ في التخطيطات اللاواعية في النفس عن الإجرام، مع أنه ربط بين القاتل وترسّبات الطفولة، وتلك ليست حتميّة سيكولوجيّة بالضرورة!

اللازمة الغنائيّة التي رافقت مشاهد كثيرة في المسلسل "العدل فوق الجميع" للمطربة الشعبية الراحلة بدرية السيد، المشهورة باسم "بدارة" منحت المسلسل نوستالجيا متّصلة بـ"ملكة الموّال الاسكندرانيّ". وكان أداء الممثلة ركين سعد مدهشاً كالعادة، فقدّمت مع باسم سمرة، وحنان يوسف، وصلاح عبد الله، وسواهم مشهدية تستحق المتابعة.

رافق المسلسل ردّات فعل من الجمهور بعضها كان مثيراً للدهشة (والسخرية!) مثل احتجاجهم على ما اعتبروه أداءً مبالغاً فيه من لدن الفنّانة داليا شوقي لدى معرفتها بحقيقة زوجها القاتل. أنا أرى في المشهد براعة وعفويّة، وأنه ابن تلك اللحظة الصادمة التي تخرج عن سيطرة المنطق.

أما الاحتجاج الآخر للجمهور فكان على النهاية المفتوحة للأحداث. إنهم يتوقون إلى النهايات السعيدة؛ أي أن يُساق القاتل إلى المشنقة، وأن تتطهّر النفوس من الخطيئة، والتطهّر يكون بالموت. لكنّ خيارات المخرج كانت غير ذلك، وهو محقّ فيما فعل، لأنه يقدّم فنّاً وليس خطاباً لتأبين الشرّ وإحقاق العدالة.

في "سفّاح الجيزة" الكثير من التشويق والإثارة التي جاءت في سياقات مقنعة لم تسرف في التراجيديا ولا في الكوميديا، فكان غالبيّة الممثلات والممثلين يتصرّفون بتلقائيّة وكأنهم ليسوا أمام كاميرا. كما أنّ المَشاهد الخارجيّة، بعيداً عن رطوبة "الأستوديو" منحت المسلسل حرارة فاقت أحياناً حدود التوقّع.

وما يجعل كتاباً نخبويّين يتابعون، بحماسة، مثل هذه المسلسلات ويدفعون مالاً للاشتراك في المنصات التي تبثها، فلأنّ التوق إلى انبثاق دراما عربيّة ناضجة لا تحدّه ضفاف، فلدينا الكتاب المَهَرة، والمخرجون المبدعون، والممثلات والممثلون البارعون، والإمكانيات التي تضاهي مثيلاتها في العالم، وترغب في المنافسة.

إذاً ما الذي يبقى كي تكتمل محاسن الأعمال؟

يبقى شجاعة رأس المال والجهات المنتجة، ووجود رغبة عميقة (لدى المؤسسات السياسيّة التي تملك الفضاء وتتحكّم فيه) في أن تغامر وتتبنّى المشاريع الخلّاقة، وترفع سيف الرقابة عن عنقها، كي تتنفّس حرية وإبهاراً.. وفي مرحلة لاحقة قد تغيّر وترتقي بالذائقة والوعي والحس الفنيّ والأخلاقيّ، وهذا جزء أساسي في مكوّنات "القوّة الناعمة"، يا رعاك الله!




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية