سفراء القرآن في شهر رمضان

سفراء القرآن في شهر رمضان

سفراء القرآن في شهر رمضان


21/03/2023

مصطفى الفقي

كان صوته يأتيني كل عام وقبل حلول شهر رمضان بأسابيع قليلة، كان ينتظر الرأي في تلبية دعوة للدولة الإيرانية لكي يكون قارئ القرآن في شهر رمضان للشعب الفارسي المسلم. وكنت أقول له يا مولانا إنك تعرف الطريق وهو إخطار الأجهزة المعنية، وسوف تحصل على الموافقة كما كان يحدث في كل الأعوام الماضية.   

  وبالفعل كان صوته يأتيني راضياً مطمئناً بعد عودته متحدثاً عن الحفاوة التي لقيها والتكريم الذي أحاط به، إنه قارئ القرآن الراحل أبو العينين شعيشع الذي غادر دنيانا منذ أعوام قليلة، ولقد رحل عن عالمنا وهو على مشارف التسعين من العمر، ولعل الكثيرين لا يعرفون أنه قد جرى الاستعانة بصوته المفعم بالشجن لترميم بعض الأسطوانات المسجلة لقيثارة السماء الشيخ محمد رفعت والذي كان يتلو كلام الله بمنزل زكريا مهران باشا في صعيد مصر، ذلك لأن صوت أبو العينين شعيشع كان هو أقرب الأصوات إلى الشيخ رفعت - رحمه الله - وتعود صلتي بالشيخ أبو العينين شعيشع إلى سنوات بعيدة عندما كان يضع الطربوش على رأسه دون العمامة ويمتلك مساحة من الأرض الزراعية في أطراف محافظة البحيرة، ولقد تعرف إليه أبي - رحمه الله - الذي كان مفتوناً بصوته الشهير، وورثت عنه نفس العلاقة الوثيقة بذلك الشيخ الرائع صاحب الصوت المميز لدى الإيرانيين وغيرهم.

   وإذا كنت قد ورثت عن أبي حب الاستماع إلى القرآن الكريم، فإنني فتنت منذ سنوات عمري الباكرة بصوت الشيخ مصطفى إسماعيل وأسلوبه في القراءة وطريقته الفريدة في الوقوف عند نهاية الآيات وأحياناً في منتصفها وهو يصول ويجول بين كلمات الله على نحو غير مسبوق، وأعترف بأنني تعلقت بالشيخ عبد الباسط عبد الصمد أيضاً ولياقة صوته الممتد أحياناً بالتلاوة على نحو يدعو إلى الترقب والخشوع في وقت واحد، كما تأثرت بطابور طويل من ملوك التلاوة بدءاً من الشيخ الحصري مروراً بالشيخ منصور الشامي الدمنهوري وصولاً إلى كوكبة أخرى من أعلام التلاوة، أذكر منهم الشيخ عبد العظيم زاهر والشيخ عبد الرحمن الدروي والشيخ طه الفشني. 

وعندما بزغ لنا قارئ قادم من ميت عقبة بإمكانات صوتية هائلة هو الشيخ الطبلاوي كنت وقتها في لندن أدرس الدكتوراه وأعمل في السفارة المصرية والتقيت بصديقي الكبير الأستاذ محمود السعدني كالمعتاد كل مساء للاستمتاع بحديثه وثقافته وعمق رؤيته وقلت له إن لدي شريطاً جديداً وصل من القاهرة لمقرئ رائع اسمه الشيخ الطبلاوي، وجلسنا في سيارتي نستمع إلى ذلك الشريط وانبهر به الأستاذ السعدني - رحمه الله - وقال لي إن هذا القارئ على ما يبدو ظل يقرأ منذ سنوات طوال، لكنه حظي بالشهرة في سن متقدمة نسبياً.

  ونحن؛ إذ نستقبل الشهر المعظم الذي يسمى بشهر القرآن نتطلع إلى الدنيا حولنا وإلى مملكة التلاوة المصرية المعروفة إسلامياً وعربياً لكي أدعو إلى ضرورة أن تظل تلك الشعلة مضيئة ولا تخفت أبداً، وعندما كنت سفيراً في العاصمة النمساوية في فيينا لاحظت أن العاملين في السفارة ومكاتبها يضيعون يوم الجمعة تقريباً بدعوى أداء الصلاة، فاخترت حجرة واسعة في المبني الجديد وهيأتها على شكل مسجد صغير وكان أحد الزملاء يقوم بتلاوة القرآن بينما يقوم الآخر بتقديم الخطبة، ومن الدعابات التي لا أنساها أبداً أنه تصادف في أحد أيام الجمعة وصول مبعوث من الأزهر الشريف للحصول على وثيقة شخصية، وقد طلب منه الزملاء في السفارة أن يكون خطيب تلك الجمعة وإمامها من المسجد الصغير في السفارة.  

   أريد لمدرسة التلاوة المصرية ألاّ تخبو أو تتراجع فهي واحدة من القوى الناعمة لبلادنا، وأتذكر أن الرئيس الراحل أنور السادات، قد اصطحب معه في زيارته الشهيرة للقدس المقرئ المصري الكبير الشيخ مصطفى إسماعيل الذي قرأ القرآن في صلاة الجمعة بالمسجد الأقصى وهو أمر أصبح علامة تاريخية في تلك البقعة المقدسة، وما زال الجيل القديم يتذكر قراء القرآن في العصر الملكي وهم يحيون سهرات الشهر الكريم بالتلاوة في ميدان عابدين بحضور الملك فاروق وبعض كبار المسؤولين.

عاشت مملكة التلاوة المصرية أحد مظاهر القوى الناعمة المصرية وأقطابها الذين كتبوا أسماءهم بأحرف من نور في سجل قراء القرآن الحكيم.

عن "الخليج" الإماراتية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية