استجواب الرئيس الإيراني حسن روحاني أمام البرلمان الإيراني، وتصويت أغلبية النواب لصالح عدم الاقتناع بمعظم إجاباته، ليس سابقة تاريخية فريدة في إيران الثورة فحسب؛ بل يبدو الأمر مؤشراً قوياً على مغادرة إيران بشكل رسمي ونهائي زمن الابتسامات العريضة والمصافحات الحارة. المطلوب اليوم في طهران رئيس ثوري من شاكلة أحمدي نجاد. مراكز القوة الرئيسة في البلاد حسمت قرارها بعدم التحدث إلى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وهناك مواجهات سياسية قاسية في الأفق، إلى جانب حرب اقتصادية وإعلامية كبرى؛ وبالتالي فالنظام عملياً يخيّر الرئيس حسن روحاني بين خيارين؛ إما أن يتقمص دور الرئيس الثوري المناضل، أو يغادر القصر الجمهوري.
اقتنع نواب البرلمان الإيراني بإجابة الرئيس روحاني عن سؤال واحد فقط من أصل خمسة طُرحت في الاستجواب
اقتنع نواب البرلمان الإيراني بإجابة الرئيس حسن روحاني عن سؤال واحد فقط من أصل خمسة أسئلة تم طرحها في الاستجواب المقدم من قبل نواب البرلمان، بينما صوت أغلب أعضاء البرلمان لصالح عدم الاقتناع بإجابة الرئيس عن الأسئلة الأربع الأخرى. تفهّم النواب أسباب استمرار العقوبات البنكية على إيران على الرغم من توقيع الاتفاق النووي في العام 2015، لكنهم رفضوا تبريرات حول أسباب عدم السيطرة على التهريب، وتفاقم مشكلة البطالة، وإخفاق محاولات الحكومة لتحريك الركود الاقتصادي الذي تعاني منه البلاد، لكنّ أكثر الانتقادات حدّة للرئيس روحاني تركزت حول انهيار أسعار العملة الإيرانية المتكرر، وعجز الحكومة التام عن مواجهته.
في حسابات خريطة توزيع القوة الداخلية، خسر الرئيس روحاني الكثير في هذه المواجهة؛ الاستجواب كان الأسوأ لرئيس إيراني أمام البرلمان منذ قيام الثورة. كان محض حدوث الاستجواب في حد ذاته ضربة قوية، حاول فريق روحاني تفادي الضربة بكل الوسائل المتاحة، لكن نواب التيار الأصولي والتيار المحافظ وحتى بعض النواب الإصلاحيين أصروا على موقفهم. مصادر في البرلمان الإيراني ذكرت أنّ مستشاري روحاني اقترحوا على كتلة نيابية متشددة اختيار مرشحهم لوزارة الاقتصاد خلفاً للوزير المُقال مسعود كرباسيان، الذي أطاح به البرلمان أيضاً قبل يومين مقابل تخلي هذه الكتلة عن مشروع استجواب الرئيس. لكن التيار الأصولي رفض التخلي عن فكرة الاستجواب، بينما أكد برلمانيون بأنّ الضغوط ستتواصل لإقالة باقي أعضاء فريق روحاني الاقتصادي بالكامل. إذا صحت مثل هذه الأنباء فهذا يعني أن روحاني سيواجه أياماً صعبة، كما لم يواجهها رئيس إيراني منذ إطاحة حكومة الرئيس "أبو الحسن بني صدر" في بدايات الثورة.
اقرأ أيضاً: هل فقد الإيرانيون الثقة بمستقبل بلادهم؟ روحاني يجيب
وفق دستور النظام الإيراني، هناك فرق كبير بين استجواب الرئيس، واستجواب الحكومة. وخلافاً لكثير من الدساتير والأعراف البرلمانية في العالم، فإنّ عدم اقتناع البرلمان بالإجابات المقدمة من رئيس الجمهورية، لا يعني نهاية الطريق بالنسبة للحكومة. ولا يعني أيضاً إعلان عدم كفاءة الرئيس، والذي يعدُّ مشروعاً منفصلاً بحسب الدستور الإيراني، وهو يحتاج إلى تأييد ثلثي النواب. أما ما يعرف باستجواب الحكومة فيجري وفق الدستور الإيراني في حالات محددة، وهو أيضاً مختلف عن مسألة سحب الثقة البرلمانية من الحكومة. فاستجواب الرئيس الذي شهده البرلمان مؤخراً يتطلب أن يتقدم به أكثر من ربع النواب فقط، ويتم استدعاء الرئيس للرد عليه كما حصل، وإذا لم يقتنع أغلب النواب بردود الرئيس، فإن الموضوع يحال إلى الجهاز القضائي على أنه نقض للدستور الإيراني، أو نقض للقوانين الأساسية في البلاد، وهو ما حدث اليوم في سابقة لم تشهدها الساحة الإيرانية منذ زمن بعيد.
الرئيس حسن روحاني بين خيارين؛ إما أن يتقمص دور الرئيس الثوري المناضل، أو يغادر القصر الجمهوري
وعلى الرغم من أنّ الموضوع لا يعني نهاية الحكومة، لكنه في الحدّ الأدنى يشكل استعراضاً قوياً لمنتقديها، بل هو أشبه بمناورة بالذخيرة الحية، وتمرين من أجل اتخاذ خطوات لاحقة أكثر أهمية. وقد أشاع الاستجواب اعتقاداً واسعاً في طهران بأن حكومة الرئيس روحاني أصبحت في طريقها إلى فقدان الأغلبية داخل البرلمان، والمرجح أنّها ستفقد أكثر إن لم تتجاوب مع النواب الذين أخذوا يشقون طريقهم بعيداً عنها، كلٌّ لأسبابه الخاصة. واللافت أنّ الحكومة فقدت بعض مؤيديها الإصلاحيين، والذين كانوا يعتبرون أقوى مؤيديها في البرلمان. كما فقدت الحكومة علاقاتها الجيدة مع رئيس البرلمان علي لاريجاني، الذي يقود أحد أخطر وأقوى الشبكات السياسية-الاقتصادية في طهران، والمقرب من قائد الثورة علي خامنئي.
النواب الآن يطالبون بتعديل وزاري يضم عدداً من الحقائب الرئيسة في حكومة الرئيس روحاني. ويبدو أن الفريق الاقتصادي في الحكومة هو الأكثر عرضة للهجوم والانتقاد. لكنّ الحقيقة تكمن في مكان آخر. هناك طرف مُقرر في اللعبة الداخلية الإيرانية يرى أنّ الحكومة والتيار المعتدل الذي تمثله فقدا الكثير من تأثيرهم وقوتهم بعد خروج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، ووصول محاولات الانفتاح الاقتصادي على العالم إلى طريق مسدود. وبالتالي فالمطلوب إعادة توزيع الحقائب الوزارية وفق خريطة القوة الجديدة. لقد مارس قادة "الحرس الثوري" الكثير من ضبط النفس طوال السنوات الخمس الماضية، وهم يراقبون محاولات الفريق الاقتصادي الحكومي لسحب البساط من تحت شركات الحرس الكبرى عبر الانفتاح على شركات منافسة غربية وعالمية. ويبدو أن رياحاً مواتيةً لتصفية الحسابات قد هبّت بالفعل. نائب الرئيس اسحق جهانغيري، والمساعد الاقتصادي للرئيس، محمد نهاونديان، ومدير مكتب الرئيس، محمود واعظي على رأس قائمة المطلوبين. وهناك استجوابات معدة مسبقاً تنتظر وزيري الصناعة والطرق. وسوف يتعين على روحاني الاختيار بين الاستجابة للحقائق الجديدة أو مواصلة الصراع وفق المعادلات والتصورات المتقادمة، وبالتالي فقدان مزيد من المقاعد في البرلمان، والمخاطرة بمستقبل الحكومة برمتها.
أكثر الانتقادات حدّة للرئيس روحاني تركزت حول انهيار أسعار العملة الإيرانية المتكرر، وعجز الحكومة التام عن مواجهته
على الأرجح سوف تتواصل الضغوط البرلمانية على الحكومة عبر عدة جبهات؛ منها عرقلة مشاريع الحكومة، وقوانينها المقترحة، وطرح مقترحات متعددة للتحقيق في ملفات فساد، أو مراجعة أعمال ومشاريع مختلف الوزارات، أو متابعة مسيرة إقالة الوزراء حتى يستسلم روحاني.
وقد كشف الاستجواب الأخير عن خلاف عميق، يبدو أنه ظل يتفاقم سرّاً، بين الرئيس روحاني، ورئيس البرلمان علي لاريجاني. ولطالما حاول لاريجاني، سابقاً، إدارة البرلمان بشكل يساعد الرئيس، لكنّ الأوضاع الآن تغيرت لسببٍ ما؛ إذ اتهمه فريق روحاني بأنه ساعد في الضغط على الحكومة، وأغلب الظن أنه في حال استمرار هذا الصراع فإنّ الرئيس روحاني سيتجه إلى التضحية بوزير الداخلية المقرب من لاريجاني، والذي ينتقده النواب أيضاً، وقدموا مشروعاً لاستجوابه. كما أظهر الاستجواب حجم الانشقاقات الكبيرة في صفوف الكتلة الإصلاحية؛ فقد أعلن عدد من النواب البارزين في هذه الكتلة انسحابهم منها، بعد أن عارضت الكتلة استجوابات الوزراء والرئيس. وكان على رأس المعترضين نائب رئيس "حزب الثقة الوطنية" (حزب اعتماد ملي) الذي أسسه الزعيم المحتجز تحت الإقامة الجبرية مهدي كروبي، ومدير أهم صحيفة إصلاحية، النائب إلياس حضرتي.
وقد عكست أجواء الاستجواب أيضاً صعود نجم النائب المتشدد، مجتبى ذو القدر، المنافس التقليدي لرئيس البرلمان علي لاريجاني في مدينة قم، وزعيم كتلة التيار الأصولي في البرلمان؛ إذْ استطاع إدارة أهم ملف برلماني ضد الحكومة بنجاح، وهو ما يمكن أن يكون له تأثير قوي في اللعبة البرلمانية المستقبلية.
اقرأ أيضاً: لهذا السبب تحولت جنازة إلى مظاهرة ضدّ النظام الإيراني
ويتمثل أخطر انعكاسات الاستجواب الأخير، في تحول مسألة انتقاد الحكومة ومهاجمتها إلى إستراتيجية مهمة للنجاح في الانتخابات البرلمانية القادمة لدى طيف واسع من المرشحين. ويبدو أنّ هذه الإستراتيجية ستكون فعالة بحيث قد يلتزم بها كثيرون، بما في ذلك مرشحون عن التيار الإصلاحي، ونواب إصلاحيون حاليون في البرلمان خلال سلوكهم السياسي في العام المقبل، أملاً في الحصول على ثقة الشارع. وهذا سيترك أثراً مهماً على منطق اللعبة البرلمانية في طهران خلال العام المقبل كله.