تأسّست جمعية الإخوان المسلمين عام 1928، ومضى بها المؤسس، حسن البنّا، في طريق زعم أنّه رسمه بدقة ومن زمن بعيد، وأنّه حدّد كلّ الخطوات بمرحلية شديدة، وأنّه لن يحيد عن هذا الهدف، ولا تلك الحدود مقدار أنملة، ثمّ تعرضت الجماعة إلى لحظة توقّفت عن المدّ الفكري والتنظيمي بالمجتمع المصري والعالم العربي، وذلك بعد مقتل حسن البنّا عام 1949، وبعد فترة امتدّت لعامين، استقرت الأوضاع في الجمعية، وما لبث المجتمع المصري قليلاً حتى قامت ثورة 1952، التي يزعم الإخوان أنّهم شاركوا فيها من اللحظة الأولى، وأنّ ثمة خيانة تمت من ابن تنظيمهم، وعضو الجماعة (جمال عبد الناصر) تجاه الإخوان، ما أدّى إلى الزج بهم في السجون، وظلت العلاقة متوترة بين الإخوان والنظام الحاكم، قرابة العقدين، ما أدّى إلى توقف نشاط الإخوان كثيراً، وانزوت شعبيتهم وتكسرت عزيمتهم، إلّا أنّ موت عبد الناصر المفاجئ، حمل لهم الأمل، ومع تولي الرئيس أنور السادات سدة الحكم، أتيح لهم العمل مرة أخرى، ومكّن لبعضهم حرية الحركة، إضافة إلى السماح لبعضهم الآخر بالوصول إلى مناصب قيادية في الدولة، وأطلق على هذه العودة لقب التأسيس الثاني للجماعة، ومن المهم جداً أن تنال لحظة التأسيس الثانية اهتمام كثير من الباحثين، فالحركة الإسلامية لم تتأثر كثيراً بأبناء التأسيس الأول، فهؤلاء انتهت بهم الأحداث إلى نهايات مختلفة، بعيداً عن التيار الفكري للحركة الإسلامية، ومن أصبح منهم له دور، كان وفق معطيات التأسيس الثاني؛ وليس وفق مكانته في التأسيس الأول، وكل من تقدم الصفوف الأمامية للإخوان المسلمين، كما أنّ كثيراً من الأفكار التي راجت هي بنت التأسيس الثاني؛ بل لعلي لا أبالغ إن ادعيت أنّ ما نعاني منه مما نتعرض له هو نتاج أفكار التأسيس الثاني، ولا يفهم من كلامي أنّ التأسيس الثاني جاء منفصلاً تماماً عن الأول، أو أنه كان مختلفاً بالكلية عن الجماعة التي صنعها حسن البنا، على أي حال ظهر التأسيس الثاني للإخوان في مطلع السبعينيات، وكان بطل هذه المرحلة، بلا منازع، الأستاذ عمر التلمساني، مرشد الجماعة الثالث، ولم يكن لهذا التأسيس أن يظهر لولا الحصول على ضوء أخضر من أجهزة الدولة، أدرك التلمساني أنّ عليه إقامة أربعة ركائز، ليعيد الجماعة، مرّة أخرى، إلى ساحة المجتمع المصري، الركيزة الأولى: خطاب جماهيري شعبي عاطفي، يعبّر عن الحلم الإسلامي، ويمكن أن يؤسس لمشروع إسلامي يبشّر به الإخوان. الركيزة الثانية: شخصية محورية يلتف حولها أبناء التنظيم والحركة الإسلامية ككل. والركيزة الثالثة: وعاء تنظيمي ومرتّب يضمن تمويلاً جيداً ذا طبيعة رسمية، ويكون رافعةً وعاملاً لدفع الحركة الدعوية في الوقت نفسه. الركيزة الرابعة: أفراد يملؤون الأماكن الشاغرة للإخوان (الأعضاء التنظيميين) الذين تركوا الجماعة في العشرين عاماً الماضية، أو أماكن الذين فرّوا إلى خارج البلاد، ولم يكن عمل الجماعة على التوالي؛ بل كان على التوازي، فعملوا على المحاور الأربعة في توقيت واحد، ولم يكن الأمر لينجح إلّا بمساندة ومساعدة من أجهزة الدولة المصرية، وبعض الدوائر القريبة من أنظمة الحكم في دول الخليج، خاصة السعودية، التي سمحت بإنشاء الندوة العالمية للشباب المسلم، وكثير من المراكز الإسلامية، وأنفقت عليها بسخاء. ويمكننا أن نتناول بالعرض تفكيك ركائز التأسيس الثاني لمحاولة فهم الحالة، وتوقع مآلاتها، أمّا الركيزة الأولى: فهي أطروحات الحل الإسلامي، فقدّم الإخوان خطاباً إسلامياً، مضمونه أنّ كلّ ما نعانيه سببه البعد عن الإسلام، وأنّ الحلّ هو العودة للإسلام، ولم ينجحوا في تعريف الحياة الإسلامية التي يقصدونها، لم يفلحوا في إيجاد وابتكار آليات يمكن أن تعيد هذه الحياة الإسلامية المفقودة، فانطلق الشيوخ والوعاظ على المنابر ينقضون الحياة الاجتماعية المعاصرة، بداية بالفنّ والفنانين، وبأسلوب حياة المصريين وملابسهم، مروراً بكرة القدم، وانتهاء برفضهم للحياة السياسية. على اعتبار الحاكم لا يطبق الشريعة الإسلامية، وانتشرت أشرطة خطب الشيخ عبد الحميد كشك، التي كانت تساهم في تجريف الحياة العقلية، وتدفع نحو الإيمان بأنّ هناك حياة إسلامية مفقودة، وهذا المفقود، لو عاد، ستتحقق كلّ أحلام وآمال البسطاء، فكانت كلماته دافعاً لهرب كثير من الشباب من واقعهم، إلى وهم الحياة الإسلامية مع الجماعات السرية.
ظهر التأسيس الثاني للإخوان في مطلع السبعينيات وكان بطل هذه المرحلة عمر التلمساني مرشد الجماعة الثالث
هذا الخطاب الجماهيري لم يكن باعثاً على الاستنارة، أو الدفع نحو حياة عقلية راشدة، كانت خطبه تمجّد في الماضي، فصرف الشباب عن النظر إلى المستقبل، وللأسف الشديد، قلّده كثير من الخطباء، فكانوا يتنافسون على جذب الأعداد الغفيرة من مريديهم إلى مساجدهم، فراج هذا النوع من الخطاب المخدر العاطفي، ووجد الكثير من مريديه، وأصبح الخطباء، وهم على المنبر، تسكرهم آهات المصلين وتكبيراتهم أثناء الخطبة، وانتشى الخطباء لكثرة المصلين وراءهم، فانتشر أسلوب الخطابة المنفعل، وانزوى أسلوب الخطابة الهادئ، وانشغل دعاة التيار الإسلامي بثلاثة محاور، الأول: تبرئة الإخوان من جرائمهم، وإثبات مظلوميتهم. ثانياً: نقد الغرب. ثالثاً: الدعوة للجهاد. أما تبرئة الإخوان، فقد قام عمر التلمساني بكتابة ثلاثة كتب يدين فيها العهد الناصري مثل كتاب "قال الناس ولم أقل عن عبد الناصر"، وكتاب "ذكريات لا مذكرات"، وأشهر كتبهم: "البوابة السوداء" لأحمد رائف"، و"حصاد العمر" للواء صلاح شادي، و"عندما غربت الشمس" لعبد الحليم خفاجة، و"الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ" لمحمود عبد الحليم، و"مذابح الإخوان في سجون ناصر"، كلّ هذه الكتب تهدف إلى تبرئة الإخوان، وإعطائهم صكّ المظلومية، ليسهل عليهم بعدها التواجد في المجتمع، والقيام بمهمتهم فيه. أمّا المحور الثاني، وهو المعني بنقد الغرب، فكان من زاوية عدائية بحتة، فاعتبروه امتداداً للاعتداء الصليبي علينا في القرون الوسطى، كتاب "قادة الغرب يقولون دمروا الإسلام أبيدوا أهله" لجلال العالم"، وكتاب "المؤامرة على الإسلام" لأنور الجندي، وكتاب "الضربات التي وجهت للانقضاض على الأمة الإسلامية"، لأنور الجندي أيضاً، وتأثّر بهذه الحملة الدكتور مصطفى محمود، فألف كتاب "المؤامرة الكبرى"، وبعد أن أصبح الغرب عدواً من منظور ديني، لا محالة، بذلوا جهوداً مضنية لإثبات فشل الغرب، وكذب مظاهر الحضارة التي يعيشون فيها، وأخذوا يبشرون الناس بأنّ هذه الحضارة ليست حضارة، وأنّها ستسقط لا محالة، وأنّ البديل هو المشروع الإسلامي، دون العمل على امتلاك أيّة أداة من أدوات الحضارة، وروّجوا في أوساط المجتمعات العربية والإسلامية.
نجح الخطاب الجماهيري العاطفي في مهمته وهي تجميع طيف إسلامي كبير
إنّ العالم يتعطش للحل الإسلامي، فكتبوا تحت عنوان "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين"، لأبي الحسن الندوي؛ إذ يحاول، في رؤية بائسة، أن يثبت أنّ العالم هو من خسر بانحطاط المسلمين، لا المسلمين أنفسهم، أما المحور الثالث؛ فهو الدعوة للجهاد، وتحديداً الجهاد في أفغانستان، تم الترويج له على أنّه صراع بين الكفر والإيمان، واستخدم الخطباء الصورة الذهنية للصراع بين المسلمين الأوائل وبين الكفار من قريش، وتم تعبئة الجماهير، وشحن مشاعر الشباب المتطلع إلى حياة إسلامية، وإلى الجهاد، والهجرة إلى أرض الجهاد، وتم نشر أكذوبة كبرى عن المجاهدين في أفغانستان، وأنّ الله نصرهم بآيات ومعجزات، في كتاب لعبد الله عزام، أحد المبشِّرين بالجهاد الأفغاني، وهو أحد قادة الإخوان المسلمين الفلسطينيين، يوزّع كتابه "آيات الرحمن في جهاد الأفغان" في كلّ جامعات مصر. ونظّم أعضاء الجماعات الإسلامية، في كثير من الكليات، أسبوعاً ثقافياً عن أفغانستان، يصور معاناة المجاهدين، وقد لاقى هذا التوجه رضى الدول العربية والإسلامية، التي كانت تساند أيّ عمل ضد حكومة أفغانستان، الموالية للاتحاد السوفيتي.
نجح الخطاب الجماهيري العاطفي في مهمته، وهي تجميع طيف إسلامي كبير، ومع نشر الفرضيات الأربع: غياب الإسلام فهماً وسلوكاً ومظهراً، ضرورة العمل لإعادة هذا الإسلام الغائب، المؤامرة الكونية على الإسلام تستوجب جهاد كلّ من مكانه، مظلومية أبناء التيار الإسلامي. ومن هذا الطيف، يقوم أعضاء التيار الإسلامي (بمكوناته الثلاثة) بتجنيد من يناسبهم، ويؤمن بأفكارهم، وكان نصيب الأسد للإخوان المسلمين، ثم السلفيين، وبعد ذلك الجهاديين.