رغم التطبيع العربي مع سوريا: تقارب وهمي بين أنقرة ودمشق

رغم التطبيع العربي مع سوريا: تقارب وهمي بين أنقرة ودمشق

رغم التطبيع العربي مع سوريا: تقارب وهمي بين أنقرة ودمشق


كاتب ومترجم جزائري
22/05/2023

قطعت تركيا، التي تلعب دوراً رئيسياً في الصراع السوري، العلاقات الدبلوماسية مع دمشق في تشرين الأول (أكتوبر) 2011. ومنذ ذلك التاريخ حافظ البلدان على أسوأ العلاقات، إلا أنّ أنقرة بدأت مؤخراً تختبر إمكانية التطبيع، لكن العقبات كثيرة، على الرغم من أنّ جامعة الدول العربية قد قامت للتو بإعادة دمج البلاد بعد أحد عشر عاماً.

في كانون الأول (ديسمبر) 2022 عُقد اجتماع رسمي في موسكو بين وزيرَي الدفاع التركي والسوري. وفي آب (أغسطس) 2022 اعترف وزير الخارجية التركي مولود كافوش أوغلو بوجود بعض التبادلات مع نظيره السوري. في الوقت نفسه قال الرئيس رجب طيب أردوغان إنّه من المهم عدم قطع الحوار تماماً في العلاقات بين الدول، وأنه من غير اللائق أبداً في السياسة ألا نتحدّث مع بعضنا البعض. على نطاق أوسع شرعت أنقرة في مرحلة إصلاح علاقاتها مع عدد من الدول، مثل مصر والإمارات العربية المتحدة وأرمينيا وحتى إسرائيل. لذلك سيكون من المنطق إدراج سوريا في القائمة، خاصة وأنّ الدولتين مجلّلتان بحداد الزلزال المأساوي في 7 شباط (فبراير) 2023 - وهو قرار يمكن أن تسهّله عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية. ومع ذلك يمكننا التساؤل عمّا إذا كانت علامات التطبيع التركي السوري المحتمل جزءاً من تأثير إعلانٍ ذي بُعدٍ انتخابي في سياق حملة غير مؤكدة أم هي خطوة دبلوماسية أولى.

أوهام "الربيع السوري" الضائعة

شهدت العلاقات بين تركيا وسوريا بعد صراعات الماضي منعطفاً إيجابياً في وقت مبكر من عام 1998 عندما استسلم نظام دمشق للتهديدات والمساومات التركية وطرد حزب العمال الكردستاني (PKK) وزعيمه عبد الله أوجلان من أراضيه. بعد ذلك انفتحت حقبة جديدة مع مجيء خلافة بشار لوالده حافظ الأسد في10  تموز (يوليو) 2000، ثم وصول أردوغان إلى السلطة في عام 2003. ومنذ ذلك الحين تحسّنت العلاقات الثنائية وبدا أنّ البلدين يشتركان في مصالح مشتركة إلى حدّ النظر في إنشاء منطقة تجارة حرّة تُعرف باسم "شامغن"« Shamgen »  - الشام هو الاسم الذي أطلقه الفاتحون العرب في العصور الوسطى على سوريا الكبرى، أي ما يعادل دول سوريا الحالية، لبنان والأردن وإسرائيل وفلسطين، بالإضافة إلى جزء من جنوب شرق تركيا الحالية – تلميحاً لنموذج معاهدة شنغن الأوروبية لحرية الحركة والتبادل.

باستثناء روسيا لا توجد قوة أجنبية أخرى تؤيد حقاً المصالحة بين دمشق وأنقرة

ثم انفجر الربيع العربي. في عام 2011، وعندما وصلت الثورة إلى دمشق فكرت أنقرة في إقناع بشار الأسد بإجراء إصلاحات تهدئة اجتماعية وسياسية. وقد تبخّرت هذه السذاجة تحت نار العنف الدموي للنظام. ومن خيبات الأمل إلى ألوان الإذلال انضم أردوغان إلى معسكر الجامعة العربية والغربيين، مع اختلاف أنّ دعمه للمعارضة السورية كان كاملًا: سياسياً وعسكرياً ولوجستياً، على أمل قدوم حكومة تُشرّعها صناديق الاقتراع، حكومة أكثر شمولاً وتمثيلاً للمجتمع السوري متعدّد الأعراق والطوائف. لكنّ الدعم التركي ظل غير كاف، وكانت المساعدات الغربية جد ضعيفة إن لم تكن جبانة، خاصة في وجه حلفاء سوريا الروس والإيرانيين، وكذلك حزب الله اللبناني، الذين سحقوا التمرد بالدم. وهكذا غرقت الثورة في ساحة من الخراب وتحوّل الصراع إلى حرب أهلية ومذهبية، وإلى ساحة مواجهة بين عدة قوى إقليمية ودولية ذات أهداف لا يمكن التوفيق بينها بأي حال.

عادت سوريا ثانية كما كانت دائماً بالنسبة لتركيا: كابوس غير مستقر في الجنوب ومعقل للمسلحين الأكراد تحت سيطرة حزب العمال الكردستاني

وعادت سوريا ثانية كما كانت دائماً بالنسبة لتركيا: كابوس غير مستقر في الجنوب ومعقل للمسلحين الأكراد تحت سيطرة حزب العمال الكردستاني. يضاف إلى ذلك تدفق ما يقرب من أربعة ملايين لاجئ سوري، ما لبثت إقامتهم التي كان يُنظر إليها في البداية على أنها إنسانية ومؤقتة، أن أصبحت جزءاً من منفى دائم سرعان ما بدأ يُخلط الأوراق الديموغرافية والاجتماعية. وباسم الدفاع عن أمنِها نفّذت أنقرة أربعة تدخلات عسكرية واسعة النطاق في سوريا، حيث احتلت بمساعدة عُملائها شريطاً من الأراضي العابرة للحدود. وهكذا، بين عدد السوريين الذين يعيشون في تركيا والذين يعيشون في المناطق التي يحتلها جيشها أصبح ما يقرب من ثلث إجمالي سكان سوريا يخضعون لسيطرة أنقرة.

احتواء الأكراد

والرئيس التركي الذي كان مهندس تحسين العلاقات الثنائية والذي خاطب بشار الأسد بقوله "أخي" أحاط علماً رسمياً في تشرين الأول (أكتوبر) 2011 بالقطيعة. وبعد مرور اثني عشر عاماً لاحظ أنّ الأخير ظل في السلطة. للخروج من المأزق يبدو أنّ أردوغان مضطر لتغيير سياسته. عاد أولئك الذين دعموا المعارضة السورية بالأمس إلى مواقف أكثر قدرية وواقعية: السعودية في المقام الأول، وكذلك الإمارات العربية المتحدة عملت على إعادة دمج سوريا في جامعة الدول العربية، والتي دخلت حيز التنفيذ في 6 أيار(مايو) 2023. أما الغرب، المهووس بالتهديد الإرهابي لداعش فقد ساير الرئيس السوري حتى من دون الحديث عن إعادة تأهيله، وهو موضوع لا يزال الأوروبيون منقسمِين بشأنه.

تطورت أهداف أردوغان ومصالحه الوطنية منذ تدخله العسكري الأول في عام 2016. لم يعد الأمر يتعلق بإسقاط الأسد، لأنّ حاجة أنقرة الملحة منذ الآن فصاعداً هي احتواء صعود العامل الكردي في سوريا والمكان الذي يحتله حزب العمال الكردستاني وحلفاؤه المحليون. لكن هناك ما يحفّز أردوغان؛ فلأول مرّة منذ عشرين عاماً يستشعر خطراً في استطلاعات الرأي حول الانتخابات الرئاسية والتشريعية 2023. الصعوبات الاقتصادية تتراكم وما انفكت تغذي الاستياء الشعبي. وقد عزّز خلل خدمات الطوارئ في أعقاب الزلزال، السخطَ الشعبي، مما يشجع الرئيسَ التركي على مواصلة سياسته في الحدّ من التوترات مع الجيران، بما في ذلك مع سوريا.

عبء اللاجئين

إنّ مسألة الهجرة هذه، أي الاندماج الشائك أو عودة ما يقرب من خمسة ملايين لاجئ في البلاد، بما في ذلك حوالي أربعة ملايين سوري هي التي تفرض نفسَها اليوم كحَكَمٍ في الاقتراع المقبل. تركيا هي الدولة التي تستضيف حالياً أكبر عدد من اللاجئين في العالم، ولهذا الكمّ الهائل من المصائب الإنسانية وزنٌ اقتصادي وسياسي وديموغرافي وثقافي، وهو ما يحشد ويقوّي بشدّة ِمعارضة نظام أردوغان. ففيما يخص السوريين تحديداً فمن لاجئين مؤقتين لأسباب إنسانية أصبحوا بمساعدة الأزمة الاقتصادية كبشَ فداء للانتقام الشعبي. وقد تمّ تشويه سمعتهم بإطلاق صفة "رعايا صغار" لأردوغان، فهم يتلقون عقاباً مزدوجاً، وهم أيضاً هدفٌ للنقد الموجّه لسياسة أنقرة الاستبدادية.

العقبة على طريق دمشق تتعلق باللاجئين السوريين. أياً كان الشكل الذي ستتخذه هذه العقبة كيف يمكن أن تكون مقبولة من قبل 4 ملايين لاجئ؟

أصبحت عودة اللاجئين إلى سوريا، قسريّةً كانت أم طوعاً، هي الفكرة الاستراتيجية المركزية للعديد من أحزاب المعارضة. فهذه الأحزاب بدرجات متفاوتة تنفخ على جمر خلفيةٍ شعبوية وقومية متطرفة مناهضة للاجئين، كما هو الحال مع أوميت أوزداغ، زعيم حزب يميني يدعو إلى عودة السوريين الفورية إلى بلدهم. فهذا الأخير مستمر في نشر الأكاذيب الصريحة حول الجرائم التي يرتكبها اللاجئون، أو حول تكلفتها الاقتصادية على المجتمع. لذلك فإنّ الإيحاء بتطبيع محتمَل للعلاقات الثنائية تكتيكٌ انتخابي لسحب البساط من تحت أقدام المعارضة التي لم توافق معظم أحزابها إطلاقاً على القطيعة مع بشار.

تركيا تنجرّ إلى الصراع

في الأشهر الأولى من الاحتجاج الشعبي السوري بين آذار (مارس) وتموز (يوليو) 2011 قاومت تركيا الضغوط الدولية وتمسكت بمبادئ عدم التدخل الموروثة عن مصطفى كمال أتاتورك، المعارِضة أصلاً لأي تدخل في شؤون دول الجوار، خاصة في شؤون الدول العربية. وبسبب الواقع على الأرض فإنّ تفاقم الصراع والتداعيات الاقتصادية الضارة، وتضاعف الهجمات على أراضيها، وتدفّق اللاجئين إليها هو ما دفع أنقرة للانخراط والتورط بشكل مباشر. وتكاد تكون آخر من يفعل ذلك بعد جهات فاعلة حكومية وغير حكومية أخرى على الرغم من أنّ أمنها لم يتأثر: روسيا وإيران وحزب الله وحزب العمال الكردستاني. حتى الغربيين رغم أنهم بعيدون عن المسرح السوري إلا أنّهم تأثروا بالهجمات التي امتدت إلى ديارهم، تدخّلوا في سوريا لهزيمة داعش التي تستمد قوّتها جزئياً من الفوضى السورية.

أصبحت عودة اللاجئين إلى سوريا، قسريّةً كانت أم طوعاً، هي الفكرة الاستراتيجية المركزية للعديد من أحزاب المعارضة

لم تشن تركيا أوّل غزو لها للأراضي السورية باسم الدفاع عن أمنها إلا في آب (أغسطس) 2016، كما فعلت سابقاً في العراق. حتى الآن لا تزال الحدود التركية السورية غير هادئة في نظر أنقرة، وما زال الوضع يحظر أي انسحاب من الشريط الحدودي المحتل. انطلاقاً من سوريا يستخدم الكيان الكردي الذي يسيطر عليه حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) القريب من حزب العمال الكردستاني هذه المنطقة كقاعدة احتياطية. ولم يتم بعدُ وقفُ خطر تدفّق اللاجئين الجدد. ويثير استمرار مثل هذا السياق أسئلة: هل ستضع المصالحة حدّاً لهذه التهديدات؟ الجواب بلا شك لا. إنّ المصالحة المشروطة بانسحاب قوات الاحتلال التركي مصلحة وهميّة، لأنها لن توفر أي ضمانات أمنيّة.

فيما يتصل بـ "القضية الكردية" سيطرت دمشق منذ عام 1998 حتى عام 2011 على منطقتها الكردية، من دون أن تستغلها ضد تركيا كما فعلت بين عامي 1984 و 1998 ، وقد أدى دعم أردوغان للمعارضة السورية إلى إحياء التعاون بين حزب العمال الكردستاني والنظام. ومن قبيل الرد على ذلك تخلى بشار الأسد طوعاً عن مناطق معيّنة على طول الحدود للسماح بعودة حزب العمال الكردستاني الذي فرض هيمنته على جميع الأحزاب والحركات الكردية. في المقابل منع حزبُ العمال الكردستاني مشاركة أحزاب ومثقفين أكراد في التمرّد على الرئيس السوري.

تحالف مع الولايات المتحدة

أتاح عَقدٌ من الحكم شبه الذاتي في هذه المنطقة على رأس كيان كردي بقيادة حزب الاتحاد الديمقراطي لِحزب العمال الكردستاني من تعزيز مواقعه وسلطته. كما أنه استفاد، فضلاً عن ذلك، من الدعم المتكرر من الغرب لوقف أي عودة لداعش. بالفعل خدمت الفوضى السورية كقاعدةٍ خلفية ومع تسليح حزب العمال الكردستاني ضد داعش حزبَ العمال الكردستاني. هل بدعوة من فلاديمير بوتين سيتصالح أردوغان مع بشار الأسد؟ لكن يبقى السؤال المركزي: هل هذه المصالحة ستتيح إمكانية تقليص التهديد الذي يشكله، بحسب أنقرة، حزبُ العمال الكردستاني؟ الأمر أقل احتمالا ممّا نتصور. أوّلاً ليس من الواضح ما إذا كان الرئيس السوري قادراً، إذا كان يملك الإرادة فعلاً على إنهاء هذا الكيان الكردي. خاصة وأنّ شبه الحكم الذاتي الكردي هذا يتمتع بحماية جهات حكومية أخرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة. هذا التحالف بين حزب العمال الكردستاني والولايات المتحدة ثمينٌ للغاية بالنسبة للولايات المتحدة.

العقبة الثانية على طريق دمشق تتعلق باللاجئين السوريين. أياً كان الشكل الذي ستتخذه هذه العقبة كيف يمكن أن تكون مقبولة من قبل 4 ملايين لاجئ؟ حتى لو كان الأمر على أساس طوعي فإنّ القليل منهم يرغب في العودة إلى سوريا، خاصة وأنّ التطبيع مشروط بانسحاب القوات التركية، فإنّ المناطق المحتلة سيحتلها النظام السوري وستلقي بمواكب جديدة من التعساء على الطرقات. لن يكون أمام هؤلاء خيار سوى تركيا لتجنب الوقوع تحت نير نظام الأسد.

أخيراً، باستثناء روسيا بوتين التي تضغط باستمرار على موكلها السوري وشريكها التركي، فإنه لا توجد قوة أجنبية أخرى تؤيد حقاً المصالحة بين دمشق وأنقرة. من الواضح أنّ العقبة الأكبر هي معارضة الولايات المتحدة القوية لهذا التطبيع، لأنّ التطبيع بالنسبة لواشنطن أشدّ خطراً من التهدئة. يستند تحليل الولايات المتحدة على التداعيات السلبية على حلفائها الأكراد. علاوة على ذلك فإنّ أي مصالحة تحت رعاية روسية من شأنها أن تقلل من احتمالات بقاء القوات المسلحة الأمريكية في سوريا. ومع ذلك، فمن دون المساعدة الأمريكية لن يتمكن الكيان الكردي وحده من التعامل مع هجوم تركي أو سوري محتمل، أو من كليهما، على افتراض أنّ بشار وأردوغان يوحّدان جهودهما. إلى جانب ذلك سيكون من المحرج من الناحية الأخلاقية السماح لحليف في حلف شمال الأطلسي بالتصالح مع عدوّ ومنبوذ دولياً، خاضع لعقوبات، وتأمل حهات عديدة من أن تتم محاكمته في النهاية على جرائم ضد الإنسانية. أخيراً فإنّ السماح بإجراء هذه المصالحة تحت رعاية بوتين سيكون بمثابة منحِه انتصاراً دبلوماسياً مؤكداً.

تحدٍّ للمعارضة

والمفارقة أنه إذا وصلت المعارضة إلى السلطة فستواجه تحدّيات إضافية. هل يمكن أن تقبل بانسحاب القوات التركية من سوريا، في الوقت الذي يرى فيه جزء كبير من مكوّناتها، مثل أردوغان نفسه أنّ أكراد حزب العمال الكردستاني في سوريا يشكلون تهديداً وجودياً؟ وإذا أتاحت المعارضة للأسد إمكانية معاشرته مرّة أخرى، فيما يطالب جزء من المجتمع الدولي بمحاكمته أمام المحكمة الجنائية الدولية ألا يقوِّض ذلك خطابَها حول الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان؟ أخيراً هل يمكنها تسريع رحيل اللاجئين السوريين (على الرغم من أنّ هؤلاء يمثلون مورداً ثميناً من العمالة الرخيصة لأرباب العمل) دون مناقضة خطابها حول سيادة القانون؟

أيّاً كانت نتيجة الانتخابات المقبلة، فإنّ هامشّ مناورة النخب التركية السياسية حول سوريا ضعيف ويبدو غير متكافئ مع الضجيج الذي تُحدثه هذه النخب حول هذا الموضوع في الحملة الانتخابية. إنّ الهياج السياسي مرتبط بحسابات انتخابية قصيرة المدى وليس بسياسة رزينة ومتروية للدفاع عن مصالح تركيا طويلة الأجل في المنطقة.

مصدر الترجمة عن الفرنسية:

https://orientxxi.info/magazine/illusoire-rapprochement-entre-ankara-et-damas,6420




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية