
في الدقائق الأخيرة من فيلم "ليه يا بنفسج" يدخل بطلا الفيلم، عباس "نجاح الموجي"، وسيد "أشرف عبد الباقي"، إلى غرفة شديدة التهالك، سيئة الأساس، وهما يجرجران أذيال الخيبة، وقد ظهر عليهما الفقر المدقع. وهناك على جدران الغرفة نرى بروازين للزعيم الراحل جمال عبد الناصر، وللفنان الراحل عبد الحليم حافظ. مشهد لا يستمر سوى دقيقة تقريبًا، لكنّه يحمل بين طياته فلسفة المخرج "رضوان الكاشف" التي عمد إلى تقديمها في أفلامه الثلاثة التي تركها للسينما المصرية، وهي الفلسفة نفسها التي ركزت عليها سينما الواقعية الجديدة في مصر، وروادها خيري بشارة، ومحمد خان، وعاطف الطيب، وداود عبد السيد، في تصوير التغييرات الاجتماعية والسياسية التي حدثت للشخصية المصرية في النصف الثاني من القرن العشرين، متأثرة بثورة تموز (يوليو) 1952، ثم نكسة 1967، ثم حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973، ثم عصر الانفتاح وصعود التيار الديني إلى الواجهة.
رسائل عديدة، لم يكن المخرج الراحل في حاجة إلى إظهارها بشكل مباشر، كل ما هنالك أنّه قدّم مجموعة من الأصدقاء يعيشون في حارة شديدة الفقر، يحمل كلٌّ منهم حكايته الخاصة، وقد آلمتهم الحياة بعد رحيل العمّة، تلك التي كانت تمثل لهم الظل والأمان لسنوات، ربما كانت العمّة رمزًا لنظام حاكم قد رحل، أو ثورة قد تلاشت، أو انتفاضة خبز لم تحقق أهدافها، لا يهم، المهم أنّها ماتت، وبرحيلها تعرّى الأصدقاء الثلاثة، واكتشفوا حقيقة ضعفهم، وفقرهم الشديد، الذي أعجزهم حتى عن توفير نفقات إقامة صوان عزاء للعمّة الراحلة، واضطر الصديقان عباس وسيد إلى النصب والتحايل حتى يقيما عزاء العمّة بأقلّ التكاليف!
الأصدقاء الثلاثة ورمزية سقوط وطن
بداية شديدة المأساوية قدّمها رضوان الكاشف بصورة هزلية، لم تخلُ من حس كوميدي، للأصدقاء الثلاثة، أحمد وعباس وسيد، ثم تبدأ الحكايات في التفرع، بين أحمد الذي يحلم بالخروج من الحارة الفقيرة، منتظرًا صديقه علي بوبي، الذي اتخذ طريق الإجرام وسيلة للصعود السريع في زمن الانفتاح، وبين عباس الذي يعيش حياته هكذا دون حساب، يستغل قوته، وذكاءه أحيانًا، في النصب على جيرانه وأهل حارته، حتى يجد ما يسد به رمقه، وسيد، الذي طُرد من عمله في أحد المعامل البحثية، بعد اكتشاف سرقته للحيوانات التي تُجرى عليها تجارب معملية وبيعها لفقراء الحارة كطعام، متجاهلًا خطورة ذلك، بل يصرخ في وجه الطبيبة المسؤولة عن معمل الأبحاث مشيرًا إلى أنّ جيرانه في الحارة يأكلون كل شيء، وأيّ شيء، ولا يصابون بأيّ مرض.
سينما الواقعية الجديدة في مصر حطمت التابوهات، وتجاوزت كليشيهات الصناعة.
تمثل أفلام رضوان الكاشف الجيل الثاني من سينما الواقعية الجديدة، إلى جوار أفلام المخرج الراحل أسامة فوزي، وهما امتداد لجيل الرواد، الذي مهد الطريق لسينما الواقعية الجديدة في مصر.
حتى بداية الثمانينيات كانت السينما في القاهرة، بشكل ما، منبتّة الصلة عن تصوير الواقع المصري، بغضّ النظر عن أعمال المخرج صلاح أبو سيف في الخمسينيات، الذي يُعدّ رائد الواقعية المصرية، ومن أفلامه: "شباب امرأة"، و"بين السما والأرض"، و"بداية ونهاية"، و"القاهرة 30"، أيضًا قدّم المخرج كمال الشيخ أفلام: "حياة أو موت"، و"اللص والكلاب"، و"غروب وشروق"، إلى جانب فيلم "باب الحديد"، للمخرج يوسف شاهين. بيْد أنّ جيلًا من الشباب قدّم أفلامه في الثمانينيات من القرن الماضي، تمكّن من رصد الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في مصر بصورة أسّست لموجة جديدة في السينما، أطلق عليها الناقد الراحل سمير فريد سينما الواقعية الجديدة، على غرار سينما الواقعية الجديدة في إيطاليا التي ظهرت نتيجة لحياة الفقر والبطالة التي خيمت عليها بعد انتهاء الحرب، وتميزت هذه المدرسة بالتصوير الخارجي في الشوارع والميادين والأسواق، والابتعاد قدر المستطاع عن التصوير داخل الاستديوهات، التي قد تُفقد العمل الفني مصداقيّته، فكانت في البداية أفلام الواقعية الجديدة أشبه بالأفلام التسجيلية.
تحطيم التابوهات على أعتاب الواقعية الجديدة
سينما الواقعية الجديدة في مصر حطمت التابوهات، وتجاوزت كليشيهات الصناعة، ورصدت الواقع في مصر بصدق شديد، حتى أصبحت كتاب تاريخ يصور الحياة في مصر، في العقود الخمسة التي أعقبت ثورة تموز (يوليو) 1952.
ورغم تعدد مخرجيها، وتقديم أفلامها بصورة منفصلة عن بعضها بعضًا، غير أنّ مشاهدتها بصورة جماعية ربما يشير إلى اتصال ضمني، كأنّها متتالية سينمائية، ترصد المشهد الاجتماعي المصري خلال نصف قرن.
"في غرفة متهالكة، وبروازين لناصر وعبد الحليم، اختصر الكاشف الحلم المجهَض لجيلٍ آمن بثورة، فخذلته التحولات الكبرى."
مثلًا فيلم "الصعاليك"، للمخرج داود عبد السيد، وهو أول أعماله الروائية، الذي يرصد حكاية صعود صلاح (نور الشريف)، ومرسي (محمود عبد العزيز)، اللذين يصعدان السلّم الاجتماعي من أدنى درجاته، مجرد صعلوكَيْن يعيشان على هامش الحياة، يرضيان بتهريب صندوق سجائر مستوردة من الميناء، أو بأكلة كباب يهربان قبل دفع ثمنها، ويرافقهما الفيلم في انغماسهما داخل تجربة الانفتاح حتى يصلا إلى أعلى السلّم الاجتماعي والسياسي، هذان الصديقان يشبهان جدًّا أحمد "فاروق الفيشاوي"، وعلي بوبي "شوقي شامخ"، وهما اللذان اختارا الانغماس في الأعمال الإجرامية، وغسيل الأموال، حتى انتقلا من حارة شديدة الفقر إلى عالم المال، والسلطة، غير أنّ فيلم "ليه يا بنفسج"، قدّم حياة الصعاليك والفقر المدقع الذي يعيشان فيه، قبل أن يقررا في الربع الأخير من الفيلم اختيار طريق الإجرام، أمّا فيلم الصعاليك فقد قدمهما بعد أن أصبحا من صفوة المجتمع.
تستمر سينما الواقعية الجديدة في محاولة كشف سرّ تلك التحولات التي أصابت الشخصية المصرية من خلال الأفلام التي قدّمها محمد خان. يتحدّث خان في أفلامه بشكل واضح عن أزمة الأعوام الستة، عقب نكسة حزيران (يونيو) 1967، ليخرج ذلك الجيل من فترة الخدمة في الجيش بعد حرب 73 ليصطدم بالواقع الجديد الذي انغمست فيه الشخصية المصرية، نرى ذلك في فيلم "الرغبة"، للسيناريست بشير الديك، وفيلم "الثأر" من بطولة محمود ياسين.
"فيلم 'الصعاليك' و'ليه يا بنفسج' يشتركان في السؤال نفسه: هل كان الفقر بداية السقوط، أم أنّ السقوط بدأ حين صعدنا فجأة؟"
يأخذ عاطف الطيب الخيط من سابقيه، ليقدّم لحظة سينمائية فارقة، في فيلمه "سواق الأتوبيس" للفنان نور الشريف، المجتمع هنا هو عالم نهاية السبعينيات، وفترة ما بعد انتصار تشرين الأول (أكتوبر) ومعاهدة السلام، وهي الحقبة التي تزامنت فيها صدمة شباب عاشوا الحلم القومي، وحاربوا من أجله، ليكتشفوا أنّ انتصارهم كان أوّل مسمار في نعشها، مع حراك اجتماعي واقتصادي سريع وغريب، غيّر كلّ المفاهيم والقوانين الحاكمة للعلاقات بين البشر.
يتّجه عاطف الطيب إلى تفصيل عيوب المجتمع في فيلمَيه اللاحقين "التخشيبة"، و"ملف في الآداب"، بعد إجمالها في فيلم "سواق الأتوبيس"، ثم تتوالى أعمال الطيب الكاشفة لحقيقة المجتمع الجديد الذي نعيشه، في أفلام "الحب فوق هضبة الهرم"، و"البريء"، و"الهروب"، و"ضد الحكومة".
سنوات التكوين في قسم الفلسفة
يحمل رضوان الكاشف تاريخًا طويلًا من التجارب والتكوين قبل أن يقرر التصدر لمسألة الإخراج، فقد حصل على ليسانس الآداب قسم الفلسفة من جامعة القاهرة عام 1978، وبعدها التحق بمعهد السينما الذي تخرج فيه عام 1984 بفيلمه القصير (الجنوبية)، الذي حصل به على جائزة العمل الأول من وزارة الثقافة في عام 1988، عمل الكاشف مساعد مخرج فيما يقرب من (20) فيلمًا مع يوسف شاهين ورأفت الميهي وداود عبد السيد، وآخرين: مثل علاء محجوب، ووحيد مخيمر، قبل أن يخوض تجربة الإخراج مستقلًا.
يأخذ عاطف الطيب الخيط من سابقيه، ليقدّم لحظة سينمائية فارقة في فيلمه "سواق الأتوبيس"
قدّم الكاشف كتابين في الفلسفة، واعتُقل وهو طالب في الجامعة، متهَمًا في انتفاضة الخبز، وكان المتهم رقم (60) في القضية، واعتُقل المرة الثانية في اعتقالات 1981، وهو طالب يدرس السينما، ومن بين ثنايا تلك الحياة الثرية أخرج لنا فيلمه الأول، أحد أهم الأفلام في تاريخ السينما المصرية، "ليه يا بنفسج".
رحل الكاشف وهو في العقد السادس من العمر، بأزمة قلبية، أثناء تحضيره لفيلمه الرابع، ذلك الفيلم الذي لم يخرج إلى النور مع الأسف، رحل عنا في عام 2002، ربما لأنّ قلبه لم يتحمل موجة سينما الشباب التي اكتسحت كل شيء؛ شباك التذاكر، وقاعات السينما، وعقول المصريين، وحوّلتها من عقول تقدّم لها الشاشة أفلام رضوان الكاشف وأسامة فوزي، ومحمد خان، وخيري بشارة، وعاطف الطيب، إلى عقول تبحث عن الأعلى مشاهدة على منصات التواصل الاجتماعي.