"رسالة الإيمان".. كتاب أسّس إجرائياً للإرهاب وقتَل مؤلفَه

"رسالة الإيمان".. كتاب أسّس إجرائياً للإرهاب وقتَل مؤلفَه

"رسالة الإيمان".. كتاب أسّس إجرائياً للإرهاب وقتَل مؤلفَه


08/11/2022

عمار علي حسن

لا يمكن لمن يتتبع النصوصَ التي تنتجها التنظيماتُ المتطرفة، والخطابات التي تتداولها، وتصدرها للناس، ألا يلاحظ الأثر القوي والعميق الذي تركه كتاب «رسالة الإيمان» الذي ألفه عام 1974 صالح عبد الله سرية، الفلسطيني الذي جاء للدراسة بالقاهرة، إذ تماهت أفكاره في كل ما أتى بعده من أدبيات “السلفية الجهادية”، رغم أن الكتاب لم يأتِ مفصلًا، ولم يُكتب له أن يصبح متداولًا بين أتباعها، كما جرى مع كتاب «معالم في الطريق» لسيد قطب و«الفريضة الغائبة» لمحمد عبد السلام فرج.
وتعود أهميةُ هذا الكتاب عند المتطرفين إلى عدَّة أسباب، أولها أنه تأليف مبكر جدًّا على درب حركات العنف المستندة إلى تصور أو قراءة أو تأويل للإسلام، فهو هو إن كان قد جاء بعد «معالم في الطريق»، وتأثر به من دون شك، فإنه لم يأخذ مسارًا نخبويًّا في البداية مثله، وبدا أشبه بإطارٍ عام لتنظيم محدد سمي باسم “الفنية العسكرية”، هو إن كان قد أُجهز عليه مبكرًا، كتنظيم، بعد انكشافِ أمر أفراده، والقبض عليهم، فإن الفكرة نفسها التي حواها الكتاب سرعان ما تلقفها “تنظيم الجهاد” المصري، ومنه تناقلتها الأقلام والألسنة، فتبنتها تنظيماتٌ إرهابية أخرى، ولا يزال يُعاد إنتاجها في أدبياتها إلى الآن.
والسبب الثاني هو أن صاحب الكتاب لم يكتفِ بما كتبه، إنما سعَى إلى تطبيق ما فيه بنفسه، عبر تنظيم خططٍ لاغتيال الرئيس المصري الراحل أنور السادات أثناء زيارته لمبنى الفنية العسكرية في 18 إبريل من عام 1974، لكن المحاولة باءت بالفشل، ودفع مخططوها ومن سعوا لتنفيذها الثمن.
وعند الحركيين، مهما بلغت درجة تطرفهم أو عنفهم وإرهابهم، تكون هذه الأثمان مقدرة، وتُعمِّد أفكار أصحابها، مقارنة بأفكارٍ أخرى ألفها أصحابها، وألزموا بها غيرهم، أو تخففوا منها فيما بعد، أو تنصلوا منها بالكلية، مثلما حدث مع “ميثاق العمل الإسلامي” الذي تراجعت “الجماعة الإسلامية” عن أغلب أفكاره بعد مبادرة وقف العنف التي أُطلقت عام 1997 وانتهت بتأليفهم ثمانية كتيبات، دحضوا فيها ما تبنوه على مدار سبعة عشر عامًا تقريبًا، ومثلما حدث مع كتاب «الجامع في طلب العلم الشريف» لسيد إمام، فقيه تنظيم الجهاد، الذي قدَّم مراجعة له.
والسبب الثالث أن الكتاب، الذي لم تزدْ عدد صفحاته على ستين صفحة، لم تُعدْ طباعتُه على غرار كتاب «معالم في الطريق»، فراحت الأيدي تتناقله سرًّا، فحمل ما لأي وثيقة سرية من سحر، وما لها من قدرة على صناعة تفسيرات وتأويلات متعددة على ضفافها، تعطيها قدرًا من البقاء، كرؤية شفاهية، يصعب حصارها.
فالكتاب لم يُطبع ويوزع على نطاقٍ واحد إلا عام 1977، على أيدي طلابٍ بكلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة، وقت تحالف نظام السادات مع التيار الديني المتطرف لمواجهة اليسار. لكنه سرعان ما اختفى، لا سيما بعد صدام هذا التيار مع السلطة في أواخر عهد السادات، وحتى اغتياله في 6 أكتوبر 1981.
أما السبب الرابع فهو أن سرية، رغم ما حواه كتابه من أفكارٍ مغلقة وجامدة ومحرضة على العنف ومنحرفة عن الرؤية السوية للإسلام كدين، فإنه حمل فكرة نبهت إليها حتى المختلفين مع مسار سرية وأفكاره، وجعلت التعاطي معها، من الذين يؤمنون بهذا المسار، وتلك الأفكار، مفتوحًا على إنتاج تصورات جديدة في ركاب الفكرة المركزية التي حواها الكتاب. فسرية، وعلى النقيض من تصورات السلفيات الجهادية، رأى أن الإسلام لم يحدد نظام حكم جامدًا، سواء في تعيين مهام الحكومة، أو ترتيب العلاقة بين السلطات السياسية، أو اختيار رئيس الدولة، إنما ترك هذا مفتوحًا ليُصاغ وفق تغير الظروف عبر الأزمنة والأمكنة، ومن ثم اعتبر أن أي نظام حكم يطبِّق ما ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية هو نظام إسلامي، حتى لو لم يكن يصف نفسه بهذا، فالعبرة ليست في المسميات إنما في الإجراءات والتطبيقات والقواعد المرعية، من هنا تصبح عنده “دار الإسلام” هي التي يُحكم فيها بالشريعة، وتكون الكلمة العليا فيها لله، حتى لو كان كل سكانها ممن ينعتهم بالكفر.
وهو، وإن كان قد فرغ الفكرة من مضمونها، فيما بعد، فإنه، من أجل هذا، وعملًا على إيجاد ما يسميها “دولة إسلامية” أباح المشاركة في الانتخابات البرلمانية، ودخول المجالس النيابية، دون المساهمة في وضع ما وصفها بالقوانين الوضعية. وأفتى بجواز العمل في الإدارات الحكومية حتى في الدول التي يراها “كافرة”، على أن يقوم هؤلاء العاملون أو الموظفون بالتخفي، والتغلغل في مسارات السلطة السياسية، حتى وإن تقلدوا المناصب الوزارية تحت سلطان حاكم يراه هو جائرًا أو كافرًا، على أن يكرسوا جهدهم في سبيل خدمة “دولة الاسلام”، توطئة للوصول إلى الحكم فيما بعد، أو على الأقل، تخفيف الأعباء عن متبني هذه الفكرة، وذلك المسار.
والسبب الخامس أن الكتاب لم ينشغل بمفاصلة على أساس الاعتقاد، ورأى أن دراسة حالات الكفر ذات أولوية عن دراسة العقيدة، وبذا لم يفتح بابًا للصراع العقدي بين فرق أو جماعات تسعى إلى تحصيل السلطة السياسية باسم الإسلام، بل إنه رأى أنه لم يعد هناك وجود لهذه الفرق، مثلما كان في القرون البعيدة، وأن التشخيص الأوفى لديه هو أن العالم الإسلامي برمته يشهد حالة ردة جماعية عن الإسلام. وهذا التصور بقي مستعارًا لدى كل جماعة أو تنظيم أتى فيما بعد، وتبنى فكرة التقريب بين الجماعات العاملة تحت راية “الإسلام السياسي”.
فسرية يبدأ كتابه قائلًا: “أبادر إلى القول بإنني لا أميل لاستخدام مصطلح العقيدة وأفضل عليه مصطلح الإيمان”، وأعطاه هذا الاختيار فرصة ليبتعد عن السجالات والمداولات والتأويلات المرتبطة بقضية التوحيد، وعلم الكلام وأصول الدين، وبذا أخذت رؤيته طابعًا عمليًا مباشرًا، ذاهبة مباشرة إلى حديث عن إيمان بالله واليوم الآخر والقضاء والقدر، وتشخيص لما وصفه بـ”الكفر المعاصر”، الذي معه رفض موالاة من رآهم “الكفار”، وعدم طاعة ما رآها “أنظمة حكم كافرة”، إلا إذا أكره عضو التنظيم على هذا.
والسبب السادس أن كتاب سرية هو أول من تحدث بوضوح أكثر عن “إقامة دولة إسلامية”، بينما كانت الكتب التي سبقته تكرس جهدها أكثر لإظهار المجتمع بأنه “جاهلي”، وترى أن التقدم لا يكون إلا بالعودة إلى ما كان موجودًا، “فكرًا وممارسة” في صدر الإسلام، وتبناه من وصفهم سيد قطب بـ “الجيل الرباني”.
ورغم ما أباحه سرية من تقيةٍ وتحايل ومداراة ومواراة، فإنه رأى أن “دولة الإسلام” كما يتصورها، لا تقوم إلا بحمل السلاح، وأن نظم الحكم الموجودة في بلاد المسلمين كافرة، حتى وإن كانت تؤدي بعض ما اعتبرها مظاهر للإسلام؛ مثل تدريس التربية الدينية في المدارس، وإطلاق البرامج الدينية في الإذاعة والتلفزيون، وبناء المساجد، والسماح بالعمل الخيري؛ لأنها في نظره تطبق تشريعات غير إسلامية، وتنصب نفسها إلهًا من دون الله، وتطبق طقوسًا كفرية مثل تحية العلم، والسلام الجمهوري، وتحية قبر الجندي المجهول… الخ.
والسبب السابع هو نزوعُ الكتاب الزائد إلى التسييس، ما يجعله يصب مباشرة في الهدف الذي تسعى هذه التنظيمات إلى تحقيقه. والكاتب يكفِّر كل من يشترك في حزبٍ غير إسلامي، شيوعيًا كان أو اشتراكيًا أو قوميًا أو بعثيًا أو غير ذلك، ولا يعذر من يسلك هذا المسلك، حتى بالجهل، إن صح هذا.
ويعتبر المذاهب السياسية؛ مثل الاشتراكية والقومية والديموقراطية والوطنية كفرًا صريحًا. كما يوجه هجومه مباشرة إلى مؤسسات الدولة، فهو يضع في زمرة الكافرين كلًّا من الضباط، والقضاة، ومشرعي القوانين، وأعضاء البرلمانات، والوزراء، والمستشارين، وأعضاء النيابة، ورجال المباحث، والمخبرين، ورجال الإعلام، وكل من يصوت في الانتخابات لغير مرشحي الجماعة الإسلامية، وكل من ينادي بفصل الدين عن السياسة، بل يضم إلى هؤلاء عموم الناس الراضين بالقوانين الوضعية. بل الأفدح من هذا أن سرية يعتبر معظم المتدينين المعاصرين كافرين؛ لأنهم لا يغيرون المنكر، خوفًا من قطع أرزاقهم أو سجنهم، تاركين مجتمعاتهم في “جاهلية”، تشهد عليها مظاهر المجون والخلاعة والجهر بالمعاصي؛ صغيرها وكبيرها.
والكتابُ يستعمل تعبير “المجتمع الجاهلي”، رغم تمهيده عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والقضاء والقدر؛ إذ يزعم أن الناس ينغمسون في طقوس شركٍ جديد، هو أخطر في نظره، مما كان متبعًا أيام نزول الوحي على الرسول (ص)، فهم، باستثناء من يتبع أفكاره بالطبع، مجموعة من الكفار والمنافقين والمرتدين، غافلًا حتى مبدأ “العذر بالجهل”، الذي يحول دون تكفير المعين، بل يعتبر أن عدم جهاد هؤلاء لتغيير ما هم فيه، خوفًا من السجن والقتل، دليل كفر صريح؛ لأن هذا في نظره برهان على عدم الإيمان باليوم الآخر، أو لأنهم لا يؤمنون بأن الله وحده هو الذي يشرع ويرسم المنهاج، ويقصرون الإسلام على العبادة، دون أن يؤمنوا بالنظام الإسلامي في إقامة الدولة وترتيب أحوال المجتمع، وهم لا يقرون شريعة الله بالجنان، ويتكلمون عنها باللسان، ويعملون لها بالأركان، بل إنهم في نظره، لا يقدرون الله سبحانه وتعالى حق قدره إنما يضعونه، جل وعلا، في منزلة أدنى من مقام رئيس الجمهورية أو الوزير أو الضابط، وينفذون أوامر هؤلاء بينما يعصون أوامر الله.
إن هذا الكتاب مغالٍ في أحكامه، ومتناقض في تصوراته، ومفتئت على شريعة الإسلام ومقاصدها، وقد رصعه صاحبه بمقولات وعبارات واصطلاحات وتعبيرات حول الإيمان والكفر، وراح يسندها خفيفًا إلى وقائع من صدر الإسلام، وثقيلًا إلى هوى من عند نفسه، ليقطع فيه شوطًا بالغًا نحو إجراءاتٍ حركية، تمهد وتبرر لممارسات إرهابية، لا تزال تعيش إلى الآن بين ظهرانينا.

عن "عين أوروبية على الطرف"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية