رسائل لندن: الترابي والحضارة الغربية (2)

رسائل لندن: الترابي والحضارة الغربية (2)


10/02/2022

بابكر فيصل

أشرت في الجزء الأول من هذا المقال لموقف زعيم جماعة الأخوان المسلمين في السودان، حسن الترابي، من المجتمعات الغربية كما عبر عنه في رسائله التي تبادلها مع صديقه السياسي و الدبلوماسي، علي أبو عاقلة أبوسن، في منتصف خمسينيات القرن الفائت، وكان الترابي حينها طالبا للدراسات العليا بجامعة لندن، وأواصل في هذا الجزء تناول ذلك الموقف كما ورد في بقية الرسائل.

يستمر الترابي في وصف معاناته مع المجتمع الإنكليزي، وخصوصا المرأة، التي كان قد وصفها بـ"مفتاح الفساد"، ويقول في الرسالة السابعة المكتوبة في 7 مارس 1958: "أما في حياتنا الفردية فنحن نحافظ ونجاهد ولكنه جهاد لنحافظ على مواطئ أقدامنا ونثبت على مواقفنا لا نتقدم إلى الأمام، وما رأيك في قوم كانوا يعيشون في حي آهل بالمعينين على الخير يصبحون وقد انفض عنهم أولئك ولم يتركوا للشيطان الوسواس والنفس الأمارة فحسب، بل أحاطت بهم مزالق الشر ومصائد إبليس من كل جانب".

يضيف "ويكفي أن أذكر لك أمرين عسيرين أولهما، كيف تتجنب النظرة الحرام وأنت لا تكاد تجد في وسائل المواصلات والشوارع والمدارس إلا النساء المائلات ال..... وكيف تؤدي الصلاة في أوقاتها وأين. وأمام هاتين الصخرتين تتحطم أكثر سفن الثابتين لكن الأمر ليس يقتصر على ذلك، فنحن نستبشر إذا علمنا أن إنسانا لا يصلي ولكنه يقتصر على النظرة الحرام".

نحن هنا بإزاء رجل يُشبِّه المجتمع الشرقي الذي جاء منه بمدينة فاضلة يعيش فيها صفوة البشر (المُعينين على الخير) بينما المجتمع الغربي هو مستنقع الرذيلة (مزالق الشر) الذي يحُركه إبليس، حيث تنتشر النساء "العاريات المائلات" في كل شبر منه لدرجةٍ يصعُب معها تحاشي النظرة الحرام كما إيجاد مكان لأداء الصلاة، وهذه هى النظرة التقليدية للمجتمع الغربي: مجتمع خالٍ من القيم الروحية ومنغمس في المادة بلا هوادة !

وهي نفس النظرة التي عكسها سيد قطب عن أميركا، التي سافر إليها عام 1948، وسطرها في كتيب "أمريكا التي رأيت" الذي رسم فيه صورة المجتمع الأميركي:  نساء منحلات، رجال بلا نخوة، عائلات مفككة، كنائس تُسوِّق للرذيلة.

كما وصف بلاد العم سام بأنها "غصن جديد للشجرة الشيطانية والنبت الخبيث النكد، تلك هي "المادية الجاهلية" التي تسمى الحضارة الأوروبية، هذه الشجرة أنتجت أغصانا وفروعا، تحمل سمات وصفات وخصائص ذلك النبت الخبيث الشيطاني فذاك فرع "إنكليزي" وذاك فرع "فرنسي" .... وأخيرا أنتجت تلك الشجرة الغصن الأميركي في العالم الجديد".

ثم يواصل الترابي نقده للحضارة الغربية من خلال وجوده في بريطانيا، ويقول في رسالته الثالثة بتاريخ 30 مايو 1956: "هذا هو مجتمعنا (يقصد المجتمع الإنكليزي) في سطور يقوم اليوم على شفا جرف هار ولا يقوم إلا بقوة الدفع من الماضي ويقترب إلى الهلاك بخطوات مؤكدة فإن قوته تقوم أولا وأخيرا على القوة الاقتصادية ولا يهتم الناس فيه إلا بأمر الأكل واللبس حتى الديمقراطية التي يزعمونها لا تعني أكثر من الحرية السياسية التي لا ينتفع بها إلا نسبة ضئيلة جدا".

ويضيف "فالسواد الأعظم لا يهمه إلى من تصير الأمور ما دام أكله ولبسه متوفرا له وليس في المجتمع قوة اجتماعية أو روحية تعصمه من الانهيار إذا اندكت قواه الاقتصادية التي تنذر بتلك النهاية".

لا شك أن نبوءة الترابي بالنهاية الوشيكة للحضارة الغربية لم تتحقق، على الأقل بعد مرور 65 عاما من حديثه أعلاه، ولا يعني ذلك أن المجتمعات الغربية لا تعاني من مشاكل حقيقية قد تؤدي لاضمحلال تلك الحضارة،  إذ طالما انهارت مجتمعات على مر التاريخ، ولم تخل حضارة من مواطن الضعف التي قد تدفع بالمجتمع إلى التدهور ولكن إشارته للديمقراطية "التي يزعمونها" تمثل أكثر النقاط ضعفا في تحليله لأسباب انهيار تلك الحضارة.

لم يكن الترابي وحيدا في التنبؤ بالزوال السريع للحضارة الغربية، فقد سبقه سيد قطب بخمسة أعوام في كتابه "نحو مجتمع إسلامي"، الذي قال فيه إن الرجل الأبيض، أو الحضارة الغربية، تعيش في طور الانزواء أو الانهيار، وأن الإسلام هو البديل القادم.

وفي تعليقه على حديث قطب كتب حلمي النمنم: "إن استنتاجه عن تراجع وإفلاس الحضارة الغربية وتقدم الإسلام عليها، لم يتحقق، ما زالت الحضارة الغربية تتسع وتجدد نفسها، وصارت الكثير من قيمها عالمية، مثل الحريات والديمقراطية ورفاهية الإنسان، بل إن معظم الشعوب الإسلامية تكافح وتناضل كي تنعم بالديمقراطية كما تطبقها الدول الغربية".

ويقول: "ومن يتابع الدول الإسلامية التي حققت تجارب مهمة في التنمية والنهوض مثل ماليزيا وتركيا، فإن ذلك يعود إلى تبني كل منهما النظام الرأسمالي في الاقتصاد والديمقراطية كنظام سياسي".

في الرسالة السادسة بتاريخ 14 مارس 1957 يحدد الترابي أعداء الإسلام وكيفية هزيمتهم، ويقول: "ونحن في مكاننا هذا نرقب العالم الإسلامي في الحصار المنيع المضروب عليه من الشيوعية العالمية والدول الغربية والصهيونية الجبارة والكفر كله ملة واحدة. فأرض الإسلام هي اليوم ميدان المعركة. وحال المسلمين مردها إلى العامل الروحي فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".

ويضيف "أما الدول الغربية، فقد كان للمسلمين معها جولات وهزموها بإذن الله وقد كانت كحالها اليوم يدا واحدة عليهم في دولة الروم القوية وفي الحملات الصليبية وأما قوى الإلحاد في البلاد الشرقية فقد تغلب المسلمون قبلا على دولة شرقية ملحدة في فارس، أما اليهود فقد كانت قوة المسلمين فوق كيدهم ومؤامراتهم مع أعداء الإسلام ولو تأملنا هذا الوضع الذي عليه المسلمون اليوم وجدناه شبيها بما بدأ عليه الإسلام أول مرة ولن ينصلح حالنا إلا بما صلح به حال أولنا فان كنا مع الله فلا غالب لنا من دونه ولن يجعل الله للكافرين علينا سبيلا".

وإذ يشير الترابي إلى أن "أعداء الإسلام" هم الشيوعية العالمية والدول الغربية و اليهود، فإنه وبعد مرور أكثر من ثلاث عقود على كتابة تلك الرسالة نجح في إقامة نموذج الدولة الإسلامية التي طمح إليها، وأعلن النزال مع هؤلاء الأعداء باكرا حين هتفت حناجر جنود دولته الرسالية بالشعار الأثير لديهم : "أمريكا وروسيا قد دنا عذابها، عليَّ إن لاقيتها ضرابها"، وهنا تبدت المفارقة بين الأوهام والحقائق، و سقط هو نفسه ضحية لدولة الاستبداد والفساد التي تمخض عنها طموحه القديم !

عجز الترابي عن تحقيق حلمه السلفي الذي قال به الإمام مالك: "لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها"، إذ فشل في تقديم نموذج للحكم يحتفي بكرامة الإنسان وحريته وتقدمه، وتبنى نموذجا لا تاريخيا، تحققت ذروته وصلاحه الكامل في الماضي، ولا مكان فيه للمستقبل إلا بالرجوع لذلك الماضي (الزمن التأسيسي), وهو المأزق الذي سيظل يعاني منه الفكر السلفي بمختلف مدارسه.

لم يسع الترابي خلال وجوده في لندن لفهم المجتمع البريطاني بشكل عميق من أجل إصدار حكم موضوعي على الحضارة الغربية، وذلك عبر النظر في سلبيات وإيجابيات تلك الحضارة، بل آثر الانعزال عن ذلك المجتمع مدفوعا بما تركه وراءه من تجربة استعمارية غربية شملت بلده، فكانت الخلاصة هي التصميم على الانتقام من تلك الحضارة، وهو الأمر الذي سطره في الرسالة الرابعة بتاريخ 26 أكتوبر 1956، وكان حينها المستعمر قد حمل عصاه ورحل عن السودان. 

قال الترابي لصديقه في تلك الرسالة: "الحقيقة يا أخي كلما بقيت هنا شعرت بعظم الثأر الذي لا بد أن نأخذه من هؤلاء الكفار يوما ما، وما ذلك ببعيد إن شاء الله".

عن "الحرة"


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية