ذنوب العباد وراء غلاء الأسعار!

ذنوب العباد وراء غلاء الأسعار!


12/05/2020

جلس الشيخ الجليل، بكل أريحية، ليتحدث عن الغلاء، فقال بلهجة عامية مصرية ممزوجة بقليل من الفصحى: "نحن نشغل أنفسنا بأشياء تلهينا عن العبادات وذكر الله، مثل قضية غلاء البنزين؛ فالغلاء والبلاء نتاج ذنوبنا، الغلاء ما نزل إلا بذنب وما رفع إلا بتوبة، لا بد أن ندرك أننا مقصرون، ولا بد أن نكون مجتهدين، فالاجتهاد مرتبط بالعبادات، فلا بد ألا نلهي أنفسنا عن العبادات للحديث عن أشياء ليست من تخصصنا وندع الأمر لمن بيده الأمر".

الشيخ محمد رمضان، هو قائل هذه الفتوى، وهو شيخ أزهري استضافته قناة "LTC" الفضائية المصرية، في رمضان العام 2017، من خلال برنامج "اسأل أزهري"، الذي تقدمه إيناس عبد الحميد، وكان ردّه هذا ليس على سؤال يتعلق بالغلاء، بل كان إجابة عن سؤال المذيعة بشأن العبادات في رمضان، وقرّر الشيخ طواعية أن يتطرق لمسألة حديث الناس عن الغلاء؛ فهو حديث، من وجهة نظره، يلهيهم عن العبادات، ثم عاد ليذكّرهم بأنّه من الأفضل ترك الأمور في يد من بيده الأمر؛ أي القيادة السياسية في البلاد، ورفض تحميل اللوم لأيّة قرارات حكومية.

التلويح بالآيات القرآنية في وجوه الشاكين من التضخم والعوز وسيلة لدرء الاعتراض على السياسات الاقتصادية

وقد عاود هذا التسجيل الانتشار هذا العام، في خضم موجة جديدة من التضخم الاقتصادي، الذي يسمى جماهيرياً "الغلاء"، لكنّ الشيخ رمضان ليس وحيداً في هذه الرؤية أو الفتوى.

العام الماضي أيضاً، ظهر الشيخ علي جمعة، وهو مفتي الديار المصرية الأسبق، في برنامج "الله أعلم"، على شاشة قناة "CBC" الفضائية المصرية، وقام بمناشدة المواطنين بتحمّل الغلاء، وتابع قائلاً: "سيدنا جابر بن عبد الله قام بشراء لحمة، وأثناء سيره التقى بسيدنا عمر بن الخطاب، فقال له: ما هذا يا جابر؟ قال له: هذا لحم اشتهيته، فقال له: أكلّما اشتهيت اشتريت!"، وربما تم توظيف هذه الحادثة لصالح موضوع تحمل غلاء الأسعار، وكأنّ المراد من الإشارة إلى هذه الواقعة "الاستغناء"، وهو ما يتوافق مع تصريحات عدد من المسؤولين أو رجال ونساء الإعلام (الحكومي والخاص) المؤيدة للسلطة وقراراتها الاقتصادية.

فتوى لأهل الأردن: التظاهرات منهج الخوارج

ولم تختلف بعض الأصوات السلفية عن هذا النهج الذي أوعز الغلاء للذنوب، فحين اندلعت المظاهرات في الأردن، في أواخر أيار (مايو) ومطلع حزيران (يونيو) 2018، إثر قرار موافقة الحكومة على مسودة قانون ضريبة الدخل، قال الشيخ هشام بن فؤاد البيلي، وهو من الشيوخ الذين يتبعون منهج السلف الصالح في مصر:

"لم أتتبّع أخبار التظاهرات في الأردن، لكنْ هذه ليست من الأمور التي تحتاج إلى الاطلاع على واقع مخصوص، فحكم المظاهرات في أيّ بلد مثل؛ مصر أو الأردن أو تونس، بسبب غلاء الأسعار؛ هو أمر باطل ومن منهج الخوارج، فالحاكم يملك سياسة يدبرها، ولا يملك رزقاً يوسعه، فابتغوا عند الله الرزق، واعبدوه، واشكروا له، وإليه ترجعون، فغلاء الأسعار من ذنوب كبار وصغار، وليست من فساد الحاكم وإن كانت من فساد الحاكم علينا بالدعاء له والنصح له، وإن لم يستمع الحاكم للنصح فعلينا بالصبر"، وعرفت هذه الفتوى بنصيحة لأهل الأردن.

تطويع الآيات القرآنية لمواجهة المتذمرين من الغلاء 

وفتاوى (الغلاء من الذنوب وجنس العمل) ليست غريبة عن المملكة العربية السعودية كذلك؛ حيث صدر بيان بشأن الغلاء، وقّع عليه 21 من علماء الأمة، في 29 ذو القعدة 1428، الموافق 10 كانون الأول (ديسمبر) 2007، وجاء في البيان الآتي:

"وله تعالى في الغلاء حكم بالغة، ومن ذلك ابتلاء العباد ليظهر صبرهم وشكرهم، كما قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}، وقال تعالى عن نبيه سليمان: {قَالَ هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ۖ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}.

والتلويح بالآيات القرآنية في وجوه المعترضين أو الشاكين من التضخم والعوز، وسيلة لدرء الاعتراض على السياسات الاقتصادية في البلاد ذات الأغلبية الإسلامية، فتصبح النصوص الدينية هي خطّ الدفاع الأول عن تلك الفتاوى. 

جعل التكافل المجتمعي وسيلة لمواجهة الغلاء هو إبعاد لمسؤولية مواجهته عن الحكومات وإلقاؤها على المجتمع

كان من بين الموقعين على البيان: الشيخ عبد الله بن ناصر السليمان (المفتش القضائي بوزارة العدل بالرياض)، والشيخ سليمان بن وايل التويجري (الأستاذ في جامعة أم القرى)، والشيخ عبد الرحيم بن صمايل السلمي (عضو مركز الدعوة والإرشاد في جدة)، وغيرهم ممن يُحسبون على أهل السلطة.

كما وجد البيان في مساعدة المسلمين لبعضهم (التكافل) وسيلة لحلّ أزمة الغلاء، وهو اقتراح لا يجب أن يمرّ علينا مرور الكرام؛ لأنه ضمنياً يحقق الهدف المرجو منه؛ وهو إبعاد مسؤولية مواجهة التضخم عن الحكام وقراراتهم السياسية والاقتصادية، وإلقاء مشكلة التكافل على المجتمع فيما بينه، وهنا تستخدم هذه الأنظمة الدين في التنصل من الحدّ الأدنى من المسؤوليات، وتعتمد ترسيخ مبدأ التكافل الإسلامي فقط، وهنا تزداد ظاهرة إعلانات التبرعات بشكل ملحوظ، وقد يوحي ذلك بأنّ التقصير يكمن في ندرة التكافل الشعبي.

اقرأ أيضاً: لماذا غاب الإخوان المسلمون عن الحراك الشعبي في الأردن؟

رغم ذلك، فإنّ الفتاوى التي تحمّل الجماهير أسباب الغلاء، لما ارتكبه الناس من ذنوب، ليست جميعها مؤيدة للحكام، بل بعض هذه الفتاوى تحمّل الجماهير ذنب الغلاء، كونهم ثاروا ضدّ حاكم مسلم صالح في سبيل حاكم طالح (من وجهة نظر صاحب الفتوى)، وهو الخطاب الذي يستخدمه الإخوان المسلمون في مصر، مستفيدين من الأوضاع الاقتصادية التي تئنّ منها الجماهير. 

يتم تطويع الفتاوى سياسياً على اختلاف الأنظمة ويبقى العامل المشترك هو الجماهير التي تتحمل ذنب الغلاء بسبب المعاصي

وهنا يتم تطويع الفتاوى سياسياً، على اختلاف المواقف من الأنظمة، ويبقى العامل المشترك هو الجماهير التي تتحمل ذنب الغلاء بسبب المعاصي والسيئات، وهو التوجه ذاته الذي أنتج فتاوى على شاكلة: "يستمر الغلاء ما لم تتحجب النساء".

والغلاء لا علاقة له بحجاب النساء، أو خلعهن الحجاب، ولا علاقة له بما أسماه الشيوخ "المعاصي"؛ فالأمر اقتصادي بحت، ويتعلق بمكونات عدة متشابكة لا علاقة لها، من قريب أو من بعيد، بالغيبيات والعقائد الدينية.

الله هو المسعّر

لكن، ما هي فلسفة الفتاوى التي تفيد بأنّ الغلاء من عند الله؟!

تتمحور تلك الفتاوى حول حديث أنس بن مالك:

"قَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ غَلاَ السِّعْرُ فَسَعِّرْ لَنَا، فَقَالَ الرسول: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ، وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُطَالِبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ وَلاَ مَالٍ"، وهو حديث صحيح أخرجه أحمد في مسنده، ج 3.

كما يلجأ الشيوخ إلى حديث آخر أخرجه أبو داود في سننه (ج 3)، قال فيه: 

"حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ الدِّمَشْقِيّ: أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ بِلاَلٍ حَدَّثَهُمْ: حَدَّثَنِي الْعَلاَءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَجُلاً جَاءَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ سَعِّرْ، فَقَالَ: بَلْ أَدْعُو، ثُمَّ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ سَعِّرْ، فَقَالَ: بَلِ اللَّهُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ".

كما تستند الفتاوى إلى ما جاء على لسان الشيخ ابن تيمية؛ حيث جاء في مجموع فتاواه (الجزء الثامن، صفحة 519): أنّ "الغلاء والرخص هما من جملة الحوادث التي لا خالق لها إلا الله وحده، ولا يكون شيء منها إلا بمشيئته وقدرته، لكن هو سبحانه قد جعل بعض أفعال العباد سبباً في بعض الحوادث، كما جعل قتل القاتل سبباً في موت المقتول، وجعل ارتفاع الأسعار قد يكون بسبب ظلم العباد، وانخفاضها قد يكون بسبب إحسان بعض الناس".

الاقتصاد عادة هو المحرك الأول للشعوب وأصبح خطاب الصبر على الفقر محلّ تشكيك كبير من الجماهير

كما تعتمد هذه الفتاوى على الترغيب في الفقر استناداً إلى فضل الفقر والزهد، فـ "الفقراء أول من يدخل الجنة من خلق الله" (مسند أحمد بن حنبل، ج 2، ص 168)، و"الفقراء هم أكثر أهل الجنة" (مسند أحمد بن حنبل، ج 1، صفحة 234 )، و"الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء"، كما ورد في صحيح الترغيب والترهيب للشيخ الألباني (جزء 3، صفحة 133)، ...إلخ.

هل تكبح الفتاوى جماح الجماهير؟

هل يمكن أن تمثل الفتاوى الدينية آلية توعز إلى الجماهير تحمل المزيد من التضخم؟ لربما هذا سؤالٌ الإجابة عنه معقدة، وتختلف الإجابة عنه من بلد إلى آخر، ومن منطقة جغرافية إلى أخرى داخل البلد ذاته، لكنْ في خضمّ الأحداث علينا أنْ نتوقف عند مشهد حدث في مصر العام الماضي، ومن مصر يمكن لنا أن نقيس الحدث على أحداث مشابهة في بلاد أخرى.

فدار الإفتاء المصرية قامت بنشر فتوى على صفحتها الرسمية، بتاريخ 29 حزيران (يونيو) 2017، في تمام الساعة 10 والنصف مساءً؛ أي بعد نشر خبر رفع مزيد من الدعم عن المواد النفطية بساعات قليلة، وجاء في الفتوى: أنّ "غلاء الأسعار ورخصها بيد الله"، وشهدت الصفحة الرسمية ردود أفعال ثائرة وغاضبة بعضها خرج عن الآداب العامة، مما اضطر دار الإفتاء إلى حذف التدوينة بعد ساعات في سابقة من نوعها.

المثير للانتباه: أنّ دار الإفتاء في مصر ربما تفادت التطرق للموضوع، في موجة رفع قيمة المواد النفطية ومشتقاتها، في حزيران (يونيو) 2018، بل ونفت إصدار أيّة فتاوى من هذا النوع هذا العام. وهو ما يدفعنا إلى دراسة تأثير الحراك المجتمعي في المؤسسات والفتاوى الدينية، فالاقتصاد عادة هو المحرك الأول للشعوب، وأصبح خطاب الصبر على الفقر محلّ تشكيك كبير من الجماهير، ولم يعد نافذ المفعول على أقل تقدير.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية