أزهريّون مطاردون: عندما تتحرّر الرؤوس من نيْر العمامة

مصر

أزهريّون مطاردون: عندما تتحرّر الرؤوس من نيْر العمامة


08/01/2018

عندما يطغى الفكر الطائفي المتطرف، يصعب سماع صوتٍ آخر، فحين حاول بعض شيوخ الأزهر، إظهار الإسلام بوسطيته واعتداله، حوربوا من المؤسسة التي كانت أكبر حاضنةٍ لهم، لإسكات ذلك الصوت، وكي يبقى الفكر المتطرف طاغياً، ونذكر من هؤلاء:
الشيخ علي عبد الرازق
كتب أحد القضاة الشرعيين في محاكم القاهرة، الشيخ الأزهري، علي عبد الرازق"، في كتابه "الإسلام وأصول الحكم"، في عشرينيات القرن الماضي: "لا شيء في الدين يمنع أن نسابق الأمم الأخرى في علوم الاجتماع والسياسة، وأن يبنوا قواعد ملكهم ونظام حكومتهم على أحدث ما أنجبت العقول البشرية، وأمتن ما دلّت تجارب الأمم على أنّه خير أصول الحكم"، كلماته تكشف الخرق الشديد الذي نعانيه، وتحاول سدّ ثغراته، وترميم فجواته، نتيجة تصفية ميراثه الفكري، وإهمال آرائه واجتهاداته المستنيرة.
دأب عبد الرازق، في كتاباته ومشروعه الفكري، على تخليص الفكر الديني من تعصبه، وتحريره من استغلال القوى والتيارات الإسلاموية، التي تستخدم الدين حجةً في صراعها على الحكم والسياسة، وتشرعن به ممارستها للعنف، لكنّ الواقع الذي يدور في حلقات دموية لا نهائية من التكفير والقتل، يعرّي تلك القوى، ويكشف زيف ادعاءاتها.

الشيخ علي عبد الرزاق

إنّ وقائع ما جرى مع الشيخ علي عبد الرازق، الذي حاول أن يرد الاعتبار للدين، ويصونه من التلاعب والاستغلال، تبدو مريرة في تفاصيلها، وذلك عندما تم فصله من "زمرة العلماء"، بعد نشر كتابه: "الإسلام وأصول الحكم"، ومحاكمة شيوخ الأزهر له، واتهامه بـ "الكفر والمروق"، ما ساهم في حصد خطابٍ طائفي اتّسعت قواعده وحواضنه الاجتماعية، إضافةً إلى تعزيز نفوذ وهيمنة القوى المضادة للعقل والدين.
تصدى الشيخ، الذي كان يعمل قاضياً شرعياً، عام 1925، في محكمة المنصورة، بضراوةٍ لمسألة "الخلافة"، منذ سعى الملك فؤاد، قبل أكثر من نصف قرن، للسيطرة عليها، بعد سقوطها في تركيا على يد أتاتورك عام 1924، فقد فضح الأزهري الثائر المتمرد فصول المؤامرة، التي تستهدف بسياستها التجزئة الطائفية، وإثارة النعرات الدينية، والاحتقانات المذهبية، وإقامة دويلات "ملوك الطوائف" تتستر بالدين، وتحتمي فيه، من أجل دعم أركان السلطة، وتثبيت حكمٍ مطلقٍ، قمعي واستبدادي، وهو ما كان يتقاطع مع أهداف الاستعمار البريطاني في ذلك الوقت.

لا شيء في الدين يمنع أن نسابق الأمم الأخرى في العلوم والسياسة. العقيدة لا تفرض بالقهر

دعا الشيخ، علي عبد الرازق، في كتاباته، إلى نبذ العنف الديني والطائفي، وميّز بين موقفين من الدين؛ موقف مطلوب يجب السعي لمؤازرته، وإعادته للمجتمع، ليخرجه من انسداداته وأفوله التاريخي، فهو يقف على مسافةٍ فاصلةٍ بين الدين في إطاره التعبدي والإيماني. والموقف الآخر؛ سياسي وتاريخي ودنيوي، اقترفه بشر غير معصومين من الخطأ والزلل.
عدّ الشيخ "الخلافة"، وأشكال الحكم الديني، بتوصيفاتها المختلفة، التي تعتمدها الحركات الإسلامية المعاصرة والقديمة، حدثاً في التاريخ لا قداسة له، أمّا وقائعه فهي مرتبطة بمرويّات، يمكن نقدها وإدانتها، فعصر الخلافة مثله مثل أيّ عصر، والذين عاشوا فيه هم بشرٌ قابلون جميعاً لمراجعة العقل.
كتاب "الإسلام وأصول الحكم"
تتمثل أهمية الكتاب وراهنيته، في شمولية طرحه، رغم مرور أكثر من نصف قرن على صدوره، فقد طرح إشكالية لا تزال قائمة، وتزداد قتامة، وتوغلاً في التاريخ، وتسعى لتجميده وتعطيل حركته، ليس هذا فحسب؛ فقد قدّم الكتاب رؤيةً علميةً في بناءٍ رصينٍ ومتماسك، كثّف فيه الشيخ فرضياته لوضع الحقائق والأحداث في سياقها التاريخي، وانتقى معانيه وألفاظه بدقة، وشرح المصطلحات الرائجة، فهدم بذلك ادعاءات وتبريرات من يقولون إنّ الخلافة ضروريةٌ لبقاء الدين الإسلامي، ومما جاء في كتابه: "الله لا يريد أن يكون صلاح عباده وفسادهم رهن الخلافة، ولا تحت رحمة الخلفاء".

أثبت عبد الرازق أنّ الخلافة ليست ركناً في الإسلام، أو واجباً شرعياً؛ فالدين لم يفرض شكلاً معيناً للحكم، بل ترك للمسلمين الحقّ في اختيار البناء السياسي الملائم لعصرهم، النظام الذي يؤلّف بينهم ويحقق مصلحتهم، فحتى الرسول لم يكن ملكاً، بل كان مفوّضاً لإبلاغ رسالته الدينية.
ويقول في كتابه: "الخلافة التي خرجت من مكة إلى دمشق، وبغداد، والقاهرة، وإسطنبول، على ضفاف البوسفور، كانت مجرد عباءةٍ، تتخفى فيها شتى أنواع القمع والظلم والفتن، التي نالت من الدين، وانتهكت قدسيته، بسبب التطلع للحكم، ومطامع السلطة.
الشيخ عبد المتعال الصعيدي
أحد شيوخ الأزهر الذين اهتموا بالتجديد والتنوير، وتثوير الفكر الديني، ضد التقاليد والأفكار المحافظة، واهتماماته تلك جعلته يعيش المعاناة نفسها التي تعرض لها الشيخ علي عبد الرازق، حيث جرى اضطهاده، وتهميشه، والتنكيل بأفكار وآرائه.
منذ بداية مولدهما في نفس القرن؛ حيث لا يفصل بينهما سوى خمس سنوات، ودراستهما في الأزهر، جمعت الشيخين عوامل مشتركة، وسلكا مساراتٍ متشابهة، رسما بها خطّاً جديداً ضد الجمود الفكري والكسل المعرفي، ورفعا راية العقل النقدي في مواجهة العقل الأصولي المتخاذل.

الدين لم يفرض شكلاً معيناً للحكم، بل ترك للمسلمين الحقّ في اختيار البناء السياسي الملائم لعصرهم

فقد أقرّ الشيخ عبد المتعال، في كتابه "الحرية الدينية في الإسلام" بحقّ الإنسان في اختيار عقيدته، والإيمان بها دون شروط. فالعقيدة لا تفرض بالقهر والتخويف والقوة، كما فنّد الشيخ الأصول الدينية التي يستند عليها الأصوليون، ويجعلونها مرجعيةً لهم في فرض عقوبات شرعية ضدّ المخالفين لهم في الدين والعقيدة. فيقول: إنّ "إكراه المرتدّ عن الإسلام، بالقتل أو الحبس، داخلٌ قطعاً في عموم قوله تعالى (لا إكراه فى الدين)؛ لأنّ الإكراه في الدين، كما يكون في الابتداء يكون في الدوام، وكما لا يصحّ الإكراه على الدين في الابتداء، لأنّ الإسلام الذي يحصل به يكون فاسداً، كذلك الإكراه على الدين لا يصحّ في الدوام، لأنّ الإسلام الذي يحصل به يكون فاسداً".

الشيخ عبد المتعال الصعيدي

ثار شيوخ الأزهر ضدّ عبد المتعال، وشكلوا هيئة محاكمة تضمّ كلّاً من: وكيل الأزهر الشيخ محمد عبد اللطيف الفحام، وشيخ كلية أصول الدين الشيخ عبد المجيد اللبان، وشيخ كليّة الشريعة، مأمون الشناوي، ذلك لأنّ الشيخ ناقش مسألة الحدود في الإسلام، وقدّم فيها اجتهاداً مغايراً؛ حيث رآها قابلةً للتعديل والتغيير وفق التطورات الاجتماعية والشروط التاريخية. وانتهت المحاكمة بحرمان الشيخ عبد المتعال من الترقية لخمس سنوات، ونقله من التدريس في كلية اللغة العربية إلى القسم العام في طنطا.
الشيخ محمد عبد اللطيف بن الخطيب
شيخٌ أزهريٌّ آخر، لم يكن وضعه أفضل حالاً، هو الشيخ محمد عبد اللطيف بن الخطيب، المولود عام 1900، صاحب أهم وأقدم مطبعة مصرية في أربعينيات القرن الماضي، نشر أمهات الكتب وقد قام بتحقيق بعضها، والتعليق عليه، وضبط ما فيه مثل كتاب "إيمان فرعون"، عام 1970. وأخرج تفسيراً مبسطاً لمفردات القرآن، سماه "غريب القرآن"، إضافةً إلى تصحيف أمهات كتب الحديث، وطبع كتابي "صحيح مسلم" و"زاد المعاد".
للخطيب عدة مؤلفات تخصه، من بينها "أوضح التفاسير"، لكنّ كتابه الشهير "الفرقان" الذي تناول فيه الرسم العثماني، وتعدّد القراءات، ونادى فيه بوجوب ترجمة القرآن، وكتابته بالرسم الإملائي، فثار الأزهر ضدّه، واتّهمه بالهرطقة والطعن في القرآن، فيما تشكلت لجنة تضمّ كلّاً من: الشيخ محمد المدني، والشيخ محمد علي النجار، والشيخ عبد الفتاح القاضي، ناقشت وضعه، وأصدرت تقريراً أوجب منع الكتاب، ومصادرة نسخه عام 1948.
فهل سيبقى صوت الاعتدال محارباً، وصوت التطرف والتعصب مسموعاً؟ ولماذا تحارب المؤسسات الدينية أية محاولة تغيير أو تطوير في الدين؟


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية