في غمرة محاولات مقتدى الصدر التخلص من الوصاية الإيرانية على العراق، فوجئ أبناء التيار الصدري بفقد أكبر داعمي التيار، مذهبياً وروحياً، بعد إعلان المرجع الشيعي كاظم الحائري، الإيراني الأصل، اعتزاله العمل الديني وتوصيته باتباع مرجعية المرشد الأعلى في إيران علي خامنئي بدلاً من المرجعية الصدرية في العراق، ممّا أثار جدلاً حول الهدف الحقيقي خلف اعتزال الحائري العمل الديني، وما حمله بيانه من رسائل مباشرة وغير مباشرة.
وصية الحائري الصادمة للتيار الصدري رافقها هجوم على رجل الدين الشيعي النافذ مقتدى الصدر، فقد انتقده الحائري، المقيم في مدينة قم الإيرانية، متهماً إيّاه "بالسعي لتفريق أبناء الشعب العراقي والمذهب الشيعي باسم المرجعين الشيعيين محمد باقر الصدر ومحمد صادق الصدر، والتصدّي للقيادة باسمهما، وهو فاقد للاجتهاد أو لباقي الشرائط المشترطة في القيادة الشرعية فهو -في الحقيقة- ليس صدريّاً مهما ادّعى أو انتسب".
تطورات درامية
لم تمرّ ساعات طويلة على بيان الحائري حتى أعلن الصدر أمس اعتزاله العمل السياسي نهائياً، مشيراً إلى إمكانية تعرّضه للاغتيال، بالقول: إن "مت أو قتلت، فأسألكم الفاتحة والدعاء".
وقد شكّك الصدر في السبب الحقيقي وراء اعتزال الحائري، قائلاً: إنّ تصوره أنّ اعتزال المرجع "لم يكن بمحض إرادته"، في إشارة إلى تعرّض المرجع الديني الإيراني الأصل لضغوط من نظام الملالي الإيراني للاعتزال، بغية المزيد من إرباك المشهد السياسي في العراق، بعد أعوام من سياسة إيرانية تستخدم رجال الدين كأحجار على رقعة السياسة الإقليمية.
اغتيال سياسي
وصية الحائري لأنصار التيار الصدري باتباع خامنئي تمثل، على ما يبدو، دعوة لأنصار الصدر بالخروج عليه، ممّا يمثل اغتيالاً سياسياً لمقتدى الصدر، الذي حاول على مدار الشهور الماضية الخروج من عباءة النفوذ الإيراني، بل كشف المتعاونين مع نظام الملالي.
يوصف الحائري بأنّه أحد أكثر المراجع تشدداً وتطرفاً، كما أنّ آراءه من بين الأكثر ميلاً للسياسة الإيرانية
وجاءت تلك الدعوة من "تلميذ الصدر"، الذي يحظى بثقة التيار الصدري في العراق، ولا سيّما أنّ المرجع محمد محمد صادق الصدر(الصدر الثاني)، والد مقتدى الصدر، أوصى في تسعينيات القرن الماضي بأن يعود الناس إلى الحائري في التقليد بعد وفاة الصدر، بصفته "الأعلم"، خاصة أنّ أيّاً من أبناء الصدر لم يبلغ مرحلة الاجتهاد التي تؤهله لطرح نفسه مرجعاً للتقليد.
السطو على النجف
تؤكد وصية الحائري للعراقيين بتقليد خامنئي حقيقة وجود خطة "للولي الفقيه" من أجل السطو على حوزة النجف، واستمالة العراقيين الشيعة من بوابة العقيدة، وليس عبر المال والسلاح والإعلام فحسب، وفقاً لصحيفة "النهار العربي" التي أشارت إلى أنّ رسالة الحائري تكشف كذلك توجهاً إيرانياً بحرق المراحل نظراً لـ "ضيق الوقت"، فالتوقعات كانت تشير إلى أنّ طهران ستنتظر شغور مقعد المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني قبل البدء بمحاولة التهام قاعدته، لكنّ دعوة الحائري تبدو أكثر تعجلاً.
"دليل المجاهد"
دعوة الحائري يمكن تفسيرها على أنّها ضربة قاتلة للتيار الصدري، الذي يتصدى داخلياً لنفوذ إيران، وللصدر نفسه، ولا سيّما في ضوء قراءة تاريخ المرجع الديني الإيراني الأصل، الذي كان أحد أبرز تلامذة محمد باقر الصدر، فقد رافقه مدة أعوام طويلة، حتى أنّ الصدر كتب له في إحدى رسائله: "قد ربّيتك يا أبا جواد من الناحية العلميّة، وكنت آمل أن أستعين بك في هذه المرحلة حينما تتراكم الاستفتاءات ووقتي محدّد، وفيه ما فيه من أشغال ومواجهات، وهموم، وآمال".
ويوصف الحائري بأنّه أحد أكثر المراجع تشدداً وتطرفاً، كما أنّ آراءه من بين الأكثر ميلاً للسياسة الإيرانية، فقد جاء في وصيته باتباع الخامنئي وصفه للأخير بأنّه: "الأجدر والأكفأ على قيادة الأمّة، وإدارة الصراع مع قوى الظلم والاستكبار في هذه الظروف التي تكالبت فيها قوى الكفر والشرّ ضدّ الإسلام المحمّدي الأصيل".
فتاوى الحائري لم تخلُ كذلك من التشدد، فقد تداول منتقدوه كراساً يحوي فتاوى منسوبة إلى الحائري باسم "دليل المجاهد"، يبيح فيها قتل الجنود العراقيين واستهداف المنشآت والاستيلاء على ممتلكات الدولة خلال عهد الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين.
عُرِف الحائري بفتاوى مثيرة للجدل، وغير مسبوقة لدى كبار مراجع الشيعة الذين يحرص معظمهم على الاتزان في حبك الفتاوى، ففي عام 2012 حرّم الحائري انتخاب العلمانيين، ثم عاد قبل انتخابات 2021، وحرّم انتخاب القوى التي تدعو لدمج الحشد الشعبي في القوات العراقية.
وراثة المرجعية
باعتزال الحائري العمل الديني بحجة "التقدّم في العمر" قد يصبح الطريق خالياً أمام الصدر لوراثة المرجعية، بعد نزاع بين الاثنين دام نحو (20) عاماً، واستمر حتى اللحظة، فالحائري هو الوصي بتزكية الصدر الثاني، لكنّ مقتدى هو الابن الذي يقدّم نفسه وريثاً شرعياً لا بالنسب فقط، بل بالاتجاه، خاصة أنّ الحائري ذهب بعيداً في التماهي مع السياسة الإيرانية، بعكس الاتجاه الذي اختطه الصدر الثاني.
لم تمرّ ساعات طويلة على بيان الحائري حتى أعلن الصدر اعتزاله العمل السياسي نهائياً
بيد أنّ الحائري حاول في رسالته الأخيرة أيضاً توجيه ضربة للصدر نفسه في وراثته المرجعية الصدرية، فقد اتهم مقتدى الصدر بأنّه: "فاقد للاجتهاد أو لباقي الشرائط المشترطة في القيادة الشرعية فهو -في الحقيقة- ليس صدريّاً مهما ادّعى أو انتسب"، داعياً "أبناء الصدريين" إلى "عدم التصدي للقيادة ما لم يكونوا قد حازوا درجة الاجتهاد الحوزوية".
ولم ينتظر الصدر طويلاً للردّ على الحائري، فقد قال، في تغريدة على حسابه الرسمي على تويتر: "يظن الكثيرون بمن فيهم السيد الحائري أنّ هذه القيادة جاءت بفضلهم أو بأمرهم، كلا، إنّ ذلك بفضل ربي أوّلاً، ومن فضل والدي محمد صادق الصدر الذي لم يتخلَّ عن العراق وشعبه".
وأكد الصدر: "إنّني لم أدّعِ يوماً العصمة أو الاجتهاد ولا حتى القيادة، إنّما أنا آمرٌ بالمعروف وناهٍ عن المنكر… وما أردت إلّا أن أقرّبهم إلى شعبهم، وأن يشعروا بمعاناته"، في إشارة إلى القوى السياسية الشيعية المنضوية فيما يُعرف بـ"الإطار التنسيقي".
والمرجعية الدينية، في المفهوم الشيعي، هي اتباع المسلمين الشيعة المرجع الذي بلغ رتبة الاجتهاد والأعلمية في استنباط أحكام الشريعة، إذ أصبح مؤهلاً للإفتاء في الأحكام الفقهية، ويُعبّر عنه بالمرجع الديني أو "آية الله العظمى"، غير أنّ ذلك المصطلح "المرجعية الدينية"، الذي يقود من (150 إلى 200) مليون شيعي حول العالم، ما يزال يكتنفه الغموض.