خلايا التفكير: كيف يعمل محللو الاستخبارات؟

خلايا التفكير: كيف يعمل محللو الاستخبارات؟


19/08/2021

محمد العربي

تعرف الاستخبارات الاستراتيجية بأنها معلومات وبيانات يتم جمعها وتحليلها لتغذية عملية صنع القرار. وعلى الرغم من اتساع نطاق هذه المعلومات والبيانات إلا أنها غالبًا ما تتصل بعمليات اتخاذ القرار تجاه قضايا الأمن القومي. يقع عبء تحليل هذه البيانات على “محللي الاستخبارات”. لنتخيل أن هناك العديد من البيانات التـي تم جمعها بطرق ووسائل مختلفة من قبل جهاز الاستخبارات الأجنبية في الدولة «س» حول أنشطة معادية أو تمس الأمن القومي تقوم بها الدولة «ص»، سيقوم محللو الاستخبارات بالتعامل مباشرة مع الكامل الهائل من المعلومات والبيانات المتاحة لتحديد أنماط معينة في سلوك الدولة المعادية أو بناء معنـى من تحركاتها المختلفة بناء على ما هو متوفر من معلومات “خام”. في بعض الأحيان تكون الصورة واضحة، إلا أنها في أحيان كثيرة قد تكون مربكة لمتخذ القرار خاصة مع تضارب البيانات أو توفر حجم هائل من المعلومات يصعب استقراء مضمونها.

يقع في نطاق عمل محللي الاستخبارات “تقييم واستباق” التطورات الممكنة في الشؤون الدولية. سواء كانت الجوانب الاقتصادية أم السياسية أم الأمنية أو تلك المتعلقة بالقيادات السياسية في البلدان المعنية. ولا يقتصر تحليل المعلومات الاستخباراتية على وكلات الاستخبارات المعنية بالخارج فقط. بعض جهات الأمن الداخلي يعمل لديها محللون أمنيون. يقدم المحللون “تقديرات” مكتوبة لصانع القرار من خلال التسلسل القيادي لأجهزة الاستخبارات. تأخذ هذه التقديرات شكل “مختصر سياسات” أو “المختصرات اليومية” حيث يتم إرسالها إلى صناع القرار بشكل يومي في حال عدم وجود أزمات، حيث يزداد معدل هذه المختصرات مع كل تطور. ولا يخاطب المحللون الرؤساء وحدهم، فبعض التقديرات ترسل مباشرة إلى الوزراء، والأخرى إلى الجيش أو الدبلوماسيين؛ خاصة لو كانوا في سياق تفاوض دولي.

كيف يعمل محللو الاستخبارات؟

يمكن تلخيص العملية العامة التـي يقوم بها محللو المخابرات في المهام التسلسلية التالية:

البحث وجمع المعلومات الهامة: عمل محللي الاستخبارات هو عمل وسيط بين جامعي المعلومات الاستخباراتية ومتخذي القرار. إلا أن دورهم قد يتداخل مع “عملاء الاستخبارات” الموجودين على الأرض أو في السفارات، وكذلك مع برامج الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضخمة حيث قد يشيرون إلى أنماط بعينها يمكن تتبعها أو البناء عليها. ولأنهم باحثون بالأساس، يفيد محللو المخابرات من الفاعليات البحثية والسياسية المختلفة التـي تجمعهم بمصادر وباحثين آخرين.

تقييم صحة وأهمية البيانات التـي تم جمعها: وهي أول عمليات بناء التقديرات. دقة المصادر المعتمد عليها في جمع البيانات لا يعنـي بالضرورة صحتها أو سلامتها؛ فقد تكون المعلومات الاستخباراتية مجرد عملية تضليل تطلقها مخابرات الدول المعادية أو “بالونات اختبار”. وللتأكد من صحة هذه البيانات، قد يقوم المحلل بمضاهاة ما لديه من معلومات بمعلومات أخرى حول نفس القضية محل التحليل من مصادر مختلفة. وفي كل الأحوال، يتوقف التأكد من صحة المعلومات على مهارة المحللين.

تحليل وتفسير المعلومات: وهي عملية بناء صورة ذات معنى من الكم الهائل من المعلومات والبيانات التـي تم جمعها. على سبيل المثال، الإجابة على تساؤل ما إذا كان سعي دولة بعينها للحصول على أسلحة معينة دليل على اتخاذها مواقف هجومية ضد جيرانها. سيتوقف هذا على نوعية الأسلحة وما إذا كانت للردع أو اللحاق بسباق التسلح في منطقة ما، وما إذا كانت تعاني القيادة السياسية في هذا البلد من ضغوط ما قد تجعل “التصعيد” حلاً للخروج منها، وما إذا كانت وضعية البلد الاقتصادية والاجتماعية تتجه نحو الاستقرار أو التأزم. وغير ذلك من عوامل متشابكة. التحليل بشكل عام هو نوع من حل الألغاز.

التوصل إلى تحليلات قائمة على الحقائق: تبدو المشكلة الأساسية في هذه المرحلة هو تمييز “الحقائق” من التقديرات الشخصية أو المتحيزة. المتوقع دائمًا من محللي الاستخبارات هو إبعاد تقييماتهم عن التحيزات السياسية أو الحزبية، فضلاً عن الثقافية أو التاريخية. أحد التحديات الحالية التـي تواجه هذه العملية ليس نقص المعلومات بل كثرتها على نحو قد يعوق التوصل إلى تقديرات موضوعية أو محايدة.  

إبلاغ ما تم التوصل إليه للمعنيين: وهي المرحلة النهائية، وتتم من خلال قنوات إدارية وأمنية معقدة تضمن سرية التقديرات. وهذه المرحلة هي التـي تحقق الغرض الأساسـي من عملية تحليل المعلومات الاستخباراتية.

ويكشف إعلان على موقع جهاز المخابرات البريطانية MI6 الإلكتروني عن المهارات المطلوبة للقيام في هذه المهام، وتتمثل في القدرات التحليلية والقدرة على العمل ضمن فريق عمل، وقدرات تنظيمية وتواصلية عالية وتحديد الأولويات، وكتابة التقارير، وكذلك القدرة على الاستجابة السريعة والمرنة للتغيرات، فضلاً عن التركيز والمبادرة والابتكار. ويطلب الإعلان أيضًا حساسية ثقافية، أي قدرة على إدراك الاختلافات، ولو طفيفة بين الثقافات المختلفة، فضلاً عن الذكاء العاطفي والقدرة على التعاطف (من أجل فهم الآخر) وقوة الشخصية لإقامة علاقات إنسانية مع المصادر المحتملة.                

تحيزات محللي الاستخبارات

باعتبارها مدخلات يقوم الدماغ البشري بتحليلها، لا تختلف المعلومات الاستخباراتية عن غيرها، لذا فالتحليل أيضًا عرضة للتحيزات الإدراكية السائدة عند بقية البشر. مثل هذه التحيزات التـي أوضحها عالم النفس دانيال كينمان في كتابه التفكير سريعًا وبطيئًا تشمل:

التأكيد: حيث يميل الإنسان/ المحلل إلى تفسير المعلومات المتوفرة على نحو ما هو سائد من اعتقادات سواء لدى الرؤساء أو صناع القرار. على سبيل المثال، لم تقم أدلة دامغة على امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل على نحو يجعله خطرًا على الأمن الدولي، إلا أن وكالة الاستخبارات الأمريكية مالت بسبب الأجواء السائدة في البيت الأبيض تحت إدارة بوش إلى تفسير الأدلة المتوفرة من صور جوية وشهادات لبعض الشخصيات من المناهضين لنظام البعث، مالت إلى تأكيد هذه الفرضية.         

الارتساء: حين تسيطر فكرة معينة على المحللين بحيث لا يستطيعون التفكير خارج إطارها. المثال الأبرز على هذا الفرضية التـي سادت لدى مجتمع المخابرات الإسرائيلي بعد حرب ١٩٦٧ حتـى قيام حرب ١٩٧٣ أن الدول العربية خاصة مصر وسوريا لن تقوم بأي هجوم لاستعادة الأرض المحتلة في الجولان أو سيناء. كان هذا الاعتقاد أقرب إلى العقيدة خاصة لدى قيادة المخابرات العسكرية ممثلة في الجنرال إيلي زعيرا.

الوفرة: حيث يعتمد التحليل على ما هو متوفر دون أن يتطرق إلى ما هو غير معروف. غالبًا ما يحدث هذا في ظل عدم الاستماع إلى التحذيرات أو عدم الأخذ بالإشارات الضعيفة. الأمر نجده متكررًا في سجل المخابرات الغربية مثل الفشل في توقع المخابرات الأمريكية لهجوم تيت الذي قامت به قوات الفييتكونج ١٩٦٨. وفي بعض الأحيان، يحدث التحيز بسبب تراكم الإشارات في الاتجاه الخاطئ. مثلاً، لم تتوقع المخابرات الأمريكية غزو السوفييات لأفغانستان بسبب انخراط موسكو في مفاوضات سالت ٢ النووية مع واشنطن، وقبلها لم يتوقع محللو الاستخبارات اندلاع الثورة الإيرانية بسبب الميل إلى التركيز على مظاهر قوة نظام الشاه.

في أحيان أخرى، تكون التحيزات ثقافية أو ناتجة عن عدم فهم سيكولوجيا ولغة الخصم. لقد عززت التحيزات الثقافية ضد العرب ميل المخابرات الأمريكية لتصديق “عقيدة المخابرات” الإسرائيلية قبل حرب أكتوبر ١٩٧٣؛ حيث دأبت الدوائر الأمريكية على تصوير العالم العربي بالعجز وعدم الثقة والسلبية والغرق في العار في مواجهة القيم الغربية التـي تمثلها إسرائيل. وعلى الرغم من وجود العديد من المستعربين في الدوائر المخابراتية الغربية، إلا أن “التحيز الثقافي” ما زال سائدًا في تعاملها مع العالم العربي. وربما أدل على ذلك الفشل الذريع الذي أخفقت فيه المخابرات الأمريكية في إدارة الاحتلال في كل من أفغانستان والعراق. ومن المؤكد أن مثل هذه التحيزات سواء كان مصدرها نفسيّا أم شخصيًّا أم ثقافيًّا تؤدى إلى تقديرات خاطئة وربما كارثية.              

كيفية علاج "تحيزات" محللي الاستخبارات

بالطبع لا يمكن القضاء على التحيزات، ما دام الذي يقوم بالتحليل الاستخباراتي هم عناصر بشرية. لذا فالسبيل الأكثر رشادة هو إدارة هذه التحيزات ومنعها من التأثير، قدر الإمكان على تقديرات المحللين، ومن ثم صانعي القرار. ويعتمد المحللون في أجهزة الاستخبارات الغربية، في هذا الصدد، على نموذج طوره ريتشاردز جيه. هوير، الرئيس الأسبق لوحدة طرق التحليل بالمخابرات المركزية الأمريكية، في سبعينيات القرن الماضـي ونشرها في كتابه، «سيكولوجيا التحليل الاستخباراتي». يطلق على هذا النموذج “تحليل الافتراضات المتنافسة.” ووفقًا لهوير، فإن هذا النموذج يستهدف تمكين المحلل من اختبار عقليته وطريقة تفكيره من خلال افتراضات المحللين الآخرين. ويعمل هذا النموذج من خلال الخطوات التالية:

بناء الافتراضات: وذلك من خلال عصف ذهنـي؛ حيث يقوم المحللون باستعراض افتراضاتهم حول تفسير حدث ما. و مع جمع الأدلة على كل افتراض، يجد كل محلل صعوبة في اعتبار الأدلة التـي تصدق على “افتراضه” فقط.

جمع الأدلة: يقوم المحللون بجمع كافة الأدلة والآراء التـي تصدق أو ترفض الافتراضات التـي يقومون بها.

التشخيص: وذلك من خلال بناء مصفوفة توضع فيها الافتراضات والأدلة. وبدلاً من وضع فرضية واحدة، وجمع كافة الأدلة التـي تدور حولها، يقوم المحللون بجمع أكثر من دليل وعرضه على كل افتراض.

تجويد الأدلة: حيث يراجع المحلل كل النتائج الأولية، ويبحث عن النقاط غير المجاب عنها، ويجمع أدلة أخرى لدحض بقية الافتراضات.

عدم التماسك : يقوم المحللون باستنتاج أولي حول كل رجحان كل فرضية من خلال. وكلما قل تماسك كل افتراض، يصبح أقل رجحانًا. ويتم حذف الافتراضات الأقل رجحانًا.

الحساسية: وتعنـي إخضاع النتائج لما يعرف بتحليل الحساسية والذي يقيم كل استنتاج في مواجهة ظهور أدلة أو براهين جديدة.

الاستنتاجات والتقييم: الاستنتاجات الأكثر صمودًا في اختبار الحساسية تصبح هي الأكثر رجحانًا واحتمالاً. وبالتالي، يقوم المحللون بوضعها في شكل تقارير ترفع لصانع القرار لاتخاذ السياسات الملائمة. إلا أن هذا لا يعنـي انتهاء العملية التـي قد تظل محل تقييم في ضوء المؤشرات المستقبلية التـي تصدق أو تدحض تلك الاستنتاجات. وهو ما يمكن الإفادة منه عمليات تقييم قادمة.

لإيضاح الكيفية التـي يعمل بها هذا النموذج، خاصة تقييم الافتراضات، نورد مثالاً لتقييم محللي الاستخبارات لاستعدادات عسكرية تقوم بها الدولة (أ)  في مواجهة الدولة (ب) حيث يوجد توتر في العلاقات بين البلدين:

في هذا النموذج الافتراضي السابق، يتضح أن المحللين سيميلون إلى الأخذ بالفرضية الثالثة باعتبارها الأكثر تماسكًا في مواجهة الأدلة التـي يقومون بجمعها. وقد يبدو هذا التحليل أكثر بساطة مما هو سائد فعليًّا في عالم الاستخبارات حيث الأمور أكثر تعقيدًا وإرباكًا. ومن هنا تأتي أبرز الانتقادات إلى نموذج هوير حيث أنه لا يصمد أمام الأحداث الطارئة والمفاجئة، إذ أنه يحتاج إلى وقت طويل للوصول إلى الاستنتاجات فضلاً عن تبليغها لصناع القرار الواقعين في الغالب تحت ضغط «ضرورة التصرف السريع». كذلك، ترى بعض الاتجاهات أن هذا النموذج لا يتضمن عملية التحقق من الأدلة، وقد يكون بعضها مختلقًا بفعل الدولة (أ)، في هذا المثال، للتضليل أو التعتيم. وكشفت دراسة حديثة قام بها باحثون نفسيون أن العديد محللي الاستخبارات في الأجهزة التـي تعتمد على هذا النموذج لا يتبعون خطواته لكونها معقدة ومربكة وتحتاج عصفًا ذهنيًّا لا يمكن حدوثه بسهولة بين المحللين. وقد قام هوير لاحقًا في بداية الألفية بإعادة تقييم لهذا النموذج في ضوء التطبيق التقني له، وضوء نظرية احتمال بايزي الرياضية التـي تشير إلى اختلاف درجة “رجحان” كل افتراض مع استمرار جمع المعلومات حوله.   

ومن المثير للانتباه أن هذا النموذج وغيره قد انتقل من عالم الاستخبارات إلى عالم الأعمال والتحليل النفسـي الإدراكي بشكل موسع. فهو في النهاية أسلوب لحل المشكلات، والمساعدة على اتخاذ القرارات في إطار أي تفاعل بشري، سياسـي أو غير سياسـي. وقد اتجه مركز أبحاث بالو ألتو PARC بالولايات المتحدة حيث طور هوير أطروحته بعد خروجه من جهاز الاستخبارات، ببناء برامج إلكترونية بعضها مصادر مفتوحة لتطبيق «تحليل الافتراضات المتنافسة». وتصور بعض الاتجاهات التقنية أن تطبيقات الذكاء الاصطناعي قد تساعد على القضاء على التحيزات في عمل محللي الاستخبارات، إلا أن المسوح الداخلية في معظم أجهزة الاستخبارات الغربية تظهر أن محللي الاستخبارات أنفسهم يتشككون في التوسع في استخدام الذكاء الاصطناعي أو التطبيقات التـي قد تحل محل «العامل البشري»، خاصة مع خضوع عمل المحللين لاعتبارات بيروقراطية ونفسية ومتعة تأثير وتفكير لا يمكن التنازل عنها للحواسب.       

عن "مركز الإنذار المبكر"


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية