حسن حنفي.. رحيل آخر حبة في عنقود الفلاسفة الكبار بمصر

حسن حنفي.. رحيل آخر حبة في عنقود الفلاسفة الكبار بمصر


26/10/2021

محمد أبو الفضل

برحيل أستاذ الفلسفة حسن حنفي الخميس الماضي عن عمر يناهر السادسة والثمانين عاما، فقدت مصر آخر حبة في عنقود الفلاسفة والمفكرين الكبار الذين أثروا الحياة الثقافية على مدى عقود طويلة، مزجوا بين اجتهاداتهم والواقع السياسي المعاصر، وهو ما جعلهم موضع اهتمام دائم من قبل المتابعين للفلسفة بفروعها المختلفة، وجاءت خصوصية حنفي من قدرته على نقل هذا العلم من الخاص إلى العام، وله كتابات أقرب إلى الشعبوية الثقافية لفتت انتباه قطاعات عديدة داخل مصر وخارجها.

عندما وقعت عيناي على صورة حنفي في حوار أجرته صحيفة ”الوفد“ المصرية في الثامن والعشرين من يوليو الماضي، ووجدت الرجل ممددا على سرير في منزله، شعرت بالحزن من الصحيفة التي لا أعلم هل كانت تدري أم لا تدري أن نشر صورة لجسد هزيل بعرض صفحة كاملة يحمل إساءة للميراث الفكري الكبير، والذي ظل قويا وقابضا على جمر الفلسفة والفكر حتى أيامه الأخيرة، فلم يهادن أو يتغير.

عندما قرأت الحوار وجدت أن حنفي لم يفتت المرض في عضد أفكاره، وكان متماسكا ويقظا في طرح حججه برصانته المعهودة، ولم يتنازل عن أي جزء مما طرحه طوال حياته، في مشروعه تجديد التراث أو حول ما أسماه باليسار الإسلامي، وما بينهما من دراسات غطت الكثير من المعالم الفلسفية الشائكة، فقد طرق الرجل أبوابا مثيرة للجدل الفكري والسياسي، وهو ما ظهرت تجلياته عقب وفاته.

النبيل والزنديق

لم تغير عزلته الاختيارية في السنوات الأخيرة من حياته في قناعاته، ولم تفرض عليه قيودا في تصوراته وظل متحررا في طروحاته عبر منافذ صحافية واظب على الكتابة فيها، بث من خلالها جملة كبيرة من رؤاه الفلسفية والحياتية، وجمعت بين مستويات عدة بقي حريصا على مخاطبتها في المحتوى الغزير الذي حواه مشروعه الفكري.

أكد الكثير من تلاميذه ومحبيه في نعيهم له أنه أحد أهم الفلاسفة العرب في العصر الحديث، وعددوا مناقبه الفكرية وتوجهاته العلمية وثباته على منهجه وقدرته على الصمود وسط العواصف التي تعرض لها والعزلة الضمنية التي فرضت عليه في أوقات مختلفة، وتمكن من تفكيكها برشاقة ثقافية نادرة، والاستفادة منها في تقديم رؤى أغضبت الكثير من الدوائر المعنية بعدم الاقتراب من التراث ورفض إشكاليات التجديد التي دخل على خطوطها كتاب ومفكرون نهلوا من مشارب متباينة.

ووجد بعض معارضيه من التيار الإسلامي في رحيله مناسبة للحط من قدره والتذكير بخصاله القاتمة، وكالوا له اتهامات معلبة، كأنهم تخلصوا من أحد أبغض الخصوم في محراب الفكر، لأنه استطاع عبر مؤلفاته فضح تصرفاتهم في النهل من التراث بلا تفكير، وبلا عقل في كثير من الأحيان، وتسببوا في تشويه صورة المسلمين في الغرب نتيجة انتقائية غير حكيمة وتفسير غير رشيد لعدد كبير من نصوص القرآن والسنة.

تؤكد الحيرة في توصيف المفكر الراحل وتحديد انتمائه الفكري أنه كان يعمل مستقلا بلا حسابات سياسية أو قيود فكرية، فقد حسبه البعض على اليسار لأنه تبنى طروحات خاصة بما يسمى باليسار الإسلامي، والمقصود به سعيه السابق نحو إيجاد صلة بين الليبراليين والماركسيين.

أغضبت كتاباته هؤلاء وهؤلاء ومعهم طيف واسع في تيار الإسلام السياسي لم يتشكك الرجل في جدواه على أرض الواقع أو ينكره، على الرغم من التجارب الخاطئة التي مر بها منتسبوه في عدد من الدول العربية، والتي أرجعها إلى سوء التقدير أو عدم النضج من قبل جماعة الإخوان وحلفائها، والاستعجال في الصعود إلى السلطة.

كان كثيرون ينتظرون منه أن يقدم نقدا شافيا لتجربة الإخوان في حكم مصر التي لم تستمر سوى عام واحد، غير أنه اكتفى بالقفز عليها ربما لحسابات سياسية أو لم يكن راغبا في الاشتباك على قاعدة قد يساء تفسيرها، وتمسك بثوابته المنهجية في الحديث عن ظاهرة الإسلام السياسي التي لم ينكرها.

ولهذا النوع من الاعتبارات وغيرها، لم يكن حنفي مقنعا للبعض في مصر، ووجدوا في إنتاجه قدرا من الارتباك والحيرة دون إنكار قدرته على طرق مناطق فكرية صعبة.

من المفارقات أن الرجل تعرض لكثير من اللعنات والطعنات مقابل الكثير من التمجيد والتبجيل في حياته وبعد الإعلان عن وفاته، حيث قدم خصومه فواصل من السلبيات التي نحت تجاه أنه لم يكن منصفا أو عادلا في بعض تقديراته الفلسفية.

في حين وضعه تلاميذه في مصاف المفكرين في العالمين العربي والإسلامي وأن شهرته خارج مصر فاقت داخلها، واستند كل جانب إلى حجج تؤيد رؤيته، وبصرف النظر عن موضوعية كل جانب، لا أحد يستطيع التشكيك في ما قدمه للمكتبة العربية من منجزات علمية عميقة.

القابض على الجمر

تتجاوز أزمة حنفي مع الجمهور العريض الذي تابعه وقرأ له وتأثر به سلبا أو إيجابا مسألة المساحة الملتبسة في أفكاره، إلى مساحة أخرى أشد التباسا في تفسيرها وربما إخراجها من سياقاتها، بما وضعه في مواقف محرجة، احتاج فيها إلى المزيد من التبيان والشرح والتوضيح والتعقيب.

من مزاياه أنه ظل قابضا على جمر الفكر، ولم يتغير أو يتلون أو يتعمد تقديم رؤى رمادية يريد منها لفت الانتباه، فقد كان مشروعه بطبعه واسعا وشائكا وتطرق إلى مناطق فكرية حساسة حاول كثيرا التعامل معها برفق، وهو الذي ولّد سوء الفهم والتقدير أحيانا في بعض ما قدمه للمكتبة العربية، ومن هنا جاءت فكرة الرمادية.

اتهم من الإسلاميين بأنه “شيوعي متخف”، ومن العلمانيين بأنه “إسلامي متخف”، وقيل عنه إنه رائد التجديد والفكر التنويري وأيضا الملحد والزنديق، ولازمه العزف على هذه الازدواجية النمطية الأثيرة لدى العرب طوال حياته، ولن ينتهي هذا الجدل بعد رحيله، فالكثير من الأفكار التي قدمها وغطت غالبية الجوانب المعتبرة في الفكر الفلسفي المتعلق بظواهر إسلامية يدور حولها خلاف تكفي لتفجير شجون العامة والخاصة إذ فتحت أبوابا من النقاش وصل في بعض الأوقات إلى “السفسطة” عندما خرج عن المسار الفكري وخضع إلى تقديرات لا علاقة لها بالفلسفة وضوابطها.

كشفت مقولته الشائعة أن الإسلام يشبه السوبر ماركت أو المتجر حيث يستطيع أن يجد فيه كل فرد السلعة التي يريدها عن سوء نية في تعمد إيذاء  حنفي، إذ وظفها خصومه في التقليل من قيمته وريادته الفلسفية واعتبروها دليلا على غبنه للإسلام.

بينما أراد في الحقيقة القول إن الإسلام يحوي كل شيء، وأي شخص بإمكانه تفسير محتواه بالطريقة التي تناسبه، وهي العبارة المطاطة التي تم تفسيرها بشكل أوحى كأنه يستهين بالقرآن الكريم، ما اضطره إلى توضيح مقصده لاحقا، بأنها جاءت في سياق حوار شامل أكد فيه أن الإسلام تطرق إلى قضايا متباينة لا يجب إخضاعها تماما للتراث الذي له اعتبارات من الضروري مراعاتها عند خضوع النص لمقاييس الوقت الراهن.

مستويات المشروع

تبدو كتابات حنفي أشبه بحكاية السوبر ماركت، فمع الفارق في التشبيه ومضمونه، لكن يمكن لكل شخص أن يجد فيها البضاعة التي يريدها وفقا لطريقة قراءته للنص ودرجة وعيه به وقدرته على فهمه كما قصدها المؤلف لا كما وصلت إلى عقله بالصورة المباشرة، وهو عيب تسبب في وضع أفكاره تحت المقصلة، وفي أحيان أخرى تحت مجهر الحكم المسبق عليها، والذي يصنفه يمينا أو يسارا.

انتقد المفكر الراحل الاهتمام المنصب على التصنيف القديم لمصادر الشريعة الإسلامية، أي الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وقال إنه إذا لم يجد البعض حكما لقضية في القرآن الكريم يتم البحث عنها في السنة، ثم في الإجماع وأخيرا بالقياس، بينما رأى أن هناك قضايا طارئة غير موجودة في أي من هذه المصادر وتحتاج إلى اجتهاد يتناسب معها، ومال دوما إلى ما يسمى بـ”التعليل” من خلال البحث عن العلل المباشرة بالأدلة التجريبية، وهي الزاوية التي تبين أهمية تشريح النصوص بعيدا عن التقليد.

في حديثه عن التراث والتجديد كمحور أساسي في أفكاره رفض استدعاء القديم على علاته لأنه “تراث عصر مضى”، ولا ينفصل عنه أيضا “بعد أن تحول إلى ثقافة شعبية ومكون من مكونات الشخصية العربية والإسلامية”.

واعتبر أن من يذهب إلى التراث القديم يهرب لأنه عاجز عن أن يواجه الواقع، ومن ينقطع عن التراث الإسلامي ويذهب إلى التراث الغربي يهرب لأنه عاجز عن مواجهة الواقع وإيجاد حلول له، لذلك لا فرق بينهما وبين من يقلد القدماء أو من يقلد المحدثين.

دشن حنفي مشروعه الفكري على مستوى علمي للمتخصصين بعنوان “التراث والتجديد”، وجوهره كيف يجدد التراث القديم ويبدع تراثا يتفق مع الواقع المعاصر.

وقال في حوار له مع موقع “أصوات أونلاين” المصري في التاسع عشر من سبتمبر 2018 إنه أعد مؤلفاته “من العقيدة إلى الثورة” في علم الكلام، و”من النقل إلى الإبداع” في علوم الحكمة، و”من الفناء إلى البقاء” في علم التصوف، و”من النص إلى الواقع” في علم أصول الفقه، بمعنى أنه غطى العديد من الجوانب الفكرية الدقيقة في إطار رؤيته الشاملة للقضايا الفلسفية التي شغلته مبكرا.

ورأى أن مؤلفه “من النقل إلى العقل” يندرج ضمن العلوم الكلية الخمسة التي تركت في أيدي الخطباء والجماعات الدينية، ويعني بها علوم القرآن والحديث والسيرة والتفسير والفقه، ثم “مقدمة في علم الاستغراب” ويعكس موقفه من تراث الغرب ضد من يريدون الانتقال من تقليد القدماء إلى تقليد المحدثين.

ثم كتابه “التفسير الموضوعي للقرآن الكريم”، وهو آخر مؤلفاته فى الفكر الفلسفي وكان يستعد لطباعته قبل وفاته، ويقوم على التفسير الشعوري للقرآن الكريم، وكيف يستطيع الإنسان أن يُفسر القرآن بما يشعر به تجاه الآيات المتطابقة مع نماذج حياتية، وهي النقطة التي بدت طاغية على تفكيره في أيامه الأخيرة وبدا شغوفا بتسجيلها، خاصة أنها تقدم جانبا عمليا من فكره الفلسفي وتخضعه للتجربة.

وجاءت على المستوى الثقافي العام وكمحاولة لنشر أفكار التراث والتجديد بين المثقفين مؤلفاته “قضايا معاصرة”، و”هموم الفكر والوطن”، و”شخصيات وقضايا”، و”حوار الأجيال”، و”جمال الدين الأفغاني”، الأمر الذي يعتبره البعض من راصدي فكره أنه أراد أن يكون قريبا من كافة الشرائح التي تواظب على متابعة إنتاجه العلمي.

وعلى المستوى الشعبي وضع دراساته “من منهاتن إلى بغداد”، و”وجوه التسلط وآفاق الحرية”، و”الدين والثورة في مصر”، و”الثورة المصرية في أعوامها الخمسة الأولى” ثم الجزء الثاني منها بعنوان “الثورة المصرية في أعوامها السادس والسابع والثامن”، و”الدين والثقافة والسياسة في الثقافة المصرية”. وجميعها تحوي أفكارا حيوية عن الثقافة السياسية التي تهم شريحة كبيرة من الناس وتضمنت قضايا يستطيع أن يفهمها ويستوعب مضمونها طائفة الأكاديميين وغيرهم.

ومن دراساته سلسلة “موقفنا من التراث القديم.. التراث والتجديد” (4 مجلدات)، و”حوار الأجيال”، وموسوعة “الحضارة العربية الإسلامية”، و”مقدمة في علم الاستغراب”، و”فيتشه فيلسوف المقاومة”، و”في الفكر الغربي المعاصر”، و”حوار المشرق والمغرب”، و”اليمين واليسار في الفكر الديني”.

ويكفي هذا الإنتاج الغزير ليضع حنفي في مقدمة المفكرين المصريين الذي يمثل رحيلهم خسارة للفلسفة التي تهاوى الكثير من المنتمين لها من جيل الرواد، ما يفرض على تلاميذ حنفي ونصر حامد أبوزيد وقبلهما زكي نجيب محمود أن يهبوا للتأكيد على أنهم لا يقلون إنتاجا نوعيا عن هؤلاء.

عن "العرب" اللندنية

الصفحة الرئيسية