"مفكّر يصوغ فكره أدباً، وأديب يجعل من أدبه فلسفة"، هكذا يصف الدكتور، جابر عصفور، الفيلسوف الراحل، الدكتور زكي نجيب محمود (1 شباط /فبراير 1905- 8 أيلول/ سبتمبر 1993)، الذي يعدُّ أحد أبرز أساتذة وفلاسفة العرب في العصر الحديث، في النصف الثاني من القرن العشرين، والرجل الذي كان في طليعة الفلاسفة ذوي النزعة العلمية، والفكر العقلاني المتنوّر، الذي يقدّر أهمية إعمال العقل في تقدُّم المجتمعات ورُقيّها، فضلاً عن كونه أحد أهم المفكرين الفلاسفة الذين امتازت عباراتهم الفلسفية بالرشاقة والسهولة، إلى جانب الإمتاع والدقة، حتى أنّ محمود عباس العقاد، وصفه بأنّه "فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة".
انتقل نجيب محمود إلى مرحلة الالتفات إلى التراث العربي الإسلامي بعد أن كان موقفه سلبياً حاداً تجاهه
كانت حياة الدكتور زكي نجيب محمود متحوّلة وديناميكية؛ فهي لم تكن ثابتة؛ ذلك أنّ الراحل مرّ، فكرياً وفلسفياً، بمراحلَ علمية مختلفة، أُولاها مرحلة دراسته في إنجلترا؛ عندما أُرسِل في بعثة علمية إليها، حصل خلالها على البكالوريوس الشرفية من الطبقة الأولى في الفلسفة، من جامعة لندن؛ لينال بعدها مباشرة درجةَ الدكتوراه في الفلسفة من كلية الملك بلندن، عام ١٩٤٧، ومن هنا كان مصدر تبنّيه مذهب الوضعية المنطقية الفلسفي، الذى كان مذهباً فلسفياً رائجاً في إنجلترا، وقتذاك، ليأتي بعد ذلك، عام 1953، كتابه الأزمة "خرافة الميتافيزيقا"؛ الذي أعاد طبعه مرة أخرى بعنوان "موقف من الميتافيزيقا"، دون أن يغيّر في مادته العلمية شيئاً، بيْد أنّه ذكر في مقدمته أنَّ خلط منتقديه بين الفلسفة والدين، إنما هو سبب سوء الفهم؛ لأنّ الفلسفة تعتمد على البحث والنقد، بينما يعتمد الدين على الإيمان والتسليم، وكلاهما صحيح، لكنّ المنهج مختلف في كلّ منهما، وقد انتقدوا كتابه لأنّهم رأوا فيه دعوة إلى هدم الدين؛ لأنه يؤكد فيه أنّ "الغاية الرئيسة من هذا الكتاب هي: بيان أن العبارات الميتافيزيقية خلو من المعنى، مع تحديد الميتافيزيقا بأنها البحث في أشياء لا تقع تحت الحسّ، لا فعلاً، ولا إمكاناً، لأنّها أشياء بحكم تعريفها لا يمكن أن تدرَكَ بحاسّة من الحواس"، ولعلّ ما دفعه إلى تغيير عنوان كتابه هذا، وتبرير موقفه في مقدمة الكتاب، هو انتقاله إلى مرحلة أخرى من مراحل حياته الفكرية والفلسفية، وهي مرحلة الالتفات إلى التراث العربي/ الإسلامي، بعد إذ كان يتخذ موقفاً سلبياً حاداً تجاهه؛ فقد كان ينظر إليه بارتياب يصل إلى حدود الاستنكار!
اقرأ أيضاً: الفلسفة الإسلامية: مشروع النسيان والنبذ
حمل زكي نجيب محمود، في مطلع حياته، على التراث، فآمن بمسؤوليته عن تخلّف العرب والمسلمين، كما آمن بعجزه عن تقديم أيّة رسالة علمية من شأنها الارتقاء بالمجتمعات العربية، لكنّه لم يمكث في مرحلة القدح والتهوين من شأن التراث كثيراً، فقد استطاع بجسارة الفلاسفة أن يُعلنَ تغييرَ موقفه، حتى قال عبارته المشهورة: "إنّ ترك التراث كلّه انتحار حضاري؛ لأنّ التراث به لغتنا وآدابنا وقيمنا وجهود علمائنا وأدبائنا وفلاسفتنا"، وتشهد عناوين إنتاجه العلمي بعد ذلك على اهتمامه بالتراث والقِيَم العلمية المستمدَّة منه؛ ومن هذه العناوين: "قيم من التراث"، و"الشرق الفنان"، و"ثقافتنا في مواجهة العصر"، و"تجديد الفكر العربي"، و"رؤية إسلامية".
يعدّ الفيلسوف الراحل أهم من سعى إلى إحداث تلك الثورة الفكرية، دون تنظير أو استعلاء؛ بل بتطبيقات عملية
لا نستطيع، كباحثين، أن ننكر انبهار الفيلسوف زكي نجيب محمود بالفكر الغربي، في مرحلة باكرة من حياته العلمية، خصوصاً مع اعترافه هو نفسه، في كتابه الأشهر "تجديد الفكر العربي" (1973)، بأنه كان جاهلاً بالتراث العربي "جهلاً كاد أن يكون تامّاً، والناس، كما قيل بحق، أعداء ما جهلوا"، غير أنّه بعد ذلك وجد نفسه، بعد اطّلاعه على التراث العربي، متردداً بين القديم والمعاصر، كلون من ألوان المراجعة الشخصية، فقد كان يرى أنّ "مشكلة المشكلات في حياتنا الثقافية، ليست هي: كم أخذنا من ثقافات الغرب؟ وكم ينبغي لنا أن نزيد؟ إنما المشكلة على الحقيقة هي: كيف نوائم بين ذلك الفكر الوافد الذي بغيره يفلت منّا عصرنا أو نفلت منه، وبين تراثنا الذي بغيره تفلت منا عروبتنا أو نفلت منها؟"، الأمر الذي جعل الدكتور زكي نجيب محمود يلجأ إلى التوفيق بين ثقافة الغرب وتراث العرب، أو بين الأصالة والمعاصرة، يقول: "لا بدّ من تركيبة عضوية، يمتزج فيها تراثنا مع عناصر العصر الراهن الذي نعيش فيه؛ لنكون بهذه التركيبة العضوية عرباً ومعاصرين في آنٍ".
اقرأ أيضاً: ما سر عداء رجال الدين للفلسفة والمنطق؟
لكن، كيف السبيل إلى تلك التركيبة العضوية التي ينشدها الفيلسوف الراحل؟! إنه يرى أنّ السبيل إلى ذلك يكون بأنْ "نأخذ من تراث الأقدمين ما نستطيع تطبيقه اليوم تطبيقاً عملياً، فيُضاف إلى الطرائق الجديدة المستحدَثَة، فإذا كان عند أسلافنا طريقة تفيدنا في معاشنا الراهن أخذناها، وكان ذلك هو الجانب الذي نحييه من التراث، وأما ما لا ينفع نفعاً عملياً تطبيقياً؛ فهو الذي نتركه غير آسفين، وكذلك نقف الوقفة نفسها بالنسبة إلى ثقافة معاصرينا من أبناء أوروبا وأمريكا".
كان يرى أنّ المشكلة هي في الماءمة بين الفكر الوافد وبين تراثنا الذي بغيره تفلت منا عروبتنا
ولم يكتفِ زكي نجيب محمود بالتنظير لما يسمّى عملية التوفيق بين الأصالة والمعاصرة، بل أتبع كتابه المهم "تجديد الفكر العربي" بطائفة من الكتب، لعلّ أشهرها وأكثرها مباشرة كتابه "المعقول واللا معقول في تراثنا الفكري 1975"، وقد طبّق فيه نظريته عن إعمال العقل في التراث تطبيقاً عملياً، مؤسِّساً لثورة علمية نحو تجديد الفكر العربي، حتى أنّنا لا نستطيع إلا أن نقول: إنّ الفيلسوف الراحل يعدّ، وحده، أهم من سعى إلى إحداث تلك الثورة الفكرية، دون تنظير أو استعلاء؛ بل من خلال تطبيقات عملية في أكثر من كتاب؛ لإنشاء أُطر علمية تنتج فكراً عربياً متوازناً، يمتاز بالأصالة والمعاصرة في آن؛ إذ إنّ نهضتنا الثقافية تروم "قناتين تنتهيان إلى ثالثة تغذيانها بما تحملانه من رحيق، والقناتان هما إحياء الماضي الذي يستحق الإحياء، ونقل من ثقافة الغرب ما يستحق أن يُنقَل، فيكون الأمل المرجو بعد ذلك هو أن يتلاقى الاثنان"، يقول زكي نجيب في كتابه "حصاد السنين".