موسى برهومة
عندما مات زوج شقيقتي، بقيتْ في البيت أكثر من ثلاثة شهور، لا تبارحه حتى لزيارة ملحّة لطبيب. كان الطبيب يحضر بنفسه، أما هي فقد ظلت جالسة على أريكتها قبالة الكرسي الفارغ، تبلّل وجهها بالدموع، حتى ظننا أن المرأة هالكة لا محالة.
ولطالما رجوناها أن تخرج، وتخلع ثيابها السوداء، وتكتحل، وتتعامل مع الأمر كأنه جرى ويجري، وسيجري لجميع الناس، لكنها ظلت وفية للحظة الحزن النادرة، التي شعّت من داخلها، وأثمرت كمداً شديداً وإحساساً مرعباً بالفقدان.
وعندما مات أبي، وكنتُ فتى صغيراً لم يتجاوز الثامنة، تجمّعت نسوة الحارة وقريباتي وخالاتي حول الجسد المسجّى، ورحن يمزّقن ملابسهن من شدة الجزع، وأذكر أن الدموع ضمّخت الغطاء الملقى على جسد أبي البارد. وكنت أفكر بخيال الطفل أن بمقدور ذلك النواح أن يُحيي الميت، ويعيده إلى الحياة فرحاً بهذا الحب العظيم، الذي شعر به لا محالة. ولما أخفقت توقعاتي وآمالي حسبت أن أبي سينام أبدية عميقة، يشعر خلالها بالطمأنينة والسكينة والحبور، وهو ما حُرم منه في حياته العابرة القصيرة المعفّرة بالشقاء والتعب، بصحبة قلب أثخنته الأيام بسهامها.
وحدث ذات يوم أن أعلن جارُنا عزمه الزواج، فمضى يجهّز الزينة، وينصب الأضواء، ويحضّر مكبّرات الصوت، إيذاناً بالليلة الكبيرة، فغداً زفافه من ابنة عمه، التي ظل ينتظرها سبعة أعوام حتى ناهزت السنّ القانونية. وكان يتحرّق لتلك اللحظة، في حين كانت أمه ترقص غيرَ مصدّقة بأن ابنها البكر سيتزوج، وسيمنحها عما قريب لقب جدة.
كان الجميع في الحارة فرحين بتلك اللحظة المبهجة، بيْد أن حدثاً أفسد كل تلك الترتيبات، وأجّل المناسبة شهوراً، إذ جاء نبأ وفاة زوج جارتنا، التي كانت تساعد أم العريس في التحضير لليوم المنتظر. أبلغتها شقيقتها في السعودية، عبر الهاتف، أن زوجها الذي يعمل في الرياض تعرّض لحادث مروري أودى بحياته على الفور.
الحزن على الراحلين يكون في القلب، كما يردّد كثيرون، لكن تعبيراته المادية وعلاماته ترفع الحزن إلى مصاف الأيقونة، فهل ثمة فقدان أشدّ فداحة من الموت؟ لذا لا غرابة في أن نجد بعض نساء قبيلة الداني في إندونيسيا يقطّعن أطراف أصابعهن عند موت فرد عزيز عليهن، لاعتقاد ديني قديم بأن روح المتوفّى تتحرّر من الاضطراب الروحي عند تنفيذ ذلك.
وتقوم عائلة الميت لدى شعب التوراجا، بتحنيطه، ويُبقى بعدها في منزل العائلة يعيش معهم كأنه ما زال حياً، يُقدّمون له الطعام ويتكلمون معه، في حين تُقام مراسم احتفالية قد تطول حتى الشهر والسنة، قبل الدفن.
كان للموت هيبة شديدة منذ أقدم العصور. وتصف الوثائق التاريخية قبل 3000 عام قبل الميلاد، بالتفصيل، طقوس الحزن على الميت في الحضارة المصرية.
صار الموت- الآن- أمراً عادياً، لا سيما مع جائحة «كورونا». يأتيك نبأ رحيل صديق فتمتعض وتصمت، وقد تحزن كثيراً، لكنك بلا شك ستتناول طعامك، وتستأنف رويداً رويداً، وبقليل جداً من الجهد حياتك.
هل هي إذاً «عولمة الموت»، التي قادت إلى عولمة من نوع آخر أصابت الأحاسيس، بعدما صار الموت شأناً يومياً، وواحداً من أفراد العائلة؟
إنه العجز، ربما، عن الإحاطة بكل هذا الألم. لكأنّ المرء يحتاج إلى بحار من الدمع ليذرفها، مع علمه الأكيد أن لا وقت للحزن المديد، فالموت يعمل بوتيرة عالية، وبهمة ونشاط يحسد عليهما.
وإن كان للميت حظ سعيد، فقد يتمتّع بيوم أو بساعات من التعازي، مرفقة بصوره، على مواقع التواصل الاجتماعي، مع تعليقات نمطية جاهزة، تأتي جلّها كونها رفع عتب، وتندر الكلمات المغرورقة بالحزن الجليل. كلّ ما في الأمر حزن عجول سريع الذوبان.
وما دام أن لا أصابع تُقطع بعد رحيلك أيها الكائن، وما دام أن أهلك لن يستحضروك، لتمكث عندهم معزّزاً مكرّماً لبعض الوقت، وما دام أصدقاؤك الخلّص سيُودعونك التراب ثم ينفضّون من حولك، فلمَ تبالغ في إيلاء مشاغل العيش كلَّ جهدك. لماذا ترهق قلبك في الغضب والبحث عن الكمال المستحيل، والاستيلاء على الدنيا والآخرة؟
لماذا لا تُتقن فن الحياة، وتُقبل عليها بشغف، ما دمتَ في أحسن أحوالك، إذ تفنى، لن تحظى، إن كنت عَلَمَاً، بأكثر من يافطة معدنية صغيرة، تحمل اسمك قرب ناصية شارع كثير الضجيج، لن يترك لك طمأنينة الرقاد بسكينة وسلام؟
عن "البيان" الإماراتية