حروب غزة والمشهد السوريالي (1 من 2)

حروب غزة والمشهد السوريالي (1 من 2)

حروب غزة والمشهد السوريالي (1 من 2)


15/05/2023

عبدالغني سلامة

مع كل حرب عدوانية تشنّها إسرائيل على غزة نجد أنفسنا أمام مشهد سوريالي: قبل اندلاع الحرب، وبعد كل جريمة احتلالية ننتظر بفارغ الصبر رد المقاومة، ونترقب بشغف وشوق بدء إطلاق الصواريخ. وبعد اندلاع الحرب، ومع مشاهد القصف والدمار نبدأ بترقب وانتظار التوصل إلى تهدئة أو هدنة.

ثم ننقسم (كعادتنا) بين مؤيد للمقاومة في كل تصرفاتها، وبين معارض، ومتحفظ.. المؤيدون يوافقون وبلا تحفظ على كل تصرفات المقاومة، ويبررون لها كل ما تفعله؛ إذا سكتت وانتظرت فهي حكيمة، وإذا ردّت بعد وقت فلأن لديها حسابات دقيقة، وإذا ردّت مباشرة فهي حكيمة أيضاً وتريد كسب عنصر المفاجأة. وإذا ردت بقوة وبصواريخ تصل إلى تل أبيب فلأنها شجاعة والمعركة تتطلب إبراز أقصى مديات القوة ولا يهم حجم ردة الفعل الإسرائيلية، وإذا أطلقت صواريخ قصيرة المدى فهي حكيمة أيضاً لأنها لا تريد استفزاز العدو لدرجة استدراجه لردة فعل عنيفة ومدمرة، ولتجنب الخسائر المدنية.

وإذا استمرت الحرب فترة طويلة وتشددت في فرض شروطها فالأمر يستوجب تقديم تضحيات جسيمة، وإذا قبلت بالتهدئة دون شروط ودون تحقيق مكاسب فهي محقة ومعذورة. مشاركة «حماس» وانخراطها في الحرب بطولة، وعدم اشتراكها وحياديتها حكمة.. في كل الأحوال المقاومة صائبة ولا يجوز انتقادها أو محاسبتها أو مساءلتها.

في الجانب الآخر، سنجد من ينتقد المقاومة مهما فعلت؛ إذا تأخرت في الرد فهي جبانة، وإذا ردت فهي متهورة، إذا أصابت الصواريخ أهدافها فهي تقتل المدنيين، وإذا لم تصب فهي صواريخ بلا جدوى، إذا قبلت بالهدنة سيقولون: إنها خاضت حرباً عبثية بلا طائل، وإذا تشددت سيقولون: لا يهمها مصير الشعب، فالاستمرار انتحار والتوقف جُبن! إذا حفرت خنادق وطورت تقنياتها الصاروخية سيقولون: إنها تضيع الجهود والأموال، وإذا لم تحفر ولم تطور سيقولون: إنها لم تستعد جيداً للمعركة.. في كل الأحوال المقاومة مخطئة ويتوجب نقدها ومحاسبتها.

المفارقة الغريبة أن كل هذا الجدال ينتهي ويتوقف كلياً بعد يوم أو يومين من انتهاء المعركة، ويعود المنظّرون إلى حياتهم الطبيعية، فيما يظل الضحايا والغلابى يكابدون المعاناة ويتجرعون ويلات الحرب بقية حياتهم.

ربما نجد جانباً من الصواب في رأي الفريقين، فليست هناك حقيقة مطلقة، المشكلة في النظر إلى الموضوع من زاوية ضيقة، وبرؤية أحادية، وبمنطق تبريري، أو هجومي.

صحيح أن منظر الصواريخ أثناء انطلاقها، وهي تشق عنان السماء، وتنير ليل غزة المعتم، وترسم خطها السائر بعزيمة نحو عدو غاصب، هو منظر مثير ومبهر، ويرفع المعنويات، ويزيد من دفقات الأدرينالين، باعتباره علامة قوة، ودليل منعة واستنهاض، وعند البعض لإشفاء الغليل، وإطفاء نيران الثأر والانتقام.. ولكن إذا رأينا الصورة من الجانب الآخر، سنجد آثار القصف والدمار، والرعب الذي يتملك الأهالي وهم يسمعون دوي الانفجارات، وترتج قلوبهم مع كل قذيفة تدك بيوتهم، وينتظرون بخوف وهلع سماع خبرٍ سينزل عليهم كالصاعقة.

وهنا نتحول إلى ساحة صراع داخلي: التهليل لمظهر القوة، وعنفوان الصواريخ، أم التأسي والحزن على معاناة الناس، ورعب الأطفال، ونحيب الأمهات، ولوعة الآباء، على خسارة فلذات أكبادهم، وتهدم بيوتهم.

وهنا أيضاً سنجد إجابة تقليدية جاهزة: تهون النفوس وترخص الدماء فداء للنصر وثمناً للتحرير، والمقاومة تستوجب تقديم التضحيات، ولم يتحرر أي شعب دون تضحيات.. سيقابلها سؤال جاهز: هل هذا الأسلوب من المقاومة هو الذي سيجلب النصر وسينجز التحرير؟ ألا توجد بدائل وأساليب أخرى؟

لو كانت الصورة بهذا النقاء والوضوح لوجدنا كل الشعب موحداً خلفها، وبلا تردد، ولن تجد رأياً شاذاً؛ فمن منا لا يتوق للتحرير؟ ومن منا لا يود التخلص من الاحتلال؟ لكن الصورة وللأسف ليست بتلك البساطة التي تبدو عليها، وهناك الكثير من العناصر والعوامل التي دخلت عليها، وجعلتها على هذه الدرجة من التعقيد والتشابك والغباش.  

فنحن مختلفون حتى الآن على صورتنا التي يتوجب تقديمها للعالم: هل نحن ضحايا أم منتصرون؟ هل فعلاً لدينا قوة صاروخية تضاهي قوة العدو، فنظهر أمام العالم جيشاً مقابل جيش، وصواريخ مقابل صواريخ، ورعباً مقابل رعب؟ علماً أنّ هذه الصورة خادعة ولا تمت للحقيقة بصلة.. وقد دفعنا ثمنها غالياً؛ صورة المستوطن الهارب والمختبئ في ملجئه الأمين دفع ثمنها الطفل الذي أصيب بنوبة ذعر أودت بحياته، ومئات الآلاف من الأسر التي تبيت مرعوبة. وصور الصواريخ المبهرة دفع ثمنها 4086 شهيداً في ست حروب، وآلاف البيوت التي تهدمت وإلى الآن أصحابها في العراء.

ومع ذلك، يجب أن ندرك أن الصورة مهمة؛ فالحرب ليست حرب صواريخ وحسب، بل حرب نفسية تلعب فيها الصورة والأغنية واللوحة والكلمة دوراً كبيراً. ولكن الخشية أن يوجه البعض حربه النفسية إلى الداخل، بدلاً من توجيهها للعدو والخارج، أي لتحسين مكانته الحزبية بعد سكوت المدافع.

هذا الصراع الداخلي طبيعي، والاختلاف في وجهات النظر مشروع، ولا ننكر وجود تيار نخبوي مصاب بمتلازمة أستوكهولم، ممن يلقون باللوم على الضحية، ويبرئون المجرم، يدعون للتساوق مع الاحتلال والتكيف معه، وأقصى طموحهم تحسين شروط العبودية، وهؤلاء يختبئون خلف دعاوى إنسانية زائفة وتباكٍ على الضحايا. ولكن أحياناً تفشل الضحية في إبراز مظلوميتها، فلا يكفي أن تكون صاحب حق، الأهم كيف تنتصر لهذا الحق، وبأي أسلوب. وليس كل من يدعو للتعقل وترشيد المقامة جباناً، وليس كل من يدعو للنظر والانتباه إلى ضحايا العدوان مدعياً. فنحن لا نطّلع على خفايا القلوب، وليس من حقنا إصدار الأحكام.

خوض النضال لا يقوم على حسابات الربح والخسارة (فهي ليست تجارة)، ولا بتهور واندفاع (إن لم يكن للحفاظ على الشعب، فعلى الأقل لضمان تحقيق النصر)، نحتاج عقل السياسي الحكيم، وحسابات الإستراتيجي الباردة والصماء، واندفاع الفدائي الشجاع، وهذا هو التحدي الذي أخفقنا فيه مراراً وتكراراً.
وللحديث بقية..

عن "الأيام"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية