ربما يكون التّصور السّائد عند جمهور المتابعين العرب، حول الثّورة الإيرانية، التي قامتْ في عام 1979 وغيّرت أوضاع المنطقة من حولها، مُنحصراً في اسمها، "الثورة الإسلامية"، فالعديد من هؤلاء المتابعين لا يعرفُ أنّ تلك الثورة قد شارك فيها شيوعيون وليبراليون إلى جانب الإسلاميين، وذلك قبل أن تأكلهم الثورة وتذلهم وتعدمهم، أو في أحسن الأحوال تتركهم للمنافي.
"الثورة الإيرانية" شارك فيها شيوعيون وليبراليون إلى جانب الإسلاميين قبل أنْ تأكلهم الثورة وتعدمهم أو تتركهم للمنافي
"حين ذهبتُ إلى الزنزانة، أحضرَ إليّ السيد علي خاوري، رئيس حزب تودة، كوب شراب، وقد كان في الزنزانة المواجهة، وهو الآن خارج البلاد"، يحكي رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية الأسبق، علي هاشمي رفسنجاني، عن ذكرياته مع الشيوعي علي خاوري، رفيقه في التعذيب والسجن تحت حكم الشاه. في ذلك الوقت، وبشهادة رفسنجاني، كان أغلبُ المعتقلين من الشيوعيين، وكانت العلاقات بين الإسلاميين والشيوعيين في سجون الشاه تلفّها السكينة والمودة، وتبادل النكات والحكايات، واقتسام فرص الحياة والموت، والاستفادة من الخبرات المتبادلة في مطبخ المعتقل. حين ينامُ الجلاد، تجلجل في السجن أصوات الضحكات والحكايات التي تحمل رائحة طهران، دون أن تفرق بين إسلامي وشيوعي.
الخميني يُنكِّل برفاق الثورة
ليس هذا فحسب، فالخميني نفسه جمعته، في البداية، علاقة مهمّة بالشيوعيين وبخاصة الحزب الشيوعي العراقي، قبل الثورة الإيرانية، ويروى أنّه كان يتبادل معهم بوجهه المتجهّم نكات مفاجئة، كأنْ يقول لهم "أريد أن أصالحكم مع الله". وفي فترات سابقة، كان يؤكد لهم على أنّ كليهما يحاربُ من أجل الكادحين. أيضاً، كان الخميني يستخدم في خطاباته مصطلحات ذات جذور شيوعية خالصة غير مألوفة على التراث الإسلامي، من قبيل الطبقة، وثورة الشعب، والكادحين، والصراع الطبقي. ورغم أنه أظهر في كثير من المرّات خصومته مع الأيديولوجيا الشيوعية، ورغم ما يتبين في خطاباته من موقف ديني تقليدي إزاء الملكية الخاصة، لم يفتأ يؤكد أنّ الإسلام جاء ليلغي الفوارق بين الطبقات، وأنّه لا يمكن أنْ يوجد فلاح واحد معدم في ظل الإسلام الحقيقي، وأنّ الرّسالة المحمدية هي رسالة لسكّان العشش لا سكان القصور.
حين ينامُ الجلاد تجلجل بالسجن أصوات الضحكات والحكايات التي تحمل رائحة طهران دون أن تفرق بين إسلامي وشيوعي
ربما يُنسي المشهد الإسلامي الخالص، الذي تشكّل بعد عام 1979، العديدَ من النّاس مشهد قدوم الخميني إلى طهران، حيث هبط من الطائرة رِفقة أبي الحسن بني صدر، القومي الإيراني، المتأثر بتجربة الرئيس اليساري الديمقراطي محمد مصدّق، الذي دبّرت الولايات المتحدة الأمريكية انقلاباً ضدّه بسبب سياساته الاقتصادية المستقلة. وبحسب شهادة الصحافي الفرنسي إيريك رولو، فقد كانتْ تجمع الرّجلين، الخميني وأبي صدر، علاقةٌ متناغمةٌ للغاية حينها.
إنّ القوى اليسارية والليبرالية الديمقراطية، التي قدّمت جليل التضحيات في الثورة الإيرانية، قد نُسيتْ تماماً بعد أنْ أكلتها ثورتها. وينبغي هنا التذكير بأنّ الثورة، بحسب كثير من المؤرخين، ونذكر هنا بالتحديد ما كتبه الصحافي المصري محمد حسنين هيكل في كتابه "مدافع آية الله" والصحافي والمفكر الإسلامي فهمي هويدي، وهو المقرّب إلى بعض دوائر الحكم في إيران، في كتابه "إيران من الداخل"، ضمّت في أطيافها تياراً ليبرالياً عريضاً ضمّ شرائح المثقفين القوميين الديمقراطيين المتأثرين بالثقافة الغربية، ومن رموز هذا التيار شاه بختيار، الذي كان آخر رئيس وزراء عينه الشاه قبل إسقاطه، والمهندس مهدي بازركان، الذي أصبح أول رئيس وزراء في حكومة الثورة؛ وتيار يساري ضمّ فصائل اليسار بشتى مشاربها، التي وصل عددها إلى 24 فصيلاً من بينها ماركسيين، واشتراكيين، ويساريين إسلاميين، وقد كانت دوافعهم تتمثل في الثورة الاجتماعية لصالح الطبقات المحرومة، ومن رموزه نور الدين كيانوري، رئيس الحزب الشيوعي تودة، ومسعود رجوي، رئيس منظمة مجاهدي خلق. وجدير بالذكر ههنا أنّ الشيوعيين كانت لديهم الرؤى الأكثر راديكالية بين كل هؤلاء، من قبيل تشكيل جماعات فدائية لمهاجمة رجال السافاك الإيراني "جهاز الاستخبارات الإيراني الذي كان الأسوأ سمعة بين أجهزة الدولة" واغتيالهم.
الخميني: الإسلام لسكان العشش لذلك سأنكل بالعمال!
بعد فترة قصيرة جدًا من الثورة، نُكِّل بالقومي أبي الحسن بني صدر ورفاقه الذين رأوا في الخميني ثورياً مهيباً وصادقاً - وإن اختلفوا مع رؤاه الدينية -، لأنّهم كانوا أقرب لرؤى ما يُسمّى بالفكر الإسلامي الديمقراطي، ولأنّهم عارضوا استبدال الدكتاتورية العلمانية بأخرى دينية. بعد أقل من عامين، نُفي أبو الحسن بني صدر خارج البلاد، فيما أُعدِم صادق قطب زادة، وهو أوّل رئيس وزراء لإيران بعد الثورة، بتهمة التآمر على الثورة، ولم يمرّ سوى شهرٍ على التصويت لصالح إقامة دولة إسلامية في إيران بنسبة 98%، حتى جاء الأمر بمرسوم من الخميني بتشكيل الحرس الثّوري "لحماية الثورة".
القوى اليسارية والليبرالية الديمقراطية التي قدّمت التضحيات بالثورة الإيرانية نُسيتْ تماماً بعد أنْ أكلتها ثورتها
غير أنّ الأمرَ الأكثرَ أهميّةً، أنَّ موقف الخُميني إزاء الكادحين والفقراء والعمال، وكلّ من لا ينعمون بملكيات خاصة فارهة، والذين قال فيما سبق أنّ الإسلام جاء من أجلهم لا من أجل سكان القصور، سُرعان ما ظهر على حقيقته. لقد أعلنَ نظامُ ما بعد الثورة تجريم الإضرابات، ومن أجل عرقلة كل الاحتجاجات التي من شأنها أنْ تجعل الثورة أكثر راديكالية فيما يتعلق بالأوضاع الاقتصادية، شنَّ النّظام حملته التجريمية هذه باعتبار أنّ الوقت قد حان للبناء لا الثورة. وهو الموقف الذي لطالما أخذته القوى اليمينية في أعقاب الثورات على مدار التاريخ الحديث.
من كتاب الدماء المنسية
في مقاله المعنون بـ"الثورة واليأس" عام 2015، يقولُ عالم الاجتماع الإيراني الشهير آصف بيات: "الشّعورُ باليأس ليس أمراً مفاجئاً، فكلّ المراحل التي تلي الثورات تقريباً يسودها شعور بالفرحة العارمة، يليه قدر كبير من خيبة الأمل، وضعف الروح المعنوية. يصف البعض كتاب ظاهريات الروح، أحد أهم أعمال هيجل، بالمرثية الفلسفية التاريخية لهزيمة الثورة الفرنسية، وهناك أيضاً العديد من الثوريين الروسيين الذين حاولوا الانتحار عندما تولّى ستالين الحكم، كما اجتاحت موجة من اليأس الثوريين الإيرانيين بعدما اندلعت الحرب مع العراق واتخذت الثورة منعطفاً قمعياً في ظل الدولة الإسلامية ".
إيران لم تتغيّرْ بعد سقوط الشاه الذي ناضلوا ضده فالعمامة حلّتْ محل التاج والعصا بدلًا من الصولجان
في الواقع لم يتعلق الأمر بالانتحار واليأس فقط، فقد تعرّض أكثر من 12 ألف معارض يساري، بعد الثورة التي كابدوها وضحّوا من أجلها، للإعدام أو القتل في المعارك مع رجال الخميني ونظامه، كما تم إعدام آخرين في السجون دون محاكمات بحلول نهاية ثمانينيات القرن العشرين "في صيف عام 1988 تحديدًا، أعدم ما يقارب 5000 سجين، بحسب العديد من التوثيقات".
على جانب آخر، جرى حظر الحزب الشّيوعي الذي كابد الثورة وشارك الإسلاميين قبلها عذابات السجون، وأعدم واعتقل عشرات الآلاف من كوادره، وتم إذلالهم عبر شاشات التلفاز بالاعتراف أنهم عملاء للاتحاد السوفيتي، وأنهم قد أجرموا بحق الدين الإسلامي. علاوة على ذلك، هُزِم الإسلاميون اليساريون هزيمةً نكراء في احتجاجهم المسلّح ضد دولة الخميني وشرّدوا؛ هؤلاء الذين تبنوا مطالب الثورة بصدور عارية منذ يومها الأول.
بخلاف هؤلاء، توجد أعداد غفيرة من الأطباء والشعراء والفلاسفة الإيرانيين الذين تم نفيُهم بعد الثورة، ولم تعد إيران مسرحاً مناسباً لأحلامهم، وهو ما وصفه أحد كتاب "الفورين بوليسي" سابقاً، بأنهم وجه إيران الآخر؛ وجهٌ يمثّل إيران أيضاً.
بالنّسبة إلى العديد من الشيوعيين، في المنفى، وأيضاً قطاع عريض من الجيل الشّيوعي الجديد، فإنّ إيران لم تتغيّرْ بعد سقوط الشاه الذي ناضلوا ضده، فالعمامة حلّتْ محل التاج، والعصا بدلًا من الصولجان.