رغم ما يحيط شخصيته من التباسات، وما يشوبها من غموض وتناقض، إلا أنّ جورجي زيدان يبقى، في نظر مؤرخي الثقافة العربية المعاصرة، واحداً من روّاد التنوير، وأحد البناة الكبار لصرح الثقافة العربية مطلع القرن العشرين.
جورجي حبيب زيدان (14 ديسمبر (كانون الأول) 1861 - 21 تموز (يوليو) 1914) أديب وروائي ومؤرخ وصحفي لبناني. أجاد فضلاً عن اللغة العربية؛ اللغة العبرية والسريانية والفرنسية والإنجليزية.
اقرأ أيضاً: أمين معلوف يبحر عبر "موانئ المشرق" ويدعو لمقاومة أعداء البشرية
أسس مجلة "الهلال" (1861-1914)، ذائعة الصيت. وكان يقوم بتحريرها بنفسه، ونشر فيها كتبه التي عكست غزارة إنتاجه، وتنوّع موضوعاته، حيث ألَّف في العديد من الحقول المعرفية؛ كالتاريخ والجغرافيا والأدب واللغة والروايات التي نافت على العشرين وتناول فيها زيدان تاريخ الإسلام في حقبه المختلفة.
روايات تعبّر عن القيم الغربية
وتعبّر تلك الروايات عن مجموعة من القيم الغربية، رغم أنّ أحداثها تجري في أزمنة أخرى كعصر الحكم الإسلامي في الأندلس، أو العصر الذهبي للإسلام، أو في زمن أول حاكمة مسلمة في التاريخ. وهذا ما جلب على زيدان نقداً واتهامات، فضلاً عن أنّه كان يؤخذ على روايته أنّها تعليمية توجيهية، كما وُوجهت بتحفظ لجهة تركيزها على الجوانب المظلمة في تاريخ المسلمين، والاقتتال والنزاع على السلطة والطائفة والحكم.
ما أثارته أعمال جورجي زيدان من جلبة واتهامات بالماسونية لم تحل دون ريادته في مشروع التنوير العربي الإسلامي
وعبّر زيدان في أعماله عن توقه إلى إحداث مواءمة بين الحال العربي ونظيره الأوروبي، إذ كان من أوائل الذين دعوا إلى إنشاء جامعة مدنية حديثة، لاستيعاب وتعليم المعارف والإسهام في نهضة علمية متطورة.
ورغم معارضة أبيه الذي كان يدير مطعماً في بيروت، فقد استقى جورجي زيدان بعض الأفكار من الثقافة الغربية وارتدى أيضاً الملابس الغربية. وقد قام لاحقاً في سعيه من أجل نهضة ثقافية عربية بدمج أفكار أوروبية وعربية. ويقول الناقد أوريت باشكين عن روايات زيدان، إنها "تشير إلى استحالة اعتبار الشرق والغرب كيانين منفصلين".
اقرأ أيضاً: إبراهيم المازني وحلّاق القرية
ويعدّ كتاب "تاريخ التمدن الإسلامي" بأجزائه الخمسة من أهم أعماله، إذ تصدى فيه لحال العرب قبل الإسلام، كما بحث عن ثروة المملكة الإسلامية وحضارتها وعلاقتها بالدول المعاصرة لها، ووصف أحوال الخلفاء في مجالسهم ومدى اهتمامهم بالعلماء والشعراء، ثم تطرق إلى أحوال العلوم والفنون في الأقطار العربية والعادات والتقاليد الاجتماعية المُتَعارَفِ عليها.
تطرقَ لنواحٍ عسيرة من التاريخ الإسلامي
ويتجلَّى وجه تفرُّد الكاتب في هذا الكتاب، بحسب ناشره، من خلال تطرُّقِهِ لنواحٍ عسيرة من التاريخ الإسلامي كالناحية المالية بوصفها من أكثر النواحي إشْكالًا في التاريخ الإسلامي، ويَكْمُنُ ثراء هذا التاريخ في تضمُنه تاريخ العالم المتمدن في العصور الوسطى، فهو التاريخ الذي يمتلكُ جسراً يربطُ التاريخ القديم بالتاريخ الحديث، كما يرى الكاتبُ أنّ الوجه الحقيقي الذي يُفْصِح عن تاريخ الأمم؛ هو تاريخ تمدنها وحضارتها لا تاريخ حروبها وفتوحاتها.
اقرأ أيضاً: قاسم أمين.. تحولات في قراءة واقع المرأة
ومع ذلك، فقد تعرّض زيدان بسبب كتابه هذا إلى هجوم ضارٍ، إذ اعتبره الدكتور محمد السيد الوكيل، في تقديمه لرسالة (نبش الهذيان من تاريخ جورجي زيدان) بأنه "من أشهر من افترى وزيَّف التاريخ الإسلامي في العصر الحديث"، فيما قال عن الكتاب الشيخ سليمان الخراشي بأنّ فيه "الكثير من الجهالات والأكاذيب، ومن أجل ذلك نال كتابه إعجاب المستشرقين ، كما ترجم المستشرق الإنجليزي مارجوليوث الجزء الرابع منه إلى الإنجليزية، وعدَّه عملاً أصيلاً غير مسبوق، ومن أجل ذلك أيضاً نال الكتاب إعجاب الروافض، منهم محمد بن المهدي الحسيني الشيرازي، الذي حلا له تلخيص الكتاب تحت اسم (من التمدن الإسلامي)".
اقرأ أيضاً: جمال الدين الأفغاني: هل كان "عراب الصحوة" إسلامياً؟
ويرى بعض المؤرخين أنه على الرغم من أنّ كتابات زيدان في التاريخ والحضارة جاءت لتتجاوز الطرح التقليدي السائد في المنطقة العربية والإسلامية آنذاك والقائم على اجترار مناهج القدامى ورواياتهم في التاريخ دون تجديد وإعمال للعقل والنقد، إلا أنّ طرحه لم يتجاوز فكرة التمركز حول الغرب الحداثي (الإمبريالي آنذاك)، حيث قرأ التاريخ العربي والإسلامي من منظور استعماري (كولونيالي) فتأثرت كتاباته بمناهج المستشرقين، بما تحمله من نزعة عنصرية في رؤيتها للشرق.
اتهامات بالماسونية
بيْد أن ما أثارته أعمال جورجي زيدان من جلبة، واتهامات بالماسونية، لم تحل دون ريادته في مشروع التنوير العربي الإسلامي؛ فقد ظل الرجل يعتبر نفسه، بحسب الناقد المصري جابرعصفور، مسلماً ثقافة ومسيحياً ديناً، مؤمناً بالتسامح الديني والتنوع البشري الخلاق. ولم يكتب رواياته التي تفوق العشرين إلا ليؤكد هذه القيم والمبادئ، التي ارتبط بها صعود الحضارة الإسلامية وتواصل ازدهارها، حين لم يكن هناك فارق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى والعمل لصالح مجموع الأمة.
كان زيدان من أوائل الذين دعوا إلى إنشاء جامعة مدنية حديثة لاستيعاب وتعليم المعارف والإسهام في نهضة علمية متطورة
ولقد عانى جورجى زيدان من هذا التعصب الديني في حياته وبعد مماته. أما في حياته، فقد عرف القائمون على الجامعة المصرية الوليدة علمه وحماسته للجامعة، كما يروي عصفور، حيث أوكلوا إليه مهمة تدريس مادة التمدن الإسلامي، وأعطوه تقدمة مالية لما سوف يقدمه من محاضرات. ولكنّ أصوات المتعصبين دينياً ارتفعت مهاجمة اختيار مسيحي لتدريس التاريخ الإسلامي، ويبدو أنّ الذي كان يحركهم هو محمد رشيد رضا (الذى عاد إلى أصوليته ضيقة الأفق، بعد وفاة أستاذه محمد عبده سنة 1905). وبالفعل نجحت حملة المتعصبين، فتراجعت الجامعة، وتنازلت عن التقدمة المالية. ولم يكن أمام جورجي زيدان سوى أن يحيل مشروع المحاضرات إلى واحد من أهم كتبه، وهو "تاريخ التمدن الإسلامي". أما المتعصبون الذين هاجموا الجامعة لتكليف جورجي زيدان المسيحي بتدريس تاريخ التمدن الإسلامي، فسكتوا ولم ينطقوا حين استدعت الجامعة للمهمة نفسها مستشرقين ليسوا من ملة الإسلام!