جمال الدين الأفغاني: هل كان "عراب الصحوة" إسلامياً؟

جمال الدين الأفغاني: هل كان "عراب الصحوة" إسلامياً؟

جمال الدين الأفغاني: هل كان "عراب الصحوة" إسلامياً؟


29/01/2024

"إنّه لمن الواضح أنّه في أي مكان استقرت فيه هذه العقيدة (الإسلامية) حاولت خنق العلوم واستخدمت بشكل رائع في مقاصدها عن طريق الاستبداد".. لا يتصور إسلامي معاصر أنّ هذه الجملة مكتوبة بقلم جمال الدين الأفغاني "عراب الصحوة الإسلامية" أثناء رده على محاضرة لعالم اللغويات والمستشرق الفرنسي، إرنست رينان، في السوربون، ونشرتها جريدة "Débats" الفرنسية في أيار (مايو) 1883 ولم يُترجم المقال إلى العربية إلا العام 2005، ودون كثير من الضجيج، بعد إهمال امتد إلى 118 عاماً!

كانت أفكاره مُصممة لأهداف إستراتيجية تدور حول كيفية النهوض بالأمة ومواجهة أوروبا الاستعمارية

فمع التحولات التي أصابت معنى الإسلام وتعدد هذا المعنى عاد مصطلح العقيدة ليدل على أخص خصائص الإسلام: الإيمان كما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ومن ثمّ لم يكن أمام المثقفين المتدينين من مهرب سوى تجاهل ترجمة مقال الأفغاني والتعمية عليه وتخليص مضمونه لأتباعهم كمحض دفاع للأفغاني عن الإسلام ضد هجوم رينان عليه، ورغم نجاح تكتيك التجاهل لما يزيد على قرن إلا أنّ النص وجد طريقه في النهاية إلى العربية.

فقه الداء والدواء
لم تكن هذه أول فكرة غريبة يأتي بها الأفغاني، فأولى محاولاته "النهضوية" تمثلت في توحيد الأديان السماوية الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام لاتفاقها في المبدأ والغاية كما اعتقد في البداية، إلا أنّه سرعان ما توصل إلى استنتاج يقضي باستحالة محاولته الطموحة بسبب العقبات التي يضعها أولئك "المزاربة الذين جعلوا كل فرقة بمثابة حانوت وكل طائفة كمنجم من مناجم الذهب والفضة" تكمن قيمتها في "ما أحدثوه من الاختلافات الدينية والطائفية والمذهبية، بحيث إنّ كل من يجرؤ على مقاومة هذه التفرقة أو هذه التجارة لن يكون إلا كافراً أو جاحداً أو مارقاً"، كما يقول في كتابه "دعوة التقريب بين الأديان".

عالم اللغويات والمستشرق الفرنسي، إرنست رينان
بعد ذلك تحول الأفغاني إلى فكرة توحيد العالم الإسلامي، كما عبّر عن ذلك في خاطراته، بدلاً من توحيد  الأديان الإبراهيمية؛ لاقتناعه الأكيد بأنّ داء مجتمعات الإسلام ليس إلا "انقسام أهليه وتشتت آرائهم واختلافهم على الاتحاد واتحادهم على الاختلاف"، وقد بنى قناعته هذه على الفكرة الشائعة بين المستشرقين والمفكرين المسلمين على حدٍ سواء والمتعلقة بـ "انحطاط المسلمين".

آمن الأفغاني أنّ داء مجتمعات الإسلام انقسام أهله وتشتت آرائهم واختلافهم على الاتحاد واتحادهم على الاختلاف

ويتناول الأفغاني صنوف الأدوية المطروحة لعلاج داء الانحطاط الفتّاك فيبدأ بحل تثقيف الرأي العام، فيقول: "لقد ظن قوم في زماننا أنّ أمراض الأمم تعالج بنشر الجرائد وأنّها تكفل إنهاضها وتنبيه الأخلاق! لكن أين من يقرأ ومن يكتب فضلاً عمن يفهم؟ ومن ذا الذي يستطيع تفهيم أمة، هي في درك الهبوط، فائدة الجرائد؟".
وبعد أن يثبت عدم جدوى الصحافة في وضعٍ كهذا، يتطرق إلى حل التعليم الذي ارتضته النخبة المفكرة العربية لداء التخلف فيعلق عليه قائلاً: "ذهب آخرون إلى أنّ شفاء الأمة من أمراضها القتالة يكون بإنشاء المدارس العمومية دفعة واحدة في كل بقعة من بقاعها (الأمة) وعلى الطراز الجديد المعروف بأوروبا؛ إذ متى عمت المعارف كلمت الأخلاق واتحدت الكلمة واجتمعت القوة. لكن ما أبعد ما يظنون! فإن مثل هذا العمل العظيم إنما يقوم به سلطان قاهر يحمل الأمة على ما تكره أزماناً، وليس عند الضعيف هذه السلطة التي تقهر فضلاً عن الثروة الذي تلزم".
وبعد أن يؤسس للمرة الأولى في تاريخ الفكر الإسلامي الحديث لفكرة "المستبد العادل" التي التقطتها تلميذه محمد عبده واعتبرها جوهر مشروعه الإصلاحي، ينتقل الأفغاني إلى خطورة العلوم الحديثة كجسم غريب على النسيج المجتمعي الراسخ، يقول: "كيف يمكن نقلها (المعارف الحديثة) إلى الأمة مع مراعاة النسبة بينها وبين مشارب الأمة وطباعها، ومع ما نعلم من غرور ورعونة الناشئين النَّقَلة الذين بالرغم من أنّهم لم يكونوا هم ينبوع هذه العلوم لم يتنكبوا عن صدم مشاعر الأمة مولدين لديها أوهاماً أدت بها إلى الاضمحلال والفناء؟"
هذه النظرة المتشككة في النخبة المتعلمة وانفصالها سيؤكدها بعد نصف قرن زكي نجيب محمود في تشبيهه للعلاقة بينها وبين المجتمع كالعلاقة بين بقعة زيت طافية والماء الذي تتحرك فوق سطحه.
إلا أنّ إدانة الأفغاني لوجود النخبة الحديثة لا يقتصر على اغترابها الروحي عن المجتمع بل تمتد إلى الأثر السياسي لهذا الانفصال والمتعلق بـ: الاقتصاد السياسي؛ حيث تساهم مثل هذه النخبة في نزح الفائض الاقتصادي إلى المتروبول الغربي من خلال تصدير المنتجات الخام واستيراد السلع المصنعة الحديثة بعد التخلي عن المنتجات اليدوية المحلية.
ويعبّر الأفغاني عن ذلك بقوله: "منهم آخرون عمدوا إلى العمل بما وصل إليهم من العلم؛ فقلبوا أوضاع المباني والمساكن (يقصد تحديث القاهرة وإسنطبول)، وبدّلوا هيئات المآكل والملابس والفرش والآنية وسائر الماعون، وتنافسوا في تطبيقها على أجود ما يكون منها في الممالك الأجنبية، وعدّوها من مفاخرهم، وعرضوها معرض المباهاة، فنسفوا بذلك ثروتهم إلى غير بلادهم وأماتوا أرباب الصنائع من قومهم، وأهلكوا العاملين في المهن لعدم اقتدارهم (على) أن يقوموا بكل ما تستدعيه تلك العلوم الجديدة من الحاجيات الجديدة، وأيديهم لم تتعود على صنع الحديد، وثروتهم لا تسع جلب الآلات الجديدة من البلاد البعيدة".

اقرأ أيضاً: محمد إقبال وحلم المعتزلة المتأخر أحد عشر قرناً
ثم ينتقل إلى البعد الثاني الذي يتعلق بالكُلفة السياسية الناتجة عن صعود طبقة مستفيدة من التبعية التامة للغرب ومنفصلة كلياً عن ديناميكية التاريخ القومي، إلى درجة أنها لم تعد لها جذور في التقاليد المحلية ولا أخلاقياتها الاجتماعية ولا قضاياها السياسية، ويشير إلى ذلك بقوله: "إن المقلدين من كل أمة، المنتحلين أطوار غيرها، يكونون فيها منافذ لتطرق الأعداء إليها، وتكون مداركهم مهابط الوساوس ومخازن الدسائس، بل يكونون -بما أفعمت أفئدتهم من تعظيم الذي قلدوهم واحتقار من لم يكن على مثالهم- شؤماً على أبناء أمتهم يذلونهم ويحقرون أمرهم ويستهينون بجميع أعمالهم وإن جلت.. ويعين أولئك المقلدون طلائع الجيوش الغالبين وأرباب الغارات، يمهدون لهم السبل ويفتحون لهم الأبواب".
هل فهم حسن البنا الأفغاني؟
نص الأفغاني المهم في الواقع لا يفرق بين إمكانية استيعاب العلوم الحديثة وتبني الفكر والمعجم السياسي الحديثين في مقاومة المنظومة الاستعمارية، وهو المسار الذي مضت فيه الحركات الوطنية في البلاد ذات الأغلبية المسلمة ومنها مصر التي كانت حاضرة بقوة في ذهنه وقت كتابة "الخاطرات"، وبين التماهي مع نمط الحياة الغربي والارتباط الاقتصادي والسياسي بحضوره الاستعماري، وهو ما سيدفعه لنتيجة حتمية: العودة إلى "المنبع" وهي حجر الأساس للأصولية المعاصرة التي أدانت مثله تماماً كل مظاهر الحياة الحديثة في المجتمعات الإسلامية، يقول الأفغاني:

إدانة الأفغاني لوجود النخبة الحديثة لا يقتصر على اغترابها الروحي عن المجتمع بل تمتد إلى الأثر السياسي

"اطلب أسباب نهوض الأول (نشأة الأمة الإسلامية) حتى تتبين مضارب الخلل وجراثيم العلل، فقد يكون ما جمع كلمتها وأنهض همم آحادها ولحمَ ما بين أفرادها وصعد بها إلى مكانة تشرف منها رؤوس الأمم وتسوسهم وهي في مقامها بدقيق حكمتها، إنما هو دينٌ قويم الأصول، محكم القواعد، شامل لأنواع الحُكم.. كافل لكل ما يحتاج إليه الإنسان من مباني الاجتماعات البشرية وحافظ وجودها، ويتأدى بمعتقديه إلى جميع فروع المدنية".
وليست فكرة "شمولية الإسلام" التي دعا إليها حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين إلا ثمرة هذه البذرة التي زرعها الأفغاني حين كان يروم وحدةً، صعبة المنال، تواجه الهجوم الاستعماري على البلاد الإسلامية.
ومع ذلك فهناك هوة لا يمكن عبورها إلا قفزاً بين وعي الأفغاني البراغماتي لـ"العودة" ووعي البنّا العقائدي لها؛ ويؤكد ذلك إشارته إلى أنّ الدين متأصل في نفوس أفراد المجتمعات الإسلامية "فلا يحتاج القائم بإحياء الأمة (كما يفعل هو) إلا إلى نفخة واحدة يسري نفسها في جميع الأرواح لأقرب وقت".

 

ومن ثم فقد كان الأفغاني يعمل وفق المعطيات الاجتماعية المتاحة لديه؛ فسبب هيمنة الدين على الوعي العام يمكن استغلال ذلك في عملية الإنهاض بدلاً من استلهام أيديولوجيات حديثة يطول زمن استنباتها في وعي الناس، أما البنا فلم يهدف إلى استغلال ما هو متاح لتحقيق هدف سياسي، كطرد الاستعمار مثلاً، بل رنا إلى صياغة مفهوم جديد كلياً للإسلام.
ولا يقتصر إلهام الأفغاني للبنا في مسألة فكرية كـ "شمولية الإسلام" بل تعداها إلى الأفق السياسي مثل قضية "القومية الإسلامية" التي طرحتها جريدة "العروة الوثقى"، وهي الفكرة القائمة على رفض الحدود الوطنية وافتراض وحدة روحية جامعة بين كل المسلمين، وكذلك إلى المستوى التنظيمي، وبشكل حرفي؛ فحين أطلق الأفغاني دعوته للرياح بإنشاء "جماعة" تحمل أفكاره وتعمل بها بين الناس، وحده البنا من التقط دعوته لإنشاء الجماعة إلى درجة أنّه ظل إلى لحظة اغتياله يعارض إطلاق صفة حزب سياسي على جماعته!
رمى الأفغاني من دعوته لإنشاء جماعة دينية أن يضع بذرة لحركة إصلاحية أراد لها أن تكون لوثرية تماماً (نسبة إلى مارتن لوثر مؤسس المذهب البروتستانتي) "ستكون مهتمة بقلع ما رسخ في عقول العوام وبعض الخواصّ من فهم بعض العقائد الدينية والنصوص الشرعية على غير وجهها"، وأعطى لجماعته المأمولة مهمات محددة تتلخص في "تهذيب علوم الدين وتنقيح المكتبة الإسلامية ووضع مصنفات فيها قريبة المأخذ سهلة الفهم لتحرير الأمة من أساليب التعليم الموروثة التي لا طائل من ورائها".
كانت أفكار الأفغاني مُصممة خصيصاً لأهداف استراتيجية محددة تدور حول كيفية النهوض بالأمة ومواجهة أوروبا الاستعمارية، وكل أفكاره المهادنة للوعي الديني والمحتفية به، كانت أدواته في سبيل تحقيق ذلك، أما البنا فقد كان يعد لمشروع أسلمة واسع النطاق يرمي لمحو آثار العلمانية المتفشية في الأوساط المتعلمة وانتشار مظاهر التحديث الغربي في مصر.
أراد الأفغاني استغلال الإيمان سياسياً، بينما وهب البنا حياته لخلق مجتمع قويم الإيمان تخرج من قلبه "الدولة الإسلامية".. أي ما كان وسيلة عند الأفغاني أصبح غاية عند البنا.
ليس دفاعاً عن الإسلام
ينتمي رد الأفغاني على رينان، السابق الإشارة إليه، إلى سياق تحويل الإسلام إلى حضارة وثقافة من قبل المؤسسة الاستشراقية التي اعتبرت أنّ العقيدة الإسلامية تتسع لتشمل التاريخ الإسلامي وشكل السلطة فيه، والنتاج الثقافي المتنوع للمسلمين، وأنماط المعيشة التي تبنوها، وصيغ الآداب العامة التي التزموا بها منذ القرن السابع الميلادي وحتى القرن التاسع عشر، وهي العملية التي يرصدها جوزيف مسعد في كتابه "الإسلام في الليبرالية" (2017).

لم يفصل الأفغاني بين إمكانية استيعاب العلوم الحديثة وتبني الفكر والمعجم السياسي الحديثين في مقاومة المنظومة الاستعمارية

كان رينان يختص الإسلام، الذي وضعه في سياق ساميّ قبل مسيحي، رغم تأخره عن المسيحية بسبعة قرون، بصفة العداء للعلم والفلسفة، هي الصفة التي سيلحقها بالعرب كشعب أيضاً، وحاجج بأنّ أيّ إنجاز عربي وإسلامي في هذين المجالين قد تمّ رغماً عن الإسلام وبواسطة الشعوب غير العربية التي غزاها الإسلام والعرب (دون التمكن من إخضاعها ثقافياً بشكل كامل)، وما أن استعاد العرب سيطرتهم واستعاد الإسلام عافيته حتى تم تقويض هذه الإنجازات، وظهرت الروح الحقيقية لكليهما وهي بالتحديد: "كراهية العلم"، كما يزعم.
في المقابل استدعت هذه التهمة العنصرية رداً من الأفغاني الذي كان يشارك رينان في العديد من استنتاجاته المتعلقة بالوضعية الراهنة للبدان الإسلامية (أواخر القرن التاسع عشر)، كما يشير جوزيف مسعد؛ حيث اعتبر الأفغاني "الدين الإسلامي من الأسباب التي جعلت الحضارة العربية منطفئة، والعالم العربي مطموراً في الظلمة الكالحة".
لكن الأفغاني الذي قبل باستنتاج رينان حول قمع الإسلام للعلم، سرعان ما عمّم التهمة لتشمل المسيحية أيضاً، مقارناً نصيب الإسلام المتواضع من قمع العلماء بالرصيد الزاخر للمسيحية، وبذلك قوّض صفة الاستثنائية التي ألحقها رينان للإسلام الذي اعتبره "نقيضاً تاماً للعقل الإنساني".
لم يكن الأفغاني مهتماً بالدفاع عن الإسلام، لكنه كان منخرطاً في تفنيد أسس النظرة العنصرية ضده، ونسف النظرية العرقية التي يرتكز عليها رينان في هجومه على العرق العربي، واستخدم في حجاجه هذا الدارونية الاجتماعية لشرح الأساس التطوري لكل المجتمعات؛ حيث يظهر الدين في مرحلتها البربرية كمرحلة انتقالية إلى الحضارة.
وعلى هذا الأساس، فإذا كان الإسلام قد أصبح عائقاً لتطور العلوم فإنّ هذه مرحلة ستختفي يوماً، كما اختفت في المسيحية: "بيد أنه لا يمكنني وأنا أدرك أن الدين المسيحي جاء إلى هذا العالم قبل الدين الإسلامي بعدة قرون، إلا مواصلة الأمل أن المجتمع المحمدي سينجح يوماً في كسر أصفاده ويخطو بثقة إلى درب الحضارة على طريقة المجتمع الأوروبي".
يفتقد مقال الأفغاني الذي جادل فيه رينان، والمكتوب إذن في سياق سجالي، للطابع الفلسفي الذي عليه رسائله التي كتبها في ظروف سياسية هادئة نسبياً، إلا أنّ أفكار الأفغاني في مجملها لم تكن، كما يذهب فهمي جدعان في كتابه "مفهوم التقدم عند مفكري الإسلام" نتيجة تأمل منظم منطقي في واقع الأحداث والأشياء، بل بنات ظروفها، تماماً كمواقف صاحبها، ويمكن اختصار جوهر اجتهاداته في مقولة رشيد رضا عنه: "كان غرضه ترقية دولة إسلامية، أيَّ دولة كانت، مصر أو إيران أو تركيا، فنشط فيها جميعاً وأثر بأحداثها جميعاً".


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية