جدل التنوع الديني في العراق

جدل التنوع الديني في العراق

جدل التنوع الديني في العراق


20/02/2024

يثير مصطلح الأقليات التباساً في المعنى والدلالة، مثلما يثير ردود فعل متباينة من خارج الأقلية وداخلها، إزاء موقعها القانوني والاجتماعي والثقافي والسياسي، لا سيّما بخصوص الحقوق والواجبات، وما يترتب عليها من مسؤوليات. وعلى الرغم من أنّ المصطلح  مستخدم من قبل الأمم المتحدة، خصوصاً بإعلان حقوق الأقليات، لكن ربما يكون الأصوب استخدام مصطلح "التنوع الثقافي" والتعددية الدينية أو الإثنية أو اللغوية وغيرها، فهو الأقرب إلى مبادئ المساواة والتكافؤ وعدم التمييز، بغضّ النظر عن حجم التكوينات وعددها، أقلية أو أكثرية، وذلك في إطار الحقوق المتساوية، لا سيّما حقوق المواطنة، بحسب توصيف عبد الحسين شعبان.

وسيكون هذا المنطلق مدخلاً لدراسة موضوع الأقليات، الذي سنستخدمه مجازاً بما يعني المجتمع المتعدد الثقافات، مثلما هو المجتمع العراقي المتنوع والمتعدد الثقافات والأديان، حيث سيكون التوصيف من زاوية الإقرار بالتنوع والتعددية الثقافية، وليس طبقاً للنظرة التي سادت في أعوام ما بعد الاحتلال المتعلقة بنظام المحاصصة الطائفية-الإثنية.

 بما أنّ استخدام مفهوم "الأقلية" و"الأكثرية" يحمل في ثناياه معنى التسيّد من جهة،  والخضوع أو الاستتباع من جهة أخرى، أي اللّامساواة، فإنّ ذلك سيكون انتقاصاً من دين أو قومية أو لغة أو غيرها من المكوّنات بزعم كونها أقلية؛ فضلاً عن تعارضه مع مبدأ التكافؤ والمساواة في الحقوق، فحق المسلم مثل حق المسيحي وغيره من أبناء الأديان الأخرى.

وإذا كانت بعض الأطراف القوية والقريبة من السلطة لديها ميليشيات، فالأقليات لا تملك سوى وجودها الإنساني والحضاري، ولم تكن في يوم من الأيام حاكمة أو قريبة من السلطة كما لم يكن لديها ميليشيات، لا في السابق ولا في الحاضر، بل إنّها فئات وتكوينات مسالمة وتحاول قدر الإمكان أن تتجنب أيّ اصطدام أو أعمال عنف، لأنّها ستكون الخاسرة بلا أدنى شك والضحية باستمرار.

تعدد المكونات الدينية في العراق

إذا كان المجتمع العراقي يتكون من العرب والكرد والتركمان والكلدان والآشوريين والشبك وغيرهم كتكوينات قومية وإثنية، فإنّه في الوقت نفسه يتألف من المسلمين والمسيحيين والصابئة "المندائيين" والإيزيديين واليهود كأديان تاريخية. يضاف إليها الكاكئيون وغيرهم. وتنقسم الديانة الإسلامية والمسيحية إلى طوائف في العراق، حيث يتوزّع المسلمون على طائفتين كبيرتين هما: السنّة والشيعة، ويتألف المسيحيون من الكاثوليك والروم والسريان الأرثوذكس والبروتستانت والأرمن. وتتنوّع اللغات بين العربية التي يتحدث بها سكان العراق بشكل عام إلى الكردية والتركمانية والسريانية والأرمنية وغيرها، وأحياناً تتعايش الإثنيات والسلالات والأديان والطوائف واللغات في أمكنة واحدة متداخلة ومتجاورة ومنسجمة، ولا سيّما في المدن الكبرى مثل بغداد وأحيائها الكثيرة التداخل والاختلاط، والبصرة والموصل وكركوك وغيرها، وتلك إحدى سمات الدولة العراقية مجتمعياً.

يثير مصطلح الأقليات التباساً في المعنى والدلالة، مثلما يثير ردود فعل متباينة من خارج الأقلية وداخلها، إزاء موقعها القانوني والاجتماعي والثقافي والسياسي

ولا شك أنّ مسألة التنوع الثقافي، التي وجدت لها أرضاً خصبة لدى أطراف سياسية يسارية وديمقراطية، وخصوصاً بالنسبة إلى الكرد، انعكست في الدساتير العراقية بعد ثورة 14 تموز (يوليو) لعام 1958 وفي دستور عام 1970، وإن كان الأمر ظل دون حلول عملية باستمرار القمع والاضطهاد، ولكنّ مسألة المساواة وعدم التمييز ظلّت إشكالية بالنسبة إلى الأديان الأخرى، انتعشت في الثمانينات، وعشية انهيار النظام الدولي القديم القائم على القطبية الثنائية وانتهاء عهد الحرب الباردة وتحوّل الصراع الإيديولوجي من شكل إلى آخر، الأمر الذي عزّز الشعور بضرورة انبعاث وتعزيز الهوّيات الفرعية وإيجاد حلول عقلانية وعملية لمشكلة الأقليّات، سواء كانت قومية أو دينية أو غيرها.

انزلاق العراق إلى العنف الديني، وبحسب شعبان أيضاً، جاء بدوافع مختلفة؛ فبعد أن كان العنف في العراق مقتصراً على الدولة ضدّ معارضتها أو مقاومة هذه المعارضة بالعنف ضد السلطة، لكنّه خرج عن هذا السياق، وانحدر إلى مستويات غير مسبوقة، حيث أصبح يمارس باسم فئات أو طوائف لأسباب أحياناً يعجز الإنسان عن إدراك دوافعها الحقيقية، إذا استثنينا محاولة الهيمنة وإملاء الإرادة.

وهناك رأي يقول: إنّ الأكثرية هي التي تصنع الأقلية، إمّا بمنحها الامتيازات، وإمّا بحرمانها من الحقوق، وللمنح أو الحرمان أثر واحد في النهاية. وبالتالي فقد كان هناك طرف قوي أو أطراف قوية وأخرى ضعيفة، وأصبحت هذه الأخيرة مهددة في وجودها واستمرارها بعدما تعرضت له من استهدافات وانتهاكات، ولم يبقَ أمام الكثيرين من أفرادها سوى الهجرة في الغالب.

الصابئة كنموذج لدراسة أحوال الأقليات في العراق

 كانت الطوائف والأقليات الصغيرة في العراق بمثابة الضحايا الصامتين لعنف متعدد الأشكال، ابتداء من فتاوى بعض رجال الدين من السنّة والشيعة بتكفير هذه الفئات واستباحة دمهم، إلى فتاوى التخيير بين دفع الجزية أو التحول عن دينهم، إلى فتاوى التهجير. وتمرّ الجرائم التي ترتكب بحق هذه الأقليات بصمت مطبق، فلا قنوات فضائية تزعق وتهيج، ولا ميليشيات تحرسها وتدافع عنها، ولا دول ولا منظمات ولا أحزاب تحميها من القتل والتهجير. وهو ما استعرضه مصطفى حمو  في تناوله لتاريخ الصابئة في العراق.

ونموذج مثل الصابئة أصبح هدفاً سهلاً للإرهاب، وأصبحوا ضحايا جاهزين لفرض نمط سياسي وديني معيّن، في إطار صراع أصولي-طائفي، وغالباً ما يتم التشكيك بأصولهم ووطنيتهم وولائهم، وينسى هؤلاء أنّ صابئي الشرق هم أهل الشرق، وأنّ تلك الديانات كانت موجودة في المنطقة قبل الإسلام، وأنّ الصابئي شرقي بتراثه وليس غربياً، فليسوا طارئين أو مهاجرين جاؤوا ليستقروا في هذه البلدان. إنّهم ليسوا رعايا، بل هم مواطنون لهم الحقوق وعليهم الواجبات. فالديانة المندائية هي من أقدم الديانات التوحيدية الحية التي نشأت في بلاد الرافدين، ومحصورة بهذه الطائفة التي تنتشر في العراق وخاصة في منطقة الأهوار جنوب العراق، وإقليم الأهواز الذي تسيطر عليه إيران.

ويؤمن الصائبة بوحدانية الله، ويُسمّى "الحيّ العظيم" في كتابهم المقدّس "كنزا ربا"، والذي يعني الكنز العظيم ومكتوب باللغة الآرامية الشرقية، وينظرون إلى يوحنا المعمدان أو النبي يحيى بن زكريا باعتباره أهم أنبيائهم. وتشمل أركان ديانتهم الصلاة (3) مرات يومياً باتجاه الشمال والصوم والصدقة وتحرم الكفر والقتل والزنى والسرقة والكذب وشهادة الزور وخيانة الأمانة والشعوذة والسحر والربا والختان وشرب الخمر والطلاق.

إنّ الأكثرية هي التي تصنع الأقلية، إمّا بمنحها الامتيازات، وإمّا بحرمانها من الحقوق، وللمنح أو الحرمان أثر واحد في النهاية

يمتهن أغلب الصابئة المهن اليدوية، وكانوا عماد صناعة الأدوات الزراعية في جنوب العراق، كما أنّ للعديد من أبناء هذه الطائفة أيادي بيضاء في مجال العلم والتربية في العراق. وتحول أغلبهم خلال العقود الأخيرة إلى صياغة الذهب والفضة، وهم بارعون في هذه المهنة، وحملوها معهم أينما حلوا. لكنّ كل هذا لم يشفع لهم أمام حملات التهجير والخطف والقتل من قبل عصابات الجريمة والميليشيات التي ترتدي لبوس الدين.

تعرّض الصابئة المندائيون، وخاصة الطلاب في المدارس، إلى بعض التهميش والتمييز العنصري بسبب حفاظهم على ديانتهم، حيث كانوا يميزون بالإشارة إليهم على أنّهم كفار؛ وهذا ما جعل العديد من الطلاب المندائيين يجبرون أهلهم على مغادرة البلاد، وهذا ما لا يرغب به أيّ صابئي مندائي، لأنّه حسب اعتقادهم ومسيرة أجدادهم فإنّ هذا البلد هو بلدهم منذ أزمان قديمة. تقول (أ) وهي طالبة في مرحلة الإعدادية: إنّ زميلاتها في المدرسة لا يختلطن بها لأنّها ليست مسلمة!"  وتضيف: "المشكلة ليست فقط في الطالبات، بل إنّ بعض المدرسين والمدرسات بسبب عدم فهمهم ومعرفتهم بالصابئة لا يتحدثون معها، ولا يفسحون المجال لها للمشاركة في المدرسة". 

وهناك أمثلة عديدة على استهداف الصابئة، فالمعبد الوحيد لهم في البصرة تم تدميره من قبل ميليشيات شيعية في أواسط العام 2006، وطلب من أبناء الصابئة اعتناق الإسلام أو دفع الجزية أو مغادرة البصرة، وقد غادر معظم الصابئة المدينة بعد حوادث قتل عديدة. وفي مدينة الفلوجة، حسب تقرير نشرته إذاعة لندن BBC ، فقد دوهمت منازل نحو (35) عائلة من الصابئة عاشت في المدينة منذ قرون واقتيد الرجال إلى إحدى الساحات العامة وتم إجبارهم على اعتناق الإسلام، وقيل إنّه تم ختان الرجال بناء على تعليمات من تنظيم (القاعدة). أمّا من رفض ذلك، فقد تم نحره، وذكرت منظمة مندائية أنّه تم تزويج بعض النساء المندائيات بالقوة إلى مسلمين، ممّا أدى إلى اضطرار غالبيتهم العظمى للهجرة إلى خارج العراق؛ بسبب تعرضهم للقتل والتهجير والخطف في مختلف أرجاء العراق. 

هناك رأي يقول: قبل الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 كان عدد الصابئة في العراق يُقدّر بحوالي (70) ألفاً، أمّا الآن، فأفضل التقديرات تشير إلى أنّ عددهم تراجع إلى أقلّ من (10) آلاف. وتقول منظمة الأمم المتحدة المعنية باللاجئين: "إنّ المندائيين الذين لا يحملون السلاح والذين يحرم عليهم القتل، ولا توجد لديهم مؤسسات تدافع عنهم هم أسهل وأول أهداف العنف". 

وإذا استمرت الأوضاع الراهنة، فإنّه يُخشى أن يأتي يوم يقول فيه أبناء العراق والعالم: هنا كان يعيش الإيزيديون، وهناك كان يعيش الصابئة، أقدم شعوب العراق، وهذه هي آثارهم، وفي هذا الحي كان يعيش الغجر أو الشبك او الأرمن، ويكون مصيرهم مثل يهود العراق، الذين أصبحوا أثراً بعد عين في العراق الآن.

الإسلام وإرساء مبادئ التعددية

إنّ الإقرار بالتنوع الثقافي والديني والإثني هو إقرار بواقع أليم، فقد كان ثمن التنكر باهظاً وساهم في تفكيك الوحدة الوطنية وهدّد الأمن الوطني واستخدمته القوى الخارجية وسيلة للتدخل وفي هدر الأموال وفي الحروب والنزاعات الأهلية، بدلاً من توظيفه بالاتجاه الصحيح، باعتباره مصدراً غنيّاً وتفاعلاً حضارياً وتواصلاً إنسانياً، وقبل كل شيء باعتباره حقاً إنسانياً غير قابل للتنازل أو الافتئات.

قبل الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 كان عدد الصابئة في العراق يُقدّر بحوالي (70) ألفاً، أمّا الآن، فأفضل التقديرات تشير إلى أنّ عددهم تراجع إلى أقلّ من (10) آلاف

وقد ساهم الإسلام برافده الثقافي في تعميق توجّه البشرية الحضاري باتجاه احترام التنوع والتعددية والخصوصية الثقافية والدينية، ولعلّ "حلف الفضول" الذي أبرم في عهد الجاهلية في دار (عبد الله بن جدعان) حين تعاهد فضلاء مكة على ألّا يدعوا مظلوماً من أهلها أو ممّن دخلها من سائر الناس إلّا ونصروه على ظالمه، لعلّ ذلك خير دليل على العمق الحضاري العربي، حيث أبقى عليه الرسول، وفيما بعد عكست تعاليم الإسلام والقرآن الكريم النزعة الإنسانية المتأصلة. وهناك من اعتبر "حلف الفضول" أول رابطة لحقوق الإنسان في العالم، إلّا أنّ الجماعات الإرهابية لم تُعطِ نفسها حق تمثيل العدالة حسب، بل عملت على استخدام السلاح وأصدرت أحكاماً خارج القضاء، ونفذتها باسم الله، لدرجة أنّ الذبح أصبح على الهوّية في بلد عرف التسامح والتعايش الديني والقومي مثل العراق، على الرغم من استمرار مشكلة الأقليات، وهكذا سعت المجموعات الإرهابية والميليشيات، لتكون هي جهة التشريع والقضاء والتنفيذ في آنٍ واحد، دون أيّ قوانين أو مؤسسات شرعية أو رسمية ومعلنة، بل كان كلّ شيء يتم في الخفاء وفي ظروف بالغة السرّية.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية