لماذا يتعثر الإصلاح التربوي؟ وما الأوهام الأساسية في عملية الإصلاح؟ سنقدم الإجابة عن هذين السؤالين من خلال تحليل أداء الدول المختلفة على الاختبار الدولي المعروف باسم "بيسا" Pissa، والذي يعد حافزاً للدول وأنظمتها التعليمية على إحداث الإصلاحات التربوية.
التأمل والبحث والتجريب والاكتشاف والتحليل والإبداع من أدوات التعلم ولا يجوز اعتبار أحد متعلماً إذا لم يمتلك تلك المهارات
يقدم اختبار "بيسا" كل ثلاثة أعوام، بهدف قياس قدرة طلبة الصف الثامن في القراءة والعلوم والرياضيات؛ حيث قدمت النسخة الأولى من هذا الاختبار عام 2000. وكانت آخر نسخة منه عام 2015؛ إذ شارك فيها 12 مليون طالب من 75 دولة.
كشفت نتائج اختبارات "بيسا" عن أوهام وخرافات تربوية عديدة، طالما آمن بها الباحثون والمفكرون التربويون في
العالم، تم تصنيفها كالآتي: خرافات في مجال المناهج المدرسية، وخرافات في مجال المعلمين، وخرافات في مجال تنظيم التعليم، وفيما يأتي تحليل لهذه الخرافات.
خرافات المناهج الدراسية
شاع عبر تاريخ التربية أنّ التعليم ومناهجه مسؤول عن نقل التراث الثقافي والاجتماعي إلى الأجيال والحفاظ عليه، فمنذ أيام كونفوشيوس أُثيرت أسئلة مثل: هل التعليم يُعنى بإعداد الطلبة لمستقبلهم أم لماضينا؟ وهل سيبقى ما نتعلمه في المدرسة معنا طوال حياتنا؟ وهل محتوى المناهج هو الأساس أم مهارات التعلم المستمر؟
زيادة وقت التعلّم لا تؤدي إلى تحسينه؛ فإطالة اليوم الدراسي قد يؤدي إلى انخفاض مستوى تحصيل الطلبة
إنّ الشائع حديثاً أنّ استمرار التعلّم يعني: الحصول على التعلّم، ثم نسخه ومحوه، ثم إعادة التعلّم وتطوير ما تعلّمناه.
نحن بحاجة إلى أدوات التعلّم وهي: التأمل والبحث والتجريب والاكتشاف والتحليل والإبداع، فلا يجوز أن يُعتبر أحد متعلماً إذا كان لا يمتلك هذه المهارات إلى جانب مهارات التنبؤ بالمستقبل!
إنّ مشكلة التراث في ثباته ومشكلة الحياة في تغيّرها السريع، فلم تعد هناك وظائف دائمة أو ثابتة، ولذلك على النظام التعليمي أن يُعدّ الطلبة لوظائف لم تُخلق بعد، وحياة لم تتحدد تفاصيلها بعد.
اقرأ أيضاً: المدرسة والبيت: علاقات جدلية.. فكيف نحقق المعادلة الصعبة؟
ومن الأوهام المنهاجية أيضاً، أنّ مزيداً من المواد الدراسية يُحدث مزيداً من التعلّم، وهذا يعني أنّ لكل مادة دراسية قيمة ذاتية مرتبطة بها، علماً بأنّ أي برنامج نشاط فني أو غنائي أو رياضي يمكن أن يحقق أهدافاً كبرى مثل التسامح والمحبة واحترام الآخر والمسؤولية والمشاركة والدقة وغيرها، بينما تعجز كثير من المواد الدراسية عن تحقيق ذلك.
وتزداد التعقيدات أكثر، حين يزداد حجم المواد الدراسية في برنامج الطالب اليومي، فمن حيث المبدأ يمكن إضافة أي مواد دراسية جديدة مكتشفة حديثاً، لكن قد يستحيل حذف مادة دراسية موجودة!
ففي البلاد العربية، قد يتسبب تقليل حصص مادة اللغة العربية أو التاريخ أو التربية الإسلامية في إحداث ثورة مجتمعية. ولذلك تتحايل المناهج على إدماج المفاهيم الجديدة عبر المواد القائمة، دون تخصيص مادة مستقلة بذلك.
اقرأ أيضاً: أسس بناء المقررات الدراسية.. كيف نصنع منهاجاً؟
وقد كشفت نتائج "بيسا" أنّ زيادة وقت التعلم لا تؤدي إلى تحسين تعلّم الطلبة، وعلى العكس تماماً فإنّ إطالة اليوم الدراسي قد يؤدي إلى انخفاض مستوى تحصيل الطلبة، فالدول التي ازداد فيها اليوم الدراسي، كان أداؤها أقل من غيرها، وكذلك الواجبات الدراسية البيتية الطويلة لن تؤدي إلى تحسين التعلم أو التحصيل.
ترتبط المسألة بجودة التدريس بالدرجة الأولى، وليس بطول اليوم الدراسي، وحين تزداد جودة التدريس، فلا داعي لإطالة اليوم الدراسي، المهم هو الاستخدام الفعال للوقت المدرسي، وهكذا فإنّ المناهج ليست فعالة، إلّا إذا قدمت وفق قواعد جودة التدريس.
خرافات متعلقة بالمعلمين
يتفق الجميع أنّ المعلمين هم سقف أي إصلاح تربوي، فلا يجوز أن يكون الإصلاح مما لا يفهمه المعلمون أو لا يشاركون به أو لا يستطيعون تنفيذه. لذا فهم قادرون على تدمير أي إصلاح، ما لم يكونوا بمستواه.
ومن الخرافات والأوهام التي سادت أوساط التربويين في الأنظمة المختلفة ما يأتي: يجب جذب أفضل العناصر للعمل كمعلمين، فلا يجوز أن يذهب المتفوقون إلى العمل في مجالات حيوية بعيداً عن التدريس، في حين يكشف اختبار "بيسا" أنّ المعلمين في النظم التعلمية المتميزة، لم يكونوا أفضل الخريجين، إنما هم أشخاص عاديون وبمستوى عادي، فهم ليسوا أعلى ولا أدنى من الخريج العادي، صحيح أنّ أداء الطلبة يرتبط بمهارات المعلمين، ولكنه لا يعتمد عليها بالضرورة.
تأتي كفاءة المعلمين في أستراليا وكوريا الجنوبية بدرجة متوسطة، إلّا أنّ طلاب أستراليا وكوريا كانوا من الطلبة الأكثر تميزاً في اختبار "بيسا".
وتشير نتائج الاختبار أيضاً إلى أنّ المعلمين لم يكونوا من الثلث الأعلى للخريجين ولا من الثلث الأدنى، بل كانوا خريجين عاديين يحملون شهادة معينة عادية، باستثناء اليابان وفنلندا فلا يوجد معلمون من أفضل خريجي الجامعة، بينما معلمو ايطاليا وروسيا واسبانيا وبولندا وأمريكا فكانوا من ذوي المهارات العددية الدنيا للخريجين.
اقرأ أيضاً: منهاج عربي: هل هذا ممكن؟
من المؤكد أنّ مهارات المعلمين مهمة، ولكن أداء الطلبة لا يتوقف على ذلك، فهناك قضايا أخرى مهمة، مثل استقلالية المعلم وتأهيله وحوافزه واعتزازه بالانتساب إلى مهنة التعليم.
خرافات تتعلق بمجال تنظيم التعليم
تنتشر الخرافات كثيراً في هذا المجال، مثل:
- التعليم الجيد هو تعليم مكلف، وزيادة الإنفاق هي زيادة التحسين.
- كلما صغر حجم الفصل تحسنت نتائج الطلبة.
- يجب قبول الطلبة في أنواع التعليم حسب قدراتهم.
اقرأ أيضاً: نحو منهاج يُخرج تعليم اللغة العربية من جمود التقليد
فبالإضافة إلى زيادة وقت التعليم الذي ناقشناه آنفاً، فإنّ الأوهام المتعلقة بالإنفاق لم تعد مقنعة. فهناك دول عديدة زادت إنفاقها على التعليم بنسبة 20%، ولم تكن هذه الزيادات مصحوبة بتحسين في التعلم.
وقد أوضحت نتائج "بيسا" أنّ هنغاريا التي تنفق على طلابها 47 ألف دولار حتى الصف الثامن، تساوت في تحصيل طلابها مع لوكسمبورغ التي تنفق 87 ألف دولار على طلابها.
وهكذا فإنّ مقولة أنفق أكثر، تعلّم أفضل لم تعد صحيحة. فالإنفاق السليم أو ترشيد الإنفاق ووضع الأولويات، أكثر أهمية من زيادة الإنفاق. والمهم كيف ننفق المال، وليس كم ننفق من المال.
أما الخرافة الثانية فتتعلق بحجم الفصل الدراسي، حيث شاع أنّ تقليل حجم الفصل كفيل بتحسين تعلم الطلبة.
إنّ مقولة أنفق أكثر تعلّم أفضل لم تعد صحيحة؛ فالإنفاق السليم أو الترشيد ووضع الأولويات أهم من زيادة الإنفاق
إنّ من المنطقي أن يقال، إنّ تقليل حجم الفصل يعود إلى تناقضات عديدة، مثل: زيادة الإنفاق، صعوبة توفير معلمين جيدين، وإشراف جيد ورقابة جيدة لصفوف عديدة قليلة الحجم. ومن الإنصاف أن نقول إذا توافرت كل هذه العوامل، فإنّ تقليل حجم الفصل يؤدي إلى تحسين النتائج. ولكن علينا أن نراعي أنّ الفصول الكبيرة تسمح بزيادة رواتب المعلمين، بينما لا تسمح الفصول الصغيرة بزيادة هذه الرواتب. وهذا ما حدث فعلاً، فتناقص حجم الفصل أتى مصحوباً بتناقض رواتب المعلمين في دول عديدة.
إذن، إذا كان علينا الاختيار بين صف حجم صغير، أو صف بمعلم جيد، فإننا نختار المعلم الجيد؛ فالدعوة إلى صفوف صغيرة هي دعوة شعبوية لا أكثر.
والخرافة الثالثة هي قبول الطلبة في أنواع التعليم حسب قدراتهم. وهذا يثير سؤالاً مهماً، هل يعتمد إنجاز الطالب على ما ورثه من قدرات، أم على ما يبذله من جهد فقط؟
فالطلبة في سنغافورة واليابان مقتنعون بالمسلّمة الآتية: يتوقف نجاحك على ما تبذله من جهد فقط؛ فالنجاح هو نتاج العمل الجاد وليس القدرات الموروثة.
اقرأ أيضاً: كيف نصنع نظاماً تربوياً يبني شخصية المتعلّم العربي؟
هناك أنظمة تعليمية تسعى لتزويد طلابها بفرص الرعاية الكاملة وإِشباع حاجاتهم؛ فالإنصاف والعدالة أكثر أهمية من الاختيار الطبيعي، كما تشير بحوث إلى أنّ توزيع الطلبة في مسارات حسب قدراتهم لم يفض إلى نتائج أفضل.
والتصنيف المطلوب هو تصنيف الطلبة داخل فصولهم وحسب قدراتهم في كل مقرر، وليس إقصاءهم من الصف في مسار بعيد لا يريدونه.
هذه بعض الأوهام التي كشفت عنها نتائج تحليل اختبار "بيسا"، أما مزايا النظم التعليمية المتفوقة ستكون موضوع المقال القادم.